كوير سوري في نويكولن البرلينيّة

ذكر، أنثى، وما بينهما


في رحلته المستمرة، يحكي لنا عمر في هذا النص عن رحلاته المتعدّدة، على مستوى الجسد والفكر واكتشافه لهويته الجنسيّة التي لم يكن يعرف عنها أيّ شيء في سوريا، إذ احتاج لثورات ورحلات كثيرة لا يزال يخوض غمارها ليفهم أناه وذاته و"هم" الذي هو عليه اليوم، بعيدًا عن سجون الاستبداد والذكوريّة والعائلة.

25 آذار 2022

سعاد عباس

كاتبة وصحافية سورية، إجازة في الهندسة المدنية، إجازة في القانون الدولي، رئيسة تحرير جريدة أبواب سابقًا، تعمل صحفية في عدد من المواقع والصحف العربية

(تم دعم نشر هذه المادة بمنحة من برنامج NewsSpectrum Fellowship Programme وهي تنشر على موقع وصحيفة taz باللغة الألمانيّة وعلى موقع حكاية ما انحكت باللغتين العربيّة والإنكليزيّة)

أشرتُ إليه على الفور حين رأيته يعبر مدخل الحديقة إلى مقعدي، كان محقًا فقد عرفته على الفور، جينز واسع قصيرٌ يرتفع عن الكاحل بقليل، كنزة خضراء واسعة الياقة، لفتتني الجوارب الحمراء فاقعة اللون، ولأنّني كنت قد توّقفت منذ فترة عن استغراب الأزياء الحديثة التي تلائم أي جنس، لم يفاجئني عمر، بل وجدته أنيقًا مُشعًا بالحيويّة، لكنني استغربت الكحل في عينيه. بدوت قصيرةً باهتة اللون حين سرنا متجاورين في شوارع نويكولن نحو مسكنه.

"أشعر بالامتنان لطولي وقوامي الكفيلين، رغم مكياجي، بردع أيٍّ كان عن استضعافي والتنمر عليّ، بالطبع كان هذا الحي كالجحيم في الأسابيع الأولى لانتقالي إليه، بسبب التحرّش والمضايقات، لكنني كنت متعبًا/ة وضعفي/ة حينها، وكان ذلك بمثابة دعوةٍ للهجوم".

الإيجابي في قسوة تلك الأسابيع، بدلًا من أن يحاول حماية نفسه بالعيش في حيٍّ "أبيض" أكثر أمانًا بالنسبة لكويريته، واجه "عمر" (اسم مستعار/ 31 سنة) جذوره وكأنّه عاد فجأةً إلى حارته الضيقة، ورأى بوضوح كيف يستفز شكله بعض الذكور السوريين على الأخص، وهو يعتقد أنّ الانتماء المشترك يمنحهم حقًا بالوصاية واضطرارًا لفرض القوة، لكنهم شمّوا رائحة قوته فتنحوا. 

التقيت أنا وعمر في المنفى، في برلين، اكتشفنا أنّنا ننحدر من نفس المدينة في سوريا، ورغم أنّ المسافة بين حيينا لم تكن تتجاوز مسيرة نصف ساعة بالسيارة إلّا أنّنا نبدو من عالمين مختلفين تمامًا. عمر المصوّر الكوير، والذي تيّقن من اختلاف هويته الجنسيّة، فقط في ألمانيا، كانت رحلته أكثر من مجرّد خروج، لقد كان بحثًا مؤلمًا، وفقدانًا للوطن واليقين، وعمل تحرريٌّ عنيف، ظهر منه شيء جديد في النهاية. لكن بأي ثمن؟ ماذا يعني أن يتم اقتلاع شخص يشعر بعدم الراحة وعدم الأمان في جلده وفي جنسه، من مجتمع شكّلته الأفكار السلطويّة الأبويّة؟ هل يعود إلى القيم الدينيّة أو الثقافيّة التي أثبتت هشاشتها أم يلقي بنفسه في المجتمع الجديد الذي قد لا يعترف به على الإطلاق؟ ما هي المخاطر والفرص التي يقدّمها المنفى لعمر، وما الذي يخسره في هذه العملية، وما الذي يجنيه في المقابل؟

تمثّل تجارب عمر معظم أولئك الذين لم يختبروا/ن الحرب والاضطهاد السياسي فحسب، بل تعرّضوا/ن أيضًا للتمييز لأنّهم/ن ينتمون/ن إلى مجتمع الميم-عين، والذين/ اللواتي غادروا/ن أوطانهم/ن. ولكن ماذا يعني لشخص "كوير" إذا ابتعد عن القيم والمعايير الخاصة بمكان الميلاد المعني وانغمس في العالم الليبرالي المفترض لمدينة أوروبيّة؟ ماذا يخسر الشخص المختلف بميوله الجنسيّة أو نوعه الاجتماعي وما الذي يربحه؟

مقدمة الملف: الكويرية والثورة: نحو أرشيف سوري بديل (الجزء الأول)

29 أيلول 2020
كيف ستبدو ذاكرة سوريا البديلة إذا ما أخدت على محمل الجد تجارب وقصص و آراء وتحليلات ومقاربات أفراد مجتمع الميم – عين في سوريا وفي الشتات؟ كيف لنا أن نقارب...

ذكر، أنثى وما بينهما

أثناء نشأته في سوريا، لم يكن لدى عمر أيّ فهم للجندر، أو أنّ هناك شيءٌ آخر غير الذكر والأنثى. ما كان يتخيّل أنّه مختلف أو أنّه يندرج بهويته الجندريّة أو الجنسيّة تحت تصنيفٍ آخر، لكنه أدرك منذ تلك الفترة أنّ محاولاته البائسة للتوافق مع متطلبات مجتمعه كذكر كانت مجرّد تمثيلٍ فاشل.

"بدأت القصة عام 2019 مع غريتا إحدى أقرب أصدقائي، قبلها كنت أكره جسمي وعضوي وأتلبّك كلما قرIب السكس وfشعر بالفشل، لحتى صار السكس اللي ما بينتسى، بدون إيلاج، سكس بدون سكس. كانت أول مرّة بحس إني إنسان، وأول مرة ما بحس إني ذكر، وهي حسّت نفس الإحساس، إدراكها لنفسها إنّها مو أنثى. كانت مثلي تكره الدور الاجتماعي الموّجهة الأنظار له. ومن هذا الإحساس بلشنا نحكي، وبدأت أتعلم أكثر عن النسوية بالموجة الجديدة وعن الكوير فيمينسم والمصطلحات الجندريّة والجنسانيّة، وتصنيفات الطيف الجنساني حتى عرفت مثلًا إنّه هويتي الجنسية هي ديمي سيكشوال بمعنى إنّه لا أشعر بانجذابٍ جسديٍ تجاه أي شخص إذا ما حسيت بعاطفةٍ تجاهه، أمّا هويتي الجندرية فهي شيء تاني".

أدرك عمر أخيرًا أنه nonbinary، إدراكه لنفسه يتراوح ما بين الذكورة والأنوثة، لكنه أميل في أدائه ومشاعره وحتى رغباته للأنوثة غالبًا، بغض النظر عن وجود العضو الذكري. لهذا رفعَ عمر كلّ الحدود ليتمكن وتتمكن من فهم جندره وصار يتوجه وتتوّجه أكثر للأنثى بداخله ويعطيها وتعطيها الحريّة. ولأنّ اللغة مازالت تتطوّر لمراعاة النوع الاجتماعي، يفضل عمر الإشارة إليه باسمه فقط أو بالضمير المحايد جندريًا "هم" (They بالإنجليزيّة).

في برلين تعرّف عمر على مجتمع الكوير فيمينيست، تخلّصَ من التناقض ما بين جسده الذي يحاصره وبين إدراكه لذاته، ومن الضغط الذي كان يعيشه قبل ممارسة الجنس خوفًا من توقعات الذكورة، وحين قارب الثلاثين مارس للمرة الأولى الجنس الذي يريحه أو يسعده فعلًا "فيم سيكس" أو جنس أنثوي، هكذا وصفته شريكته غريتا، وفهم أنّه ينجذب لأولئك الذين يشعّون بالأنوثة مهما كان شكل الجسد الذي يحتويهم.

صبي الانتظار الطويل

فعليًا، بدأت قصة عمر في "حمص" عام 1981، قبل ولادته الفعليّة بتسع سنوات. يومها كانت والدته قد دفنت للتو بكرها، وقبل أن يتمّ العام الأول من العمر كان قد مات، مات وهو نائم، عمّ الحداد البيت الكبير الذي يسكن والدا عمر الطابق الأول منه، بينما يسكن جداه لأبيه في طابقه الأرضي.

والد عمر كان وحيدًا لأبويه وعليه تتوقف مسؤوليّة استمرار اسم العائلة، والأم الثكلى بحاجةٍ صبي يكون ضامنًا للمستقبل وقادرًا على حماية بناتها ورعايتها وزوجها في كبرهما. أنجبت الأم ابنتين، لكنّ ترّقب العائلة استمر حتى عام 1990 حين أنجبت أخيرًا البديل، صبيٌ اسمه عمر، وخشية أن يموت في غفوتهما كان الوالدان يتناوبان الليل في تفقده حتى بلغ السادسة.

كانت الحياة في حمص عمومًا هادئة، لا مدىً فيها يتسّع للأسئلة الكبيرة، تتيح الأحياء الصغيرة حيث الجميع يعرف الجميع، نوعًا من الأمان وقليلًا من الخصوصيّة، تتشابه الوجوه والتوّقعات كما المصائر غالبًا. وبمقدار ما تمنح الحياة في حارةٍ شديدة التزّمت للذكر مكانةً أعلى بكثير مما للأنثى، فإنّها في المقابل تجعل الذكور مضغوطين ومقولبين ومطالبين بأن يُعيلوا عائلاتهم ويحموا نساءهم، وأن يكونوا أقوياء لينجوا ولكن برؤوس مطأطأةٍ للأقوى، ومتدينين بحرصٍ يدرأ عنهم شبهة "الإخونجيّة".

نشأ عمر لطيفًا ومسالمًا جميل المظهر، ممّا جعله وجبةً سهلةً للمتنمرين والمتحرّشين، رغم أنّه كان حذرًا جدًا في عدم لفت الانتباه. كبُرَ وهو يكره جسده، يخشى وتخشى الفتية المنتصبين بفحولة على ناصية الحيّ لمعاكسة الفتيات أو حتى الفتيان الأقلّ ذكورة من معاييرهم، يُغضبه أقرباؤه الذين يستفزونه بسخريّة ليصبح رجلًا ويتصدّى للمتنمرين، ويشفق على أبويه الذين ستدمرهما معرفة أنّ طفلهما المنتظر لم يكبر ليصبح الرجل المنتظر.

"أتذكر الآن أوّل مرة جربت فيها أن أتحوّل إلى فتاة، كنت في العاشرة على ما أعتقد، أنظر إلى جسدي في المرآة، أمسك عضوي وأشدّه أسفل للخلف وأغلق عليه فخذي، فيبدو وكأنّ لي «كس»، وحين لا يكون في المنزل أحد، أرتدي ملابس أختي فأشعر بالسلام".

الصورة من تصميم "ورد زارع"

العار

"لاشيء.. لا شيء في مراهقتي كان صحيحًا، كنتُ محاطًا بطبقاتٍ من الحب والتجاهل والترهيب في نفس الوقت، أشاهد جسدي ينمو ويتغيّر دون أن أفهم ما كان يحدث لي. لم يتعلّق الأمر بالجنس فحسب، بل بكلّ ما كان يدور في ذهني وروحي من تساؤلات. أعرف الآن أنّ شخصيتي لم تكن يومًا من النوع الذي يلجأ للإنكار أو للخيار الأسهل لتخفيف مشقة الحياة والكِبَر، بل مازلت أبحث وأحدّق في داخلي وفي العالم لأكتشف أكثر، وأعرف جيدًا لو أنّني عشتُ في ظروفٍ مختلفة، لو لم أشارك في الثورة مثلًا، لو لم آتِ إلى ألمانيا، لو لم أبصر الحياة بعيون أشخاصٍ راديكاليين دخلوا حياتي، لو لم يحدث كلّ هذا، لكنتُ حتمًا بطريقةٍ ما سأصل إلى حيث أنا الآن وسأعرف ثورتي وذاتي بطريقةٍ أو بأخرى".

تأتي النبرة الحازمة في صوت عمر من حقيقة أنّه عانى الكثير بالفعل: الحرب وإرهاب داعش والتهديد المستمر بالاعتقال والتعذيب من قبل النظام السوري، ثمّ الرحلة إلى المنفى وتحديات بناء حياة جديدة في ألمانيا. اليوم يحيط نفسه بأصدقاء وصديقات كوير/يات سوريون/يات وألمان/يات ومن جنسياتٍ أخرى أيضًا. تعلّم شيئًا فشيئًا التخلّص من أيّ ارتباطاتٍ سابقة بأشخاصٍ لا يعترفون بـ""عمر الجديد" ويحترمونه، ولا يتواجد وتتواجد في أيّ مكانٍ أو مناسبة غير مرحبةٍ بالكويريّة.

الحديث الوحيد المتعلق بالجنس الذي خاضه عمر مع شخصٍ راشد كان مع جده الذي عنّفه بشدّة حين اكتشف بطريقةٍ ما أنّه كان يمارس العادة السريّة، "كنتُ مسربلًا بالعار والذنب، غير قادرٍ على التحكم بذقني المرتجفة ودموعي التي أغضبت جدي أكثر، لأنّ الرجال لا تبكي، كنتُ في الثالثة عشر من عمري وعاملني كمجرم".

الزمن لا يحلّ أيّ شيء، هذا ما يؤكده الكحل الذي ساح من عيني عمر وهو يتكلم، تذكر بعضًا من أحاديث زملائه في المدرسة، النكات البذيئة، تبادل أفلام البورنو على أشرطة الفيديو، التنافس على روي تجارب جنسيّة متخيّلة أو حقيقيّة، لكنّ الأكثر سوءًا كان محاولات بعض الأولاد الإقلاع عن العادة السريّة بأيّ شكل، والعذابات التي كانوا يعيشونها للتبرّؤ من ذنب ارتكابها، وتجنّب ضررها فهي تسبب الجنون وخلخلة الركب. حاول عمر ولم ينجح.

قهوة صغيرة بالشام

01 كانون الثاني 2021
"الاختلاف مش جريمة" جملة انتشرت على النت بشكل كبير بعد خبر انتحار سارة حجازي.  كتير من السوريين استعملوها كشعار وحطوها عصفحاتن وصورن الشخصية. هاد الشي خلاني إرجع بذاكرتي لورا شوي....

لأتجنّب النظر في عينيه، عرضتُ عليه بعض الحلويات التي اشتريتها من محلٍ سوريٍ في شارع "Sonnenalle" المجاور. قال مباشرةً بعد صوت القرمشة: "طعمها مثل الجنة". انتقلت معه إلى المطبخ ليعدّ لنا القهوة العربيّة، وعلى شرفة المطبخ وقفت لأدخن سيجارتي فوصلتني رائحة الحشيش من الشبان العابرين. أحببت الاستوديو المشرق حيث يعيش، بدا لي بسبب تصميمه المتداخل كجزءٍ مقتطعٍ من شقةٍ أكبر؛ غرفة معيشة في نهايتها بابٌ يودي إلى مطبخ مرتجل مُمتلئ برفوف طويلة ضيّقة وفارغة، في المطبخ بابان، يميني يودي إلى الشرفة حيث أقف، وعلى اليسار بابٌ يفتح إلى حمام واسع أكبر من المطبخ. الاستوديو مؤثث ببساطة، أريكة ثلاثيّة يمكن فتحها لتتحول إلى سرير تبدو وكأنّها قد استُعملت لعقود، ومنضدة صغيرة للدراسة والعمل، ستائرٌ ملونة.

أعجبتني خزانة الملابس الكبيرة المفتوحة، والتي صنعها بنفسه، "كان عمري 14 عامًا عندما عملت في ورشة نجارة لمدة صيفين متتاليين، كلّ يوم من السابعة صباحًا حتى السابعة مساءً، ليس فقط لأثبت لأبناء الحي أنّني لست مجرّد صبي مُدلّل، ولكن لأختبر نفسي إلى أيّ مدى يمكنني الاحتمال" وبقوله هذه الجملة كانت ابتسامة تحدٍ قد غمرت عيني عمر، وما لبثت أن ضاقت العينان قليلًا مع متابعة الكلام: "في مرحلةٍ ما من مراهقتي، قمت باستغلال الامتيازات التي منحني إياها مجتمعي لأفرض سلطاتي الذكوريّة على شقيقتيّ، وأعتقد أنّ إحدى نقاط التحوّل الأساسيّة في حياتي كانت ندمي واعتذاري لهما لاحقًا عن ذلك الذنب". الندم لا يغيّر الماضي لكنه بكلّ تأكيد يغيّر المستقبل ويحرف مساره. عرف عمر أنّ محاربة التنشئة الاجتماعيّة تعني أن يتعرّف على نفسه دون أقنعة، ويحارب البطريركيّة المدسوسة في داخله، "أحارب نفسي من أجل أن أكون أنا بغض النظر عن التقييمات التي فرضتها التنشئة والعائلة والدين والحارة، والتي أخضعت نفسي لمتطلباتها".

بسبب ذلك الماضي، بات عمر يتفهم نفور بعض النساء، لاسيما المثليّات من الرجال الفحول، "لأنّ ضربات حياتي جاءت منهم ومشاكلي النفسيّة بسببهم هؤلاء جيراني وأقاربي" يقول عمر، ويستأنف "طبعًا المثال الأسوأ بالنسبة لي هو الرجل الأبيض المغاير، صاحب الامتيازات الأكبر في العالم، والذي يرفض أن يرى ويعترف بكلّ ما لديه وكم أنّ حياته أسهل من حياة غيره، يصيبني بالقشعريرة وأشعر بعدم وجود العدالة الاجتماعيّة. لا أقبل أن يكون هكذا شخص صديقي، لأنّ أيديولوجيا الامتيازات تسبّبت بخلل رهيب في الحضارة، وصنعت الهرميّة حيث يقع في القمة رجلٌ أبيض مغاير وفي القاع امرأة سوداء ترانس".

في البدء كانت الثورة

مع اندلاع الثورة السورية في منتصف آذار 2011، كان كلّ شيءٍ محسومًا بالنسبة إلى عمر، حلم التغيير يتحوّل الآن إلى حقيقة. بعد بضعة أشهر تخلّى طالب الاقتصاد في السنة الثالثة في جامعة دمشق عن دراسته وعن أصدقائه الذين خالفوه الأحلام، وعاد إلى مدينته لينضمّ إلى المظاهرات، مؤمنًا بأنّ الثورة هي سبب وجوده في الحياة ولم يأبه لاحتمال أن تكون سببًا لموته.

"تماهيت مع الآخرين ونسيت نفسي طوال تلك المرحلة، لم يعد لوجودي الفردي أيّ قيمة فقد ابتلعتني القضيّة، إحساسي بجسدي أصبح باهتًا لأنّه قريبٌ جدًا من الموت، حتى الذكريات البسيطة لتجربة جنسٍ غير مكتملة مع أحد أصدقاء المراهقة كانت قد اختفت تمامًا من مخيلتي، وبقي لي حبّ عبر الإنترنت لزميلةٍ لي من أيام الجامعة، وجودها في حياتي كان العزاء في الموت المحيط بي من كلّ ناحية، لكنه لم يتجاوز علاقةً عبر الإنترنت يشوبها الخوف من كلّ شيء وأيّ شيء".

اختار عمر دوره في ثورته وهو إسماع صوت شعبه للعالم، أن ترفع الموبايل لتصوّر في مظاهرة كان من أخطر الجرائم ضدّ النظام وهو استحقاقٌ محتّم للموت. كان عمر يصوّر بينما يتم تناقل الفيديوهات لاحقًا بين شبان آخرين لإيصالها إلى القنوات التي تغطي الثورة إعلاميًا، ثمّ تمكّن بمساعدة صديقٍ صحفي من حضور ورشات عبر الإنترنت حول كيفيّة نقل الأخبار وإعداد الفيديوهات والصور وكيفيّة البث المباشر وتوثيق أعداد الشهداء والمعتقلين.

الصورة من تصميم "سالينا أباظة".

غرغرينا الذاكرة.. تراوما متواصلة

"كنت في الحادية عشرة حين واجهت أولى صدمات حياتي، اختفت فجأة «هيفاء» الحلوة، حبُّ المدرسة الرهيف، لم يكن متاحًا لي أن أراها في الطريق أو أن نلعب سويًّا في أيّ مكان، ولم أفهم، ولم يحاول أحد أن يشرح لي السبب".

أغلب المدارس في حمص تتبع نظام فصل الذكور عن الإناث، بدءًا من الصف الخامس الابتدائي، يذهب الأولاد والبنات في عطلتهم الصيفيّة ويعودون إلى المدرسة في الخريف التالي ليجدوا رفيقاتهن قد اختفين.

بعدها بعامين فقط انتصبت جدران الفصل الجنسي في عقر دار عمر، ففي عائلته ولأنّ جده هو الآمر الناهي في البيت، كان يجب الالتزام بقواعده، وإحداها تنص على أن يغادر الصبي حين يكبر عالم النساء الذي كان متاحًا له سابقًا. لم يعد يُسمح له باللعب مع بنات عماته اللاتي كبرنَ أيضًا وتحجّبنَ وصار إعدادهنّ لمصير الخطوبة والزواج والأمومة أهمّ من اللعب. لم يكن الأمر بهذه الصعوبة للكثير من الأولاد رفاق عمر في الحيّ نفسه، حيث كان الاختلاط متاحًا لديهم، مع مراعاة الاحتشام.

"تحولت ابنة عمتي «وعد» (اسم مستعار) من فراشةٍ ملوّنة إلى رأسٍ مغطّى بخمار أسود، «وعد» التي كانت تكبرني بأعوامٍ قليلة وكنّا نلتقي أسبوعيًا في بيت جدي في الطابق الأرضي، زُوِّجَت غصبًا لرجلٍ اعتاد ضربها لاحقًا، وخسرتُ وجهها إلى الأبد. كان العار المرافق لتلك الطفلة، والذي زوِّجت بسببه أو درءًا له، هو ابتسامها مرةً لشاب في الطريق، ضربها أبوها وحرمها مغادرة المنزل وانطفأتْ بعد ذلك. حين تجرّأتُ على الحب لاحقًا، تعلّمت مع الحب الكتمان وألا أبتسم أبدًا"، يقول عمر.

ثورةٌ ما بين جندري ووطني

05 كانون الأول 2020
"أدرك بقسوة وبهجة أن أي ثورة بدأت بذاك الجمال ولاقت ما لاقت من قمع شنيع، لم ولن تموت. يوماً ما سأشارك عائلتي من الكويريين والطنطات النشاط والأمل. ومن غير خوف،...

أمضى طفولته في بيتٍ حزين، لم يتعافَ من رائحة الموت الذي اختطف أخاه الأكبر، حتى انضمّ للعائلة فردٌ جديد هو عبدالله زوج أخته الكبرى عليا، والذي أصبح بمثابة أخٍ لعمر. اعتقل النظام عبد الله بعد مشاركته في المظاهرات ضدّ نظام الأسد، وفي آذار 2012، وصل خبرٌ للعائلة من شخصٍ كان معه في المعتقل أنّه قُتل تحت التعذيب. استلمت عليا ورقة تفيد بأنّ زوجها مات بأزمةٍ قلبيّة ولم تستلم جثته أبدًا. "لم أستطع أن أتحدّث معها في الأمر أبدًا، لم تغادرني فكرة أن جسده المتألم رُمي في حفرةٍ ما ليُدفن مع عشرات آخرين". كان الخبر بمثابة كارثةٍ حلّت على والديّ عمر، يتذكر ويداه على ركبتيه: "ركعتْ أمي على الأرض ممسكةً بركبتي وهي ترجوني أن أسافر، أبي يقرأ القرآن بين الشهقات، وعليا تهمهم: راح جوزي راح الغالي...". لكن عمر لم يكن مستعدًا للتخلّي عن ثورته… ليس بعد.

اضطرت العائلة لاحقًا إلى النزوح من بيتهم في حمص بعدما تحوّلت الكثير من أحياء المدينة إلى ساحة حرب، وحين رغبوا بالعودة إليه بعد سنوات، عرفوا أنّ الجنود قد نهبوا حتى أسلاك الكهرباء في الجدران. وفي تلك اللحظة عرف عمر أنّ البيت/ الوطن اختفى هو الآخر.

في أواسط 2012، اتجهَ عمر إلى الشمال السوري، وهناك حصل على تدريب مع إحدى الوكالات الإعلاميّة العالميّة، وعمل معهم كمصوّر حرب، "كنت أجوب المناطق وأصوّر الجبهات ومناطق القصف، جثث محروقة، ضحايا تعذيب من قبل قوات النظام، وتعذيب من القوات المعارضة له، كنت هناك في مصنع السياسة التركي حيث يتلقى السياسيون والإسلاميون الدعم المشروط من الدول بحسب مصالحها، وشهدت مع العالم أجمع نشوء الدولة الإسلاميّة، كما رأيت بعيني كيف يدخل إسلاميو أوروبا عبر الحدود إلى سوريا مع عائلاتهم، وعرفت أنّ ثورتي انهارت وأنّ النظام العالمي الذي يرعى هذا الجحيم ما هو إلّا إله الشر المطلق".

إعادة ترتيب العالم

في أوائل 2015، اتخذ عمر القرار الأصعب في حياته وغادر سوريا إلى تركيا، ثمّ إلى ألمانيا ليبدأ على الفور دراسة الصحافة بشكلٍ أكاديمي، كان لكلّ شيء في الأسابيع الأولى من وصوله إلى ألمانيا طعم الهروب والهزيمة، وجوه عائلته التي لا يعلم إن كان سيراها مرةً أخرى، دفنتْ قلبه المتهالك تحت صخرةٍ من عار، لم يخف ثقلها حتى اطمأن إلى إقامتهم جميعًا في إحدى قرى الساحل الآمنة من الموت، ولكن ليس من الحياة.

"حتى ذلك الحين كنت ما أزال مسلمًا مُتدينًا، لكن ثورتي كانت من أجل الحريّة لا من أجل الإسلام". كان عمر يؤمن بأنّ الديمقراطيّة يجب أن تتيح للإسلاميين الحق أن يكونوا موجودين وفاعلين في الثورة، إلّا أنّ الانتهاكات التي ارتُكبت باسم الإسلام في مناطق سيطرتهم، قوّضت الأسس التي لطالما قام عليها عالمه الواعي، وبينما كان الموت يحصد الناس من حوله بأسلحة الجميع، نبذَ هو كلّ القتلة وأوليائهم، وسقط كلّ شيء تحت وطأة الشك.

"كان عليّ أن أراجع وأحاكم كلّ ما عشته أو آمنت به. حينها وضعت قناعاتي وديني وثورتي أمام محكمة إنسانيتي، فانفجرت الفقاعة. كان خروج الله من رأسي أكثر ألمًا من الولادة".

بالنسبة لشخصٍ آتٍ من تلك البيئة المحافظة يتطلب التصريح بموقفٍ متغيّر من الدين جرأةً كبيرة، أمّا التهاون في موضوع المثليّة الجنسيّة أو الكويريّة فهو أكثر سوءًا حتى، ولهذا تسببّت جرأة عمر في التعبير عن رأيه بالأمرين، بأزمةٍ حقيقيّة مع شبكته الاجتماعيّة الأساسيّة وبالنتيجة خسر أصدقاءه والعديد من أفراد عائلته، وريثما تمكن من بناء شبكة تتواءم وأفكاره وما تعلّمه عن نفسه وعن المجتمع الذي يريد الانتماء إليه، كان وحيدًا تمامًا.

بسبب الوحدة وعدم وجود سببٍ مقنعٍ للحياة انتابته أفكارٌ انتحاريّة في تلك الفترة، ورغم تحسنه مع الوقت إلّا أنّ طاقته مازالت تخبو أحيانًا، فيتراجع أمام أحلامٍ وكوابيس يكثّف فيها عقله الباطن كلّ ما تعرّض له من صدماتٍ، سواء أثناء نشأته، أو في الحرب، أو حتى في مسيرة اكتشافه لذاته هنا في ألمانيا، أو في مواجهته لبضعة حوادث عنصريّة فيها.

"في أحلك أوقاتي، كنت أبحث عن سبب للعيش، ولفترة طويلة اعتقدت أنّ هذا السبب هو الحب، ولكنني سرعان ما أدركت أنّ كلّ شخص يمكن أن يختفي من حياتي في وقت ما. انتهت علاقة حب، ثم أخرى، ثم أخرى. كدت أغرق بالاكتئاب" ولكن بعد عامين من علاقته مع غريتا، توّقف عمر عن مطالبة نفسه بأن يكون "رجلًا"، وتوقفت هي أيضًا عن توّقع ذلك، وهنا فقط يؤكد عمر "أمكنني حينها أن أكون ما أُحبّ، وعرفت أنّ السبب الحقيقي لحياتي هو أن أتابع اكتشاف نفسي وتدمير الأقنعة."

لا شك أنّ عمر محظوظ جدًا لمجرد أنّ باستطاعته أن يعيش نوعه الاجتماعي بحريّة وعلانيّة في هذا البلد، في حين لا يستطيع الغالبيّة الكشف عن نوعهم الاجتماعي، ولا حتى أمام العائلة أو الأصدقاء. ومع ذلك، هناك أيضًا تقدّم ضئيل في سوريا من حيث ظهور الكوير عمومًا إلى العلن، فقد ساعدت ثورة 2011، على سبيل المثال، على كشف بعضهم/نّ عن أنفسهم/ن بشكل متزايد عبر شبكات التواصل الاجتماعي على الأقل.

الصورة من تصميم "ورد زارع".

أنت كوير إذًا أنت مسيّس

فيما عدا بعض الاستثناءات، لا يتمكن أغلب الكوير السوريين من التصريح عن هويتهم/نّ الجندريّة وعن اختلافهم/ن، أمام عائلاتهم/ن أو مجتمعاتهم/ن الصغيرة، ورغم أنّهم مازالوا تحت وطأة المعاناة من التمييز والاضطهاد في مجتمعات مازالت بنسبة كبيرة ترفضهم أو تحتقرهم، أو في أحسن الأحوال تشير إليهم كمرضى يتوجب عليهم/ن البحث عن علاج، إلّا أنّ ثورة 2011 أتاحت للعديد منهم الجرأة على التعبير عن أنفسهم على وسائل التواصل الاجتماعي، أو الظهور على الملأ حتى في داخل سوريا. كما زادت المنصات والمواقع الإلكترونيّة ذات المحتوى باللغة العربيّة، والتي تنشر التوعية بخصوص النوع الاجتماعي والجنسانيّة وحقوق مجتمع الميم-عين كجزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان ككلّ.

من جانبٍ آخر، تتيح ألمانيا للكوير الهاربين/ات إليها ممارسة الحياة الطبيعيّة بسبب الثقة بالقانون الذي يحمي وجودهم/ن واحترامهم/ن، كما تمكنوا/ن بنسبةٍ كبيرة وبسرعة من الانضمام لجماعات الكوير هنا، وخصوصًا الكوير الملونين من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأمريكا اللاتينيّة وغيرها، حيث يتشاركون/ن إضافةً إلى معاناتهم/ن المترتبة على التمييز بحسب النوع الاجتماعي، تاريخًا متشابهًا من الخضوع للديكتاتوريات وانتهاك للحريات العامة، عدا عن صدمات الحروب واللجوء، إضافة إلى مواجهة السلوكيات العنصريّة على اختلاف مستوياتها، وهذه التقاطعيّة جعلت من الصعب فصل طبقات النضال عن بعضها.

في لقاءاتي مع مجموعةٍ من السوريين/ات من ذوي الهويات الجندريّة المختلفة، كان هناك شبه إجماعٌ على أنّ الكوير غالباً ما يكون مسيّسًا، حتى في صمته، لأنّ إخفاء هويته/ا وطريقة تفكيره/ا هو بحدّ ذاته ردّ فعل على اضطهادٍ سياسي. وتؤكد على ذلك يارا سعيفان، وهي كوير سوريّة تعيش وتعمل في برلين، مضيفةً أن "حتى الحب في مجتمعاتنا مسيّس طالما هناك سلطات تقيّد امتلاك الإنسان لجسده وجنسانيته، المهم أنّنا كمجتمع كوير ملوّن نتبادل الدعم للخروج من حالة الضحيّة بقوة تساعدنا على امتلاك سرديتنا".

برلين هذه المدينة الملونة الحرّة هي بنظر عمر المدينة الأكثر استعدادًا للتغيير في العالم. لكن انتماءه ليس لها وحدها، بل للمجتمع الكويري الفيمنستي الذي لا يعترف بالحدود والجنسيات وكلّ العقبات الأخرى التي تحدّ الإنسانيّة، وتضع شروطًا تُمايز بها البشر بعضهم عن بعض. أفكر في عمر باعتباره شخصًا مسيّسًا للغاية، وحالمًا يبحث عن المدينة الفاضلة. بعدما وضعه القدر في عقر الديستوبيا في سوريا، يعتقد اليوم أنّ البداية هي النهاية وهي دائمًا الثورة، كينونته إنسانٌ فقط، معركته ضدّ كلّ نظام، والنظام في داخله أولًا، انتماؤه هو لمجتمع الكوير فيمينيست الذي يمثل الإنسان دون أيّ صفة معياريّة لاحقة، ويتسّع ليضمّ الفئات الأكثر تهميشًا في المجتمع والذين يتعرضون/ن لأنواعٍ متقاطعةٍ من الاضطهاد والكراهيّة تبعًا للون والعرق والجنسانيّة والجنسيّة أيضًا.

لا يبدو قلقًا من التعرّض للمضايقات في المدينة بعد الآن، وهي قد تحدث لأيّ سببٍ كان، يكفي أنّه مختلف، أو أسمر اللون، لكنه/ا لم يعد قادرًا على مواجهة الملامة من الآخرين في ماضيه، ولا التسبّب بالحزن لوالديه، ولذلك يحافظ على علاقته بهم/نّ، لم يتمكن من مصارحتهما بعد، ولا يريد حروبًا مجانيّة، يكفيه حاليًا هذا الحب ولا يريد تخريبه مهما كان الثمن.

"أنا مثال راديكالي جدًا، أتغيّر كلّ يوم، ويتغيّر العالم معي، ومجرّد تقبل أفراد قليلين من مجتمعي الصغير المحافظ لي رغم تجرّدي من الذكورة التي يقدرونها، يعني أن قدرًا من التغيير قد أصابهم أيضًا، أنا صغيرٌ جدًا، لكن هناك الكثيرون مني". يقول عمر.

مقالات متعلقة

تحت ظلّ ذاك العلم

13 تشرين الأول 2020
"معظم الأحيان كنت أضطر لاستئجار سيارة تكسي لطريق يعدّ المشي فيه خياراً أفضل، صرفت في سبيل ذلك نصف دخلي الشهري من الوظيفة تقريباً، كي أتجنّب ما استطعت تحديق الآخرين بي...
استراتيجيات التمرد: قراءة كويرية في الثورة السورية

06 تشرين الأول 2020
"أن تكون كويرياً في الثورة يعني أن تصغي لآلاف الشتائم المقذعة عن مقدار السخف والأنانية والجنون الذي تنطوي عليه قضيتك، وعليك أن تصمت كثيراً كما لو كنت مسؤولاً عن المجازر...
الميم – عين في سوريا... وأصوات تكسر الصمت

03 تشرين الثاني 2020
لا يتحمل النظام السياسي وحده كلّ تبعات العزل والعداء الاجتماعي المسوّغ قانونياً ضد أبناء الميم - عين، إذ لازال العقل الجمعي العربي عموماً (ومنه السوري) ينظر للجنسانية في إطار التحريم،...
سارة حجازي في سوريا

20 تشرين الأول 2020
"بين البقاء والرحيل، بين الوطن والمنفى، بين هويتي وعادات المجتمع، بين الحرية و قمع السلطة، نحن بأمس الحاجة لخلق مساحة في كل تخيلاتنا لدولة سورية مستقبلية غير مبنية على قساوة...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد