درج قليل يصل قبوًا في بناء قديم يقع في جادة متفرّعة من شارع العابد في دمشق. عتمة شفافة وخفيفة تغمر الممر والمكان، كانت كافية كي تثير فيَّ متعة الاستماع إلى هسهسة بعيدة. عندما دلفت المكان، استطعتُ أن أقارن الحالة المباغتة بتلك الملاحظة التي سجَّلها أنطون تشيخوف: يا لمتعة أن تحترم الناس! عندما أرى الكتب لا يعنيني كيف كان كُتَّابها يعشقون أو يلعبون الورق؛ فأنا لا أرى إلّا أعمالهم الباهرة.
يقول ألبرتو مانغويل، وهو الذي يعزّ عليه فن القراءة ودور الكتب: "نحن نريد التعبير عن شيء معقد وكبير، وفي النهاية نكتفي بكلمة أحبك". شيء معقد وكبير، وفي النهاية نكتفي بكلمة أحبك. تلك هي المتعة التي ظلّت تتناسل في خبيئة قلبي وتتحرك وتنمو. متعة توازي ما تحتويه الكتب التي أقرأها.
تأخذني سمر حدّاد إلى مكتبها الذي يحتوي على أشياء وصور وكُتب تحكي حكاياتها، وتحكي لي عن الذين جاؤوا وغادروا لكن بقيت أطيافهم هائمة في المكان. أشعرُ بأصوات، لكنني لا أفهم كلّ شيء. لم يكن لدي وقت لأصنع عالمًا خاصًا بي: كنت منشغلًا بـ"حكاية ما انحكت"، وبالسعي نحو معرفة نشأة "الدار" (دار أطلس)، وكيف ستستمر، وكيف تمتزج مع مشاريع أخرى، يبرق بعضها ويختفي آخر.
أود لو أنّي أستطيع التعبير عن آخر نقطة من المكان عند أول نقطة، وعن كامل ارتحالات العنوان من بداية العنوان، لكنّني أعلم أنّ النتائج ستكون محصورة ومعقدة وكبيرة. لا أحد، مثلي، يستطيع الكتابة بشكل قاطع ونهائي وصادق ورصين، لذلك، يجب على كلّ من عرف المكان أن يتصوره بنفسه، وأن يعرف أنّ أفضل من يتحدث عن المكان وعن جدرانه المتكدّسة بالأوراق الصغيرة والصور المعتّقة وعن ببليوجرافيا الكتب، وعن النشأة والمنتهى المؤّجل، وعن حياة الكتب ورحلتها وهي تعبر الحدود والصعاب لتصل إلى قارئها النموذجي وعن هموم الطباعة وعتبات الغلاف، عن كلّ ذلك.. هي السيدة سمر حداد، التي يتدفق كلامها في غمرة الشجون والانطباعات المتدفقة من ذكريات كانت كفيلة لبقاء الكتاب الورقي، لأنّ هذه السيدة، النبيلة، تقول: "الكتاب حياة، ويجب أن يظل، على الرغم من كلّ شيء".
في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة وظهور الكتاب الالكتروني، هل يحتضر الكتاب الورقي؟
هذا السؤال إشكالي ويحمل الكثير. هذا سؤال طرحناه على أنفسنا منذ عشرين سنة خلت. تخيل! منذ عشرين سنة كنّا نقول: من المفروض إنّ الكتاب يحتضر. مات. لكن، إلى الآن، لم يمت. بل دائمًا، يعود إلى شبابه. يتحدّى المصطنع. يتعدّى ذاته، ليصبح مكشوفًا… كشفًا يراه ويقرؤه العالم.
خُذْ على سبيل المثال: ما زالت معارض الكتب الورقيّة موجودة. وفي كلّ معرض توجد عشرات الأجنحة، وفي كلّ جناح مئات من العناوين الورقيّة. مجرّد مثال يكشف عن حياة الكتاب الورقي، عن حيواته التي لا نهاية لها.
عندما أقول: كتاب، فأنا أعني ما أقول. ليس كلّ كتاب يُقال عنه كتاب. هل فهمت قصدي؟!
بمعنى، يوجد الكثير من الكتب وقد صُرفت من أجلها مبالغ هائلة. أمّا حقيقة هذا الإجراء فتدل على نظرة لا تتطابق مع روح المعرفة من الكتاب. موقف يتقاطع مع بؤس المعرفة ومن دون اعتبارات.
لا أريد أن أسمّي أسماء بعينها، ولكن، ثمّة معارض تقام، هنا أو هناك، واللافت فيها شكلها فقط: البناء والتعمير والتصميم والتجهيزات والديكورات، ثمّ يُوضع على رفوفه -كتاب- على سبيل المثال، ربما تضاهي تكلفته ميزانيتي لسنة كاملة. كتاب واحد، فقط، بلا محتوى. بلا شكل، وبلا إخراج. يعني باختصار، صورة بشعة. وهذا الأمر محزن جدًا جدًا.
ديكورات مبالغ فيها. احتفاء. حفلات التوقيع. قرّاء يتهافتون للشراء. أشكال فارهة ومضامين فارغة أفرزتها طبيعة العصر. والنتيجة: لا معطيات ثقافيّة ومعرفيّة بل توجّه نحو التسطيح والاختزال والشَذْب. شكل بلا محتوى، فقط.
أنا لا أتحدّث عن هذا الكم والنوع من الكتب. بل عن الكتب الجميلة. عن المعاني الداخليّة للمضمون. عن الكتب المفيدة، وعن طاقتها المعرفيّة والجماليّة وهي تُظهر المعنى الباطني، وأنا أراه بين يدي الناس/ القرّاء. عن هذا النوع أتحدث.
ألم تقل قبل قليل أنّ الكتاب يفتح أمامي عالمًا، حياة من المعرفة. عن هذا المضمون أتحدّث. وبالتالي التجاوز التام للواقع الثقافي المرير، من خلال الكتاب الورقي نفسه، وقيمته، وتشكلاته داخل الحيّز الاجتماعي.
الكتاب حريّة والقراءة تحرّر، والناشر الحقيقي، الصغير والمتوسط والكبير، هو مناضل في هذا الزمن. بمعنى: أنا كناشرة، مناضلة بامتياز في هذا الوقت المستهلك (بكسر اللام وفتحها).
أي ناشر صغير مستقل (وأنا منهم) يعاني من نزاعات وعقوبات ومن أزمة الكهرباء ومن أبسط الأمور التي تمتّ للحياة بصلة. كلّ هذه الأشياء تثير الصدمة والإحباط في النفوس، بسبب ذلك التمزّق اللا عقلاني والتشويه الذي أصابنا. ومع هذا، نقوم بطباعة ونشر وتسويق الكتب الجميلة (شكلًا ومضمونًا)، وهذا الأمر يجعلنا فخورين. طبعًا وهذا ينطبق على الكثير من الزميلات والزملاء داخل سوريا أو خارجها. لدينا قابليّة للاستمرار.
من هنا، ورغم أنّ عبارة "الكتاب الورقي يحتضر" تتردد، إلا أنّني ما زلت أقول: لا. طالما هناك ناس وقرّاء يطلبون الكتاب الورقي، مع الأخذ بعين الحسبان وضوح الفرق –عندهم– بين الكتاب الورقي، الجيد والرديء، وبين الكتاب الإلكتروني.
يوسف عبد لكي ومنير الشعراني وغيرهما، يقومون بتصميم أغلفة كتبنا. أنا لا أقبل إلّا أن يظهر الكتاب ذو المضمون الجيد بشكل أجود، ولا أقبل أن يحتوي الكتاب على أخطاء. الكتاب بهذا المعنى صيغة فنيّة، وبهذه الحقيقة الفنيّة يدوم الكتاب.
أشرت خلال حديثي معك إلى كتاب "عُزَّاب الفن"، والأخطاء الواردة فيه. لقد شعرت بالانزعاج. أولى خطواتنا تبدأ بتحرير الكتاب ثلاث مرات، ومن ثمّ يأتي التدقيق اللغوي. بمعنى: يُرسل الكتاب من قِبل المؤلف أو المترجم (بنصه الأول)، ثمّ إلى التحرير، فالمدقق اللغوي. وإذا كانت ثمّة ملاحظات، يُعاد الكتاب إلى صاحبه، وله الحق أن يرفض ما يشاء خارج الأخطاء النحويّة أو قواعد اللغة. وحتى قبل طباعة الكتاب، يُعاد قراءته مثنى وثلاث.
نسعى إلى الكمال ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، بشكل قريب من الرضا النفسي، ومن الجمال. لا أحد يعمل بهذا الشكل. قلّة قليلة من الناشرين العرب يعملون وفق هذا النهج والمنهج المُتَّبعان، احترامًا للقارئ الجاد. ورغم ذلك، فإنّ مبيعات الدار، داخل سوريا خاسرة، لأنّنا، أولًا، دار نشر سوريّة بامتياز، وتوجّهنا منذ البداية للقارئ السوري.
قلت، خسارة، لأنّنا لا نستطيع أن نزيد من سعر الكتاب، والسبب هو، وبالعامية: "الناس ميتة من الجوع". إلا أنّنا نعمل على تغطية هذه الخسارة من خلال معارضنا الخارجيّة.
بالمختصر، أنا ضدّ مقولة "الكتاب الورقي يحتضر"، بصرف النظر عن طبيعة الواقع المتردي المعاش.
حدثيني عن التنوّع البيبليوغرافي. بمعنى، وصف وتاريخ الكتب من ناحية التأليف والطباعة والنشر وغير ذلك من التي تدخل في نطاق هذا المصطلح وعمله.
موضوع التنوّع البيبليوغرافي، يقول: إنّ جميع الكتب، بكلّ أنواعها، يجب أن تأخذ نصيبها من العرض والتسويق والبيان. شأنها شأن أيّ كتاب تجاري، إن كان موضوعه الطبخ أو الأبراج، أو حتى الكتب الصفراء، ولا يحق للموّزع أو صاحب المكتبة أن ينوب عن القارئ: ما يريد وما يحب، وما لا يريد ولا يحب.
هذا هو تنوع البيبليوغرافيا، والذي يأخذنا إلى سياق آخر هو، عدالة التعبير فوق حريّة التعبير، ذلك أنّ حريّة التعبير تعطي وتُظهر الصوت الأقوى للأقوى، على حساب الأصوات المهمّشة. بينما "عدالة التعبير" تُوصل جميع الأصوات، بما فيها الكتاب الجميل، وأسميه الكتاب المستقل، الذي صدر من دار نشر مستقلة (مًمَوَّل ذاتيًا).
أختار الكتالوغ البيبليوغرافي الذي يناسبني، وأعاني من صعوبات للحصول على حقوق النشر، ومع دوائر الرقابة، حتى أنشر كتاب دون حذف أو إضافة.
مازلنا ننتج الكتب، ونفكر بالمشاريع القادمة. مثلًا: نعمل على كتاب "موسوعة الخط العربي"، بمساعدة الفنان والخطاط "منير الشعراني"، وكتاب آخر، له أيضًا عن مختارات من "ابن عربي" وغيره، ويُترجم الكتاب إلى لغات أخري (الفرنسيّة والإنكليزيّة والإسبانيّة)، ويتضمن لوحات وتقديم "منير". وأيضًا، لدينا أربع كتب مترجمة عن الألمانيّة والكتالونيّة والإنكليزيّة.
ذكرت بعضًا من مشاريعنا لأقول إنّني لا أقبل مقولة موت الكتاب.
كان استخدامي لمقولة "الكتاب الورقي يحتضر" من باب إثارة أفكار تتعلق بسيرة الكتاب، وموجَّه لمن هو معنيٌّ بهذه السيرة. في سياق حديثك قلت إنّ هدفنا ليس ربحي. سؤالي، الآن: هل الغاية إذن معرفيّة؟ كيف يمكن الاستمرار من غير أرباح؟
كما قلت في سياق سابق: توجهاتنا –من البداية– كانت للجمهور/ القارئ السوري. أي نحن نراعي القارئ السوري.
كأنّك تقولين أن أسعار الكتب في الخارج مختلفة؟
نعم. ومختلفة جدًا. لدينا ما لا يقل عن ثمانية معارض في السنة الواحدة. ومن هنا، فإنّ المورد الذي يأتينا من مبيعات تلك المعارض الخارجيّة يساعدنا على الاستمرار هنا. أضف إلى ذلك، نعتمد على منح تُقَدَّم لنا عند ترجمة الكتب من لغاتها إلى اللغة العربيّة ضمن ما يسمى الترويج الثقافي: الثقافة الفرنسيّة، الكتالونيّة، الإسبانيّة، الألمانيّة. هذه المنح تدعم وتغطي ما لا يقل عن 70% من مشروعنا.
نادرًا ما أسمع أو أرى شخصًا –صاحب مؤسسة– يتحدث عن القيم الثقافيّة والمعرفيّة أكثر من الكلام في الربح والفائدة.
بالضبط. لدي "هم ثقافي" بالدرجة الأولى قبل أن أكون ناشرة تفكر بالربح. النشر هو تجارة في نهاية المطاف، وغياب الهم الثقافي لا يلغي قدسيته وحضوره. لو شئت ونحوت نحو التجارة لجنيت أرباحًا كبيرة..
الشيء بالشيء يُذكر. بحسب خبرتك ومعرفتك بأكثر من لغة، هل الكتب التي تعملون على ترجمتها من لغتها الأم إلى اللغة العربيّة تتعرّض للخيانة، خيانة في الترجمة؟ كناشرة، هل لديك هَمّ أن يتوافق/ أو يقارب النص المُتَرجَم مع النص المُترجِم؟ كما تعلمين، فالترجمة هي مقام استقبال الغريب المتمثل في لغة الآخر الأجنبي وثقافته، وهي أيضًا انفتاح وإنصات وتحاور وتفاعل مع هذا الآخر. في هذا الإطار كيف تنظرين إلى الترجمة؟
طبعاً. أكيد ومن دون تردّد لديّ هم، وأسعى إلى ترجمة أمينة تجاه الأصل، قدر المستطاع. ولكن، لا توجد خيانة بمعناها الحقيقي. يوجد "تصرّف" يراه المُتَرجِم مناسبًا.
هذا الـ"تصرف"، نابع من ضرورات الترجمة أم من زاوية المترجم؟
لمقتضيات النص. من بنية النص.
هل ينطبق هذا الأمر على كلّ المترجمين؟
لا. ولا توجد ترجمة كاملة مئة بالمئة. توجد أخلاقيّات الترجمة. وإليك بعض الأمثلة:
المترجم عدنان جاموس، وهو مترجم "يوميات دوستويفسكي". أجزم أنّ هذا الرجل قد قام بعمل مذهل. عندما قرأت ترجمته للكتاب المذكور، شعرت وكأنّني أقرأ الكتاب بلغته الأم. عدنان جاموس ظل يعملّ في ترجمة الكتاب قرابة عشر سنوات، وهو الآن في الثمانين من العمر. من هنا، لا يمكن أن أقول إنّ عدنان خائن لدوستويفسكي. على الإطلاق. أضف إلى ذلك، حرصنا الشديد على التعامل مع مترجمين من الصف الأول، رغم أجورهم العالية.
مثال آخر عن المترجمين: نبيل الحفار، وهو من أهم المترجمين في سوريا وخارجها. يترجم من اللغة الألمانيّة إلى اللغة العربيّة. ترجمته في ماهيتها "مقام البعد" –أستعير هذه العبارة الجميلة لشاعر جوال– لأعبر من خلالها عن ترجمة "الحفار" الأخلاقيّة والجماليّة المعبِّرة على حدّ سواء.
مثال آخر وأخير، قرأتُ لأمين المعلوف باللغة التي كتب بها، ولاحظتُ الفرق: لا يوجد في النص المُعرّب هذا الكم من الجمال واللمعة كما في الأصل.
ربما، نحن محظوظين بمترجمين على معرفيّة جيدة بشؤون الترجمة: لغة ونقلًا وثقافة وتفاعلًا مع الآخر.
حدثيني عن معرضكم في صالة الزوايا في دمشق. ما علاقة الكتاب الورقي بالمشغولات اليدويّة؟
جاء معرضنا كتجربة أولى أردناها أن تبرز البعد الثقافي للمشاريع الشريكة والتي أردنا وضعها في سياقها المنشود. لذلك عرضناها مع الكتاب، وأتحنا الفرصة لمديرات تلك المشاريع كي يتحدثن عن تجاربهن (بالصدفة البحتة كلهن نساء)، ضمن جو مختلط بين الكتاب: الحامل الأول للثقافة والمعرفة، والنسيج الناتج عن مشروع ثقافي.
ربّما حدّدنا جمهور المعرض بهذه الطريقة أو قلصناه، لا أدري. ولكن التجربة كانت ناجحة جدًا، ونفكر في تكرارها في مناطق أخرى من دمشق.
أنت محبطة؟
طبعًا أنا كذلك. ماذا تتوقع من هذا الواقع الذي نعيشه!
أعتذر عن هذا السؤال التالي، ولكنني، أجد من الضرورة طرحه. كما قمت بالمحافظة على رسالة والدك، أقصد البقاء على استمراريّة الدار، هل ثمّة من يقوم بهذه المهمة من بعدك، بعد عمر طويل؟ ما هي الإجراءات التي تودين اتخاذها؟ وماذا تتوقعين؟ أيّ، بالمختصر: ما هو مصير الدار؟
لا يوجد أحد. لا يوجد وريث. ومنذ زمن وأنا أفكر بهذا الأمر...
مرة أخرى أعتذر عن السؤال.
لا.. لا أبدًا، هذا سؤال طبيعي ومصيري.
ثمّة خيارات عدّة، من قبيل تسليمه لشخص على قدر من الكفاءة والأمانة، ليستمر عمل الدار. لكن، لا يوجد أحد من العائلة كوني لست متزوجة، وأختي أيضًا غير متزوجة، ولدي أخ غير معني بشؤون الدار إطلاقًا. العائلة كلّها في الشتات، على اعتبار أنّنا من أصل فلسطيني.
نعم، هذا الموضوع يؤرقني، وأفكر في خطة بديلة، ولكن لا أعرف. إلّا أنّني، وحتى هذه اللحظة، لست في وارد تسليم الدار، أو أن أستسلم. ما زلت أملك القدرة على الإدارة والمتابعة..
مثل هذه الأمور المصيريّة يتم طرحها في اجتماعات الرابطة الدوليّة للناشرين المستقلين، أقصد عن المشاريع العائليّة، ومصير المكتبات بعد موت المؤسس بهدف وضع حلول لمشكلات قد تظهر.