(هذه المادة من الجزء الثاني من ملف "أصوات كويرية". بإداة وإشراف المحرّر الضيف، فادي صالح، ويمكن قراءة النسخة الانكليزية من المقال، وهي بترجمة فادي صالح)
في محاولة البحث عن الخطابات السورية المهيمنة فيما يتعلق بالجندر والجنسانية بشكل عام، أو عن المثلية الجنسية والعبور الجندري بشكل خاص، عادة ما نلتفت إلى الخطابات القانونية، الدينية أو الاجتماعية السائدة، والتي تصبغ وعينا الجمعي السوري بقوة وتحدّد منذ عقود ما هو مقبول وما هو مرفوض فيما يخص علاقتنا بأجسادنا وهويتنا الجندرية وجنسانيتنا كمواطنين/ات سوريين/ات، إن كان تحت سيطرة نظام الأسد قبل الثورة أو في العقد الماضي من الثورة، والنزاعات، والحروب، والتهجير. فقلما يخطر لنا أن نبحث عن ذاك "الطنط" الذي ظهر لمدة خمس دقائق في مسلسل قديم مشهور، أو عن تلك الشخصية ذات التعبير الجندري اللانمطي في برنامج أطفال محبوب وسمح لنا بمشاهدته، أو عن شخصية "خارجة عن المألوف" مرّت في إحدى الروايات أو المسرحيات مرور الكرام. في هذا الملف، سنبحث في أماكن غير متعارف عليها، مخفية ومنسية، لكتابة تاريخ كويري سوري مختلف قليلا عن المألوف ومستوحى من الثقافة الشعبية السائدة في الإعلام والأدب والفنون على أشكالها. وفي محاولة الأرشفة هذه، سنحاول قدر المستطاع أن نجيب عن الأسئلة التالية، كل مساهم/ة بطريقته/ا وأسلوبه/ا الخاص: كيف تم تصوير قضايانا في الأعمال الأدبية، الفنية والإعلامية السورية السائدة في العقود الماضية، وكيف تغيّرت طرق التصوير هذه بعد اندلاع الثورة؟ كيف قاوم صناع/صانعات الفن على أشكاله (في سوريا والمهجر) السرديات والتمثيلات السلبية والإقصائية؟ وكيف يقومون/يقمن بخلق أعمال فنية تقدّم نماذجاً، قصصاً، وسرديات تحتفي بالتنوع الجنسي والجندري وتعبر عنه بطرق إبداعية جديدة؟ كيف لنا أن نخلق أرشيفا فنيا، بحثيا، وفكريا كويريا ذا استمرارية وقادرا على أن يكون بمثابة مرجعية تاريخية ومعاصرة لأفراد الميم – عين، للمجتمع المدني، والفضاء العام الثقافي والفني السوري، بحيث تصبح قضايا الميم – عين غير هامشية، بل مركزية وأساسية في تصوّرنا وتمثيلنا وكتابتنا عن التاريخ والفن والثقافة في السياق السوري؟
بعد ال 2011، السنة التي بدأت بها الثورة السورية، صرنا نلاحظ بوضوح ازدياد الإنتاج الفني الثقافي والأدبي السوري على كافة أشكاله، لا سيما المستقل منه في المهجر، ملامسا ومعالجا قضايا شتى بطرق جديدة، بحرية أكثر، ورقابة أقل. ولكن في الوقت الذي تحضر إلى ذهني أسماء العديد من العاملين/ات في المجالات الفنية في داخل سورية وخارجها، أجد صعوبة في تذكر الحضور الفني الكويري في الفضاء الثقافي العام، سواء كان مشغولا من قبل أفراد مجتمع الميم – عين السوري أو غيرهم/ن. والتفسير طبعا سهل، فكما أشرنا في الملف السابق عن الكويرية والثورة، فإنّ الإقصاء والتمييز اللذان عانى منهما مجتمع الميم – عين في سوريا تحت سيطرة النظام والأطراف المتنازعة امتدّا وانعكسا في عمل منظمات المجتمع المدني السوري بعد الثورة، السياسية منها والثقافية. لا أتحدث هنا عن استثناءات فقيرة كقيام موقع معين بنشر مقالة بقلم كويري أو رسمة بريشة عابر/ة جندريا، بل أتكلم عن غياب واضح للفن الكويري، عن عدم كتابة وتصوير المثلية والعبور في الإنتاج الفني والأدبي السوري على نطاق أوسع، وعن عدم السعي لإشراك عدد كبير من فناني/ات مجتمع الميم – عين في الفضاء الثقافي السوري السائد، الذي ما زال يعالج مواضيع الحرية، السلطة، الديكتاتورية، الحرب، والأرشفة البديلة، كأنها مجردات غير مرتبطة بـالجندر والجنسانية أو بالتخيّل المهيمن للمواطن/ة على أنه/ا غيري/ة الجنس ومعياري/ة الجندر. هذا النقد حتما ليس موجها للأعمال الفنية أو الأدبية نفسها، ولا للفنانين/ات والأدباء أنفسهم/ن، ولكن للأسس التي بني عليها المجتمع المدني الثوري السوري الذي مازال حذرا بشكل مبالغ فيه أحيانا في مقاربة بعض القضايا ومعالجتها بشكل صريح وواضح، والذي لا يبذل مجهودا حقيقياً هو أو المموّل في أن تكون هناك تغييرات بنيوية تخلق مساحات عمل آمنة لأفراد الميم – عين السوري ليكونوا جزءا لا يتجزأ، وليس مجرد إضافة إيكزويتيكة، على الحراك الثقافي والفني السوري.
من جهة أخرى تسبّب الاقصاءات العديدة على اختلاف درجاتها تعزيز الافتراض السائد بخلو الفضاء العام السوري من أي إنتاج أدبي، إعلامي، فني أو ثقافي يعالج مواضيع الميم عين في سوريا والمهجر. على أن ذلك في الواقع أبعد ما يكون عن الصحة، فبالرغم من أنّ قضايا مجتمع الميم – عين لم تعطَ الأولوية مقارنة بقضايا أخرى بعد ٢٠١١، لا يعني ذلك إنعدامها! إذ يوجد عدد لا بأس به من المتفرقات التي تسلط الضوء على الجندر والجنسانية اللامعاريين في السياق السوري، قبل وبعد الثورة. فالدراما والأدب، على سبيل المثال، عالجتا على مرّ السنين، تارة بخجل وتارة بجرأة، مواضيع مختلفة تتعلق بأفراد من مجتمع الميم – عين، وكانت الشخصيات غير النمطية الجنسانية أو التعبير الجندري حاضرة في تخيّل الكتاب والكاتبات للشارع السوري والحياة الاجتماعية والسياسية في سوريا. في محاولة البحث عن هذه التمثيلات وتجميعها، كان عنصر المفاجأة حاضراً مع كلّ تنقيب في الذاكرة لاستحضار أي شخصية قرأناها أو شاهدناها وتركت أثرا في أنفسنا، تفكيرنا، وعينا، وأجسادنا. يصدمنا كل ما تناسيناه، نسيناه، أو ما حاولنا طمره في اللاوعي لقساوته وطبيعته القمعية أحيانا، أو لمروره الخجول والأثيري أحيانا أخرى. في هذا الملف حاولنا تذكر الكثير من خلال النقاشات التي دارت بين المساهمين/ات، وأدركنا من ذواكرنا المشتركة التي التقت بأكثر من نقطة ضرورة إعادة النظر في الماضي لكي نوثق ونحلل الوسائل والطرق التي تم تصوير المثلية والعبور والجندر والجنسانيات اللانمطية وتعميمها في الفضاء العام والمخيلة السورية على مر العقود الماضية.
إنّ الإقصاء والتمييز اللذان عانى منهما مجتمع الميم – عين في سوريا تحت سيطرة النظام والأطراف المتنازعة، امتدّا وانعكسا في عمل منظمات المجتمع المدني السوري بعد الثورة، السياسية منها والثقافية
بعيدا عن الوجود المتواضع للكويرية والعبور في الفضاء العام السوري، ما تزال الذاكرة الثقافية السورية بكافة أشكالها وعلى اختلاف الوسائط، من كتاب القراءة في المدرسة الابتدائية والمسلسلات السورية للمعارض الفنية والأغاني الشعبية، تجليات تنشر، تعزّز، وتفرض المعيارية الغيرية والجندرية على أنهما الطبيعة المثالية والوحيدة التي يجب علينا جميعا أن نسمو إليها. فإلى أين لجأ الأطفال والمراهقون/ات والبالغون/ات من مجتمع الميم – عين في البحث عن أنفسهم وسط الفقد لشخصيات تشبههم/ن أو رموز يقتدون بها؟ إلى مخيلتهم/ن الكويرية، طبعا، فالمخيلة الكويرية تتعدّى أن يرى الإنسان نفسه فيما هو مقدّم أو مصوّر، وتساعد الفرد أن يستخلص العناصر والجوانب التي تقارب أو تحاكي اختلافه/ا ولو بقليل. يعيد الكويري تخيلها ورسمها من منظوره/ا ويضفي عليه معنا جديدا، فيخلق رموزه الثائرة وغير النمطية التي يقتدي بها، حتى ولو لم تكن مثلية أو عابرة بشكل صريح. فكم من شخصية نسائية قوية، ولكن مظلومة ومرفوضة من المجتمع رأينا أنفسنا فيها وبمعاناتها وثورتها، وكم من رجل (غيري الجنس) لا يحاكي توقعات المجتمع أحسسنا بألمه وفهمنا معنى أن يعتبره القارئ أو المشاهد "فاشلا" أو "عارا" على الرجولة "الحقيقية".[i]
في هذا الملف، نكمل ما بدأناه في الملف الماضي من محاولات للتنقيب وأرشفة قصص كويرية وخلق ذاكرة بديلة تضع مجتمع الميم – عين السوري على الخارطة السياسية والثقافية السورية بطرق جديدة، نصنعها ونفرضها نحن كأفراد ميم – عين سوريين/ات. إن كان المسلسلات الدرامية، الروايات، برامج الأطفال أو أعمال مقدمة بوسائل فنية أخرى، هناك تاريخ من التمثيلات والسرديات التي يجب توثيقها، تحليلها وتسليط الضوء عليها كجزء لا يتجزأ من التاريخ الثقافي والفني السوري، ليس فقط كمجتمع ميم - عين على اعتباره شيء منفصل أو دخيل على المجتمع السوري. في هذا المشروع، نقوم باستكشاف هذه التواريخ، والبحث بغرض أرشفة كل ما هو أقل معيارية وقبولا في الفضاء العام الثقافي السوري، سننتج قراءات، تحليلات وأعمال فنية جديدة بغرض خلق أرشيف ثقافي كويري يضيف، يصحح أو يقدم نظرة جديدة لقضايا الميم – عين السوري والمجتمع والثقافة في سوريا بشكل عام.
سيشمل هذا الملف مقالات تحليلية تهدف إلى توثيق ودراسة أعمال أدبية، فنية، تلفزيونية وغيرها تعالج قضايا الميم – عين، تحتوي شخصيات يمكن اعتبارها "كويرية"، غير مألوفة أو خارجة عن الأعراف والتقاليد الجندرية والجنسانية المقبولة اجتماعيا بغض النظر عما إذا كان التصوير سلبي أو إيجابي، داعم أو ظالم. فالغاية هي أن نقدّم قراءة نقدية ومعالجة كويرية لكيفية تصوير الشخصيات المثلية أو العابرة، والخطابات المطروحة حول الجندر والجنسانيات اللامعيارية. بالإضافة إلى المقالات، سيشمل هذا الملف على عدد من المقابلات المكتوبة والسمعية مع عدد من صناع الفنون الكويريين وغير الكويريين، للتركيز على أعمالهم/ن التي تسلط الضوء فيها على قضايا الميم – عين السوري، والحديث عن الصعوبات والتحديات التي تواجه بعض أفراد الميم عين العاملين/ات في مجالات الفنون المختلفة، الاستراتيجيات التي يتبعونها، والنصائح التي جعل الفضاء العام الثقافي والإعلامي السورية أكثر تقبلا وتنوعا.
ما تزال الذاكرة الثقافية السورية بكافة أشكالها وعلى اختلاف الوسائط، تنشر، تعزّز، وتفرض المعيارية الغيرية والجندرية على أنهما الطبيعة المثالية والوحيدة التي يجب علينا جميعا أن نسمو إليها
وأخيرا وليس آخرا، سيشمل الملف أعمالا فنية مختلفة يقوم بها أفراد ميم عين سوريين/ات يستخدمن/ون فيها وسائط متعدّدة (الرسم، الصوت، الفيديو) لخلق نماذج جديدة لتصوير، عرض، والحديث عما تعنيه الكويرية، العبور، والتعبير الجندري اللانمطي بالنسبة لهم/ن. هذه الأعمال الفنية المقدمة على اختلافها تشكل بحد ذاتها نقدا للفضاء العام الثقافي السوري، الذي لا يجهد على خلق المساحة الكافية لصانعي/ات الفن من مجتمعات الميم – عين في سوريا والمهجر ليمكنهم/ن من تقديم فن كويري وخلق أرشيف فني مختلفين عن السائد والمهيمن.
إنّ هذا الملف ليس إلا محاولة أولية لبدء النقاش حول صناعة الفن والثقافة في سوريا، تأريخ وتوثيق ما قدّم وما يقدّم حتى الآن، وخلق أرشيف فني وثقافي بديل يعطي لمحة ولو متواضعة عن كيف يرى ويقرأ وينقد ويصنع أفراد مجتمع الميم – عين بأساليب وطرق مختلفة عن السائد لكي يخلقوا مساحات كويرية آمنة، يحطموا المفاهيم والركائز التي تعلمنا فيها أن نرى ونقرأ ونصنع الفن، وأن ويتركوا/ن آثرا من ذواتهم/ن، تجاربهم/ن وعوالمهم/ن في كل ما يقدموه ويقدمنه.
المراجع:
[i] طور الباحث والمفكر الكويري خوسيه إيستيبان مونيوز مفهوما أطلق عليه „disidentification“، ليفسر كيف أن أفراد مجتمع الميم/ عين، لا يتماهون ولا يتناغمون مع الشخصيات الغيرية في الثقافة المرئية السائدة فيجدون أساليب أخرى للتناغم معها، فيرفضون مثلا الرسالة "الأصلية" للسرديات والتمثيلات والشخصيات التي تهدف لفرض وإعادة إنتاج المعيارية الغيرية والجندرية، ويبحثون عن العناصر غير المتناغمة فيها وغير "النمطية" ويعيدون قراءتها بشكل كويري يتناسب مع احتياجاتهم/ن ورغباتهم/ن. للإطلاع على المزيد، انظر:
José Esteban Munõz.1999. Disidentifications: Queers of Color and the Performance of Politics. Minnesota: University of Minnesota Press.