الصُور المرفقة من تصوير ريتا قبلان، وهي مصورة صحفيّة لبنانيّة أمريكيّة مقيمة في بيروت، ويركز عملها بشكل رئيسي على قضايا النزوح والتغيير الاجتماعي والقضايا البيئيّة.
نُشر هذا التحقيق أولًا باللغة الإنجليزيّة وهذه هي الترجمة العربيّة.
وصل إشعار بتوصيل سندويش بطاطا إلى هاتف جواد (اسم مستعار، وقد استُخدم بناء على طلبه ولأسباب تتعلق بسلامته) بعد وقت قصير من الساعة الخامسة بعد ظهر ذلك اليوم. وحين وصل إلى مركز فوج إطفاء بيروت في الكرنتينا، أخبره أحد الأشخاص هناك بأنّ المسعفة الشابة، سحر، التي أوصت بتوصيل الطعام قد غادرت إلى مرفأ بيروت الذي يبعد حوالي دقيقتين. فقاد جواد بضعة أمتار في ذلك الاتجاه وبعدها عمّ السواد في كل مكان.
كانت الساعة 6:07 من بعد الظهر، في 4 آب 2020.
كان جواد من بين جرحى الانفجار الذين بلغ عددهم حوالي 6500 شخص، حين انفجرت كمية تقارب 3000 طن من مادة نيترات الأمونيوم، كانت مخزنة بطريقة غير آمنة في مرفأ بيروت إثر وصول النيران إليها. وكانت سحر فارس، الشابة التي طلبت الطعام، والتي تعمل في فريق إطفاء الحرائق الذي أُرسل لإطفاء الحريق الأولي، من بين الأشخاص الذين لقوا حتفهم، والذين يفوق عددهم 200 شخص.
على الورق، كان من المفترض أن تغطي الحكومة اللبنانية ووكالات الإغاثة الدولية تكاليف العلاج الطبي للأشخاص الذين أصيبوا بجروح في الانفجار بما في ذلك الأجانب. لكن كان ذلك كله مجرّد حبر على ورق، فعلى أرض الواقع، اختلف الأمر إلى حد كبير.
لجأ الجرحى، منذ أن مزّق الانفجار أوصال مدينة بيروت، إلى الشارع احتجاجًا على الإهمال المتواصل من قبل الحكومة اللبنانية. أمّا بالنسبة للأشخاص السوريين، فقد قوّض وضعهم القانوني الهش في لبنان مطالباتهم بالحصول على تعويض ورعاية صحية مناسبة. ونتيجة لذلك، يرزح السوريون الذين أصيبوا بجروح جرّاء الانفجار اليوم تحت وطأة عبء تكاليف العلاج الطبي بسبب أوجه القصور في مستوى التغطية من قبل الحكومة والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إضافة إلى الاستجابة التعسفية في كثير من الأحيان من قبل أنظمة المستشفيات اللبنانية.
من بين الجرحى في الانفجار الذي مضى عليه عامان، أشخاص يعانون اليوم من إعاقات طويلة الأمد ويحتاجون إلى علاج طبي متواصل ومُكلف.
انتظار طويل من أجل الرعاية الطارئة
عندما استعاد جواد، اللاجئ السوري في لبنان، وعيه، كانت مدينة بيروت عبارة عن حطام، تملأ الشظايا وقطع الزجاج شوارعها. يتذكر جواد أن الصوت الوحيد الذي تمكن من سماعه عندها هو صوت طنين في أذنيه. وقد علم بعد ذلك أنّ طبلة أذنه قد تضرّرت. كان الدم يسيل من رأسه. نظر ليجد أنّ قدمه مصابة بجروح كبيرة. قال جواد (28 عامًا): "أصبحت أصابع قدَمَيْ عند كعب قدمَيْ، وكأنّ قدمي قد انقلبت رأسًا على عقب. شعرت بالدوار وتقيّأت". وقد تمكن من التواصل مع أهل زوجته الذين ساعدوه في الوصول إلى مستشفى. لكن لم ينتهِ ذلك الكابوس هنا.
عندما توجهوا نحو مستشفيات مدينة بيروت، من المركز الطبي إلى الجامعة اللبنانية الأمريكية –مستشفى رزق، إلى مستشفى رفيق الحريري الجامعي ومستشفى الساحل، وجدوها جميعها غارقة بِسَيْل من الجرحى يفوق طاقاتها على التحمّل، ولم يكن باستطاعتهم إدخال جواد. اتجهوا به نحو شمال بيروت إلى مستشفى أبو جودة حيث عالج الأطباء الجرح في رأسه "بعشر قطب" حسبما قال. لم يستطع تحمّل الوجع في قدمه، فاتجهوا أكثر نحو الشمال إلى مستشفى دير سيدة المعونات في جبيل. بحسب جواد: "قالوا لي هناك إن عليّ أن أخضع لعملية جراحية لقدمي في أسرع وقت ممكن لكنهم لم يستطيعوا إجراء هذه العملية لي". ولم يشرح الأطباء الأسباب وراء ذلك، فاستمرّت العائلة تتجّه شمالًا، حتى وصلوا إلى مستشفى طرابلس الحكومي شمالي لبنان، لكن بعد ساعات من الانتظار، أخبروه أنهم لن يقبلوا إدخاله.
أخيرًا، قبلت مستشفى في شمال لبنان إدخال جواد الذي كان بحاجة للخضوع إلى عملية جراحية على نحو عاجل. "تواصلت المستشفى مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وقالت لهم "يعاني الرجل من جرح في قدمه، هل تريدون تغطية تكاليف هذه العملية"؟
لم تتلقَ المستشفى أي جواب تلك الليلة.
في اليوم التالي، الخامس من آب، عندما أعلن وزير الصحة العامة اللبناني خبر تغطية الدولة تكاليف علاج جميع جرحى الانفجار على التلفاز، كان جواد جالسًا وفي قدمه كسور غير مُعالَجة في غرفته في مستشفى عكار. "لم ترُدّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين على طلب المستشفى إلا بعد 5 أيام، فانتظرت طوال 5 أيام وأنا أعاني من كسر غير مُعالَج في قدمي وأتناول الحبوب المسكنة لتخفيف الآلام" قال جواد.
خضع جواد للعملية الجراحية بعد 5 أيام بعدما غطت المفوضية التكاليف. إلا أنه، وعلى الرغم من طلبه الرعاية في مستشفى ضمن نطاق شبكة المفوضية، لم تغطِ وكالة الأمم المتحدة سوى 75 بالمئة من مجموع التكاليف. ودفع جواد النسبة المتبقية وهي 25 بالمئة من الفاتورة أي ما يعادل حوالي 428 دولار أمريكي بحسب سعر صرف الدولار الذي كان سائدًا آنذاك.
قد أصرّ الناطقون باسم المفوضية الذين تواصلت معهم حكاية ما انحكت ونيريج عبر الرسائل الإلكترونية على أنّ وكالة الأمم المتحدة قد غطت 100 بالمئة من تكاليف علاج الجرحى في المستشفيات ضمن نطاق الشبكة. بالنسبة لجواد، فلم يكن الأمر كذلك.
ليس جواد، الذي اضطُر في نهاية المطاف إلى تغطية تكاليف علاجه بنفسه، وحيدًا في تخبّطه في متاهات النظام الطبي في لبنان.
استجابة تعسفيّة
تزيّن صورتان لسيدرا (15 عام) وهي تبتسم جدران غرفة الجلوس الفارغة في منزل عائلة الكنو الجديد، هذا المنزل الذي يقع في شارع هادئ في بلدة جدرا الساحلية، والتي تبعد حوالي 25 كم جنوب مدينة بيروت. لقد عاش أفراد هذه العائلة (وأصلهم من حلب) لسنوات في الطابق الأرضي من ناطحة سحاب مواجهة لمرفأ بيروت. وكان الأب علي الكنو يعمل كناطور في المبنى نفسه حتى يوم 4 آب 2020.
في وقت مبكر من مساء ذلك اليوم، كان علي وزوجته فاطمة وابنتاهما سيدرا وهدى متجمعين على الشرفة ينظرون إلى أعمدة الدخان المتصاعدة من المرفأ، عندما وقعت الصاعقة. شعرت فاطمة بشيء يضرب ظهرها وغابت عن الوعي. وعندما استعادت وعيها رأت أفراد عائلتها ممددين على الأرض. أما سيدرا، فلم تستفق أبدًا. وظلّ علي وهدى غائبين عن الوعي لساعات.
نُقل كلّ من فاطمة وعلي وهدى إلى ثلاث مستشفيات مختلفة؛ وفي إشارة إلى الطابع التعسفي للاستجابة الطبية للانفجار، كما عُولج كلّ منهم بطريقة اختلفت عن الأخرى.
عانت هدى التي تبلغ من العمر 11 عامًا من جروح خطيرة في عنقها ما جعلها عرضة لخطر الشلل. يقول شقيقها محمود الذي يبلغ من العمر 28 عامًا، وهو يتذكر تفاصيل ذلك اليوم : "ذهبنا إلى مستشفى أوتيل ديو وأخبرونا أنّها بحاجة للخضوع لعملية جراحية عاجلة، وأنّهم غير قادرين على إجراء تلك العملية".
استقبل مستشفى البقاع في شتورة، الذي يبعد مسافة ساعة بالسيارة عن بيروت، هدى، لكنهم طلبوا من العائلة دفع مبلغ طائل. قال محمود :"كانوا بحاجة إلى وضع مادة تيتانيوم (في عنقها) بما قيمته 3165 دولار أمريكي لكننا لا نملك هذا المبلغ".
تجدر الإشارة إلى عدم استجابة المسؤولين الإداريين في مستشفى البقاع لطلب حكاية ما انحكت ونيريج التعليق على هذه الأنباء.
لطالما كان نظام الرعاية الصحية في لبنان قطاعًا يستهدف الربح، ومخصّخصًا، ما جعل بعض الخدمات غير متوفرة للكثير من الأشخاص بما في ذلك اللاجئين السوريين، وأي شخص لا يشمله ضمان طبي كاف.
ظلّت هدى طريحة الفراش طوال ستة أيام، وهي تعاني من كسر في عنقها إلى أن تدخّل فريق ملهم التطوعي (منظمة إغاثية يديرها سوريون)، وغطّوا تكاليف العملية الجراحية. تقول هدى، وهي تتذكر تفاصيل ذلك اليوم :"لا أذكر ما حدث لأنني فقدت وعيي، وعندما كنت في المستشفى لم أكن قد استعدت وعيي بشكل كامل". بعد 20 يومًا، غادرت المستشفى وفي عنقها لوحتي تيتانيوم.
أما فاطمة، والدة هدى، فقد أصيبت بجروح في ظهرها وعنقها وقدمها. تقول إنها نقُلت إلى مستشفى الرسول الأعظم في بيروت حيث ظلّت مدة 15 يومًا. وقد خضعت لعمليتين جراحيتين غطّت تكلفتهما وزارة الصحة العامة اللبنانية بما يتوافق مع وعود الحكومة. تتابع فاطمة: "لم أقوَ على الحراك لمدة شهرين. اضطررت إلى استعمال دلوٍ في كل مرة أردت فيها التبول". كانت فاطمة الجريحة الوحيدة من بين أفراد العائلة التي شملتها التغطية الطبية التي كان من المفترض أن تشمل جميع جرحى الانفجار.
وفي ذلك الوقت، نُقل زوجها علي الذي يعاني من كسور في أربع فقرات في الظهر وكسر في الجمجمة إلى مستشفى المقاصد في بيروت. يشرح محمود، ابنه، قائلًا إنّهم "وضعوا له الكباسات على رأسه لكنها لم تكن مثبتة بشكل متين، فتداخلت أطرافها، ما أدّى إلى تعفّنها".
يقول علي إنه فقد البصر في إحدى عينيه والسمع في إحدى أذنيه. "عندما قلت للطبيب إنني لا أستطيع النظر إلا بعين واحدة ولم أتمكن من السماع بشكل جيد، طلب مني زيارة طبيب خاص". يقول وهو يتذكر ما قاله له طاقم مستشفى المقاصد عن أنّ المستشفى غير قادرة على مساعدته.
بحسب علي، قالت إدارة المستشفى للعائلة بأنّ الأجانب غير مشمولين بالتغطية وأرسلوا لهم فاتورة بقيمة 2600000 ليرة لبنانية أي ما يعادل حوالي 371 دولار أمريكي آنذاك. وقد تحدث محمود، ابنه، مع صحفي أخبره أنه لم يكن عليهم أن يدفعوا المبلغ، فواجه محمود إدارة المستشفى بذلك فطلبوا منهم مغادرة المستشفى، بحسب قوله، على الرغم من أنّ علاج علي لم يكن قد انتهى بعد مضي 17 يومًا في المستشفى، لكنهم غادروا المكان. وبعد يومين، ساءت حالة الجروح في رأسه. "كنت أتألم وكان الدم لا يزال يسيل مني، وكان الجرح في حالة تورم والتهاب".
رفضت إدارة مستشفى المقاصد التعليق على هذه الحادثة.
بعدها، ذهب علي إلى مستشفى ميداني كانت الحكومة المغربية قد أرسلته في إطار حملات مساعدة لبنان في أعقاب الانفجار. وهناك، أجرى له العاملون الطبيون صورة للرأس ونقلوه بشكل عاجل إلى غرفة الطوارئ. يقول محمود إنّ "العلاج كان جيدًا ومجانيًا. لقد أصلحوا القطب في رأسه حتى إنهم أعطونا أدوية لهدى وفاطمة".
متاهة التغطية الصحيّة
تسبّب انفجار مرفأ بيروت بكارثة طبية بشكل مباشر. ففي ليلة الانفجار، تلقى العاملون الصحيون في بيروت سيلًا من الجرحى يفوق عددهم 6500 شخص في مدينة أصبحت حطامًا وتدمرت فيها ست مستشفيات و20 عيادة و80 مرفقًا للرعاية الصحية، بحسب أرقام الأمم المتحدة.
في اليوم التالي، أعلنت وزارة الصحة في تعميم أصدرته أنها ستغطي تكاليف علاج جميع الجرحى في المستشفيات العامة والخاصة، سواء كانوا لبنانيين أو أجانبًا. صرح الدكتور جوزيف الحلو، مدير العناية الطبية في وزارة الصحة لنيريج وحكاية ما انحكت "غطينا تكاليف العلاج لأولئك الأشخاص الذين لا يشملهم تأمين صحي، أما بالنسبة للأشخاص الذين يشملهم تأمين صحي، فقد دفعت الوزارة الفرق". تابع الدكتور جوزيف الحلو: "لم تميّز الوزارة بين أي شخص، سواء كان لبنانيًا أو سوريًا أو بنغلادشيًا". وقد كان العديد من العاملين البنغلادشيين في المرفأ وقت الانفجار. "لقد تلقى جميع الجرحى العلاج في المستشفيات".
في حين ذُكر أنّ أغلبية المستشفيات قد التزمت بتدابير الوزارة إلا أن بعضها قد طالب الجرحى بدفع الفواتير (أو حاول فعل ذلك). قال الدكتور جوزيف الحلو في معرض ردّه على سؤال حول مدى تقيد المستشفيات بالتعميم الوزاري :"لم تطالب أي مستشفى الجرحى بدفع أي مبلغ".
أما بالنسبة للجرحى، فواقعهم يختلف عن هذه المزاعم، إذ ذكر 5 من بين 9 أشخاص ممن تحدّثوا إلى نيريج وحكاية ما انحكت، أنه قد طُلب منهم تسديد فواتير المستشفى قبل تلقي الرعاية الطبية الضرورية. لكن بحسب الدكتور جوزيف الحلو، فإن مسؤولي الوزارة "لم يتلقوا أي شكوى"، إذ كان مقرّرًا للوزارة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أن يُغطّيا تكاليف العلاج. كما قال إنه "لم يكن على دراية" بأي حادثة لم تغطِ فيها وزارة الصحة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تلك التكاليف ولم يسمع بأنباء تفيد بتنظيم جرحى الانفجار احتجاجات بشكل علني ضد إهمال السلطات لاحتياجاتهم من الرعاية الطبية.
في المقابل أفاد الخبراء في القانون بأن الإهمال غير نابع من التطبيق الخاطئ للتعميم الوزاري الصادر في آب 2020 فحسب، بل من القصور الذي يتسم به هذا التعميم. وتوضح المحامية في المفكرة القانونية للمناصرة، غيدة فرنجية، بأنه "ما إن غادر الجرحى المستشفيات وأرادوا بعد ذلك الدخول من جديد بسبب حدوث مضاعفات أو لطلب علاجات إضافية، لم تعتبرهم المستشفيات مشمولين بموجب التعميم الوزاري".
كما أضافت سميرة طراد، مديرة جمعية رواد فرونتيرز (وهي جمعية غير حكومية مقرها في لبنان ناشطة في مجال قضايا اللاجئين، وساعدت العديد من ضحايا الانفجار غير اللبنانيين وعائلاتهم في المطالبة بحقوقهم): "لقد توفرت الاستجابة الطبية الطارئة، لكن ما تلاها من الاستجابات الطبية لم تكن متوفرة وتُرك الجرحى يتدبرون أمرهم بأنفسهم".
قاسى أنور مصطفى، عامل البناء الذي كان يصوّر من هاتفه مقطع فيديو للحريق الذي نشب في المرفأ من على سطح المبنى يوم الرابع من آب 2020، من أوجه القصور هذه. كان أنور يبعد مسافة 500 متر عن المرفأ، وبعد وقت قصير على بدء التصوير، انفجرت مادة نيترات الأمونيوم وهزّ الانفجار مدينة بيروت. يقول أنور: "فقدت الوعي وصحوت اليوم التالي عند الثامنة صباحًا ووجدت نفسي في المستشفى. كنت أعاني من نزيف في الرأس ولم أستطع تحريك عنقي أو ظهري".
تلقى أنور علاجه الأولي في مستشفى المشرق الفرنسي في بيروت على مدى 22 يومًا وشملته تغطية الوزارة. لكن وبحسب أنور، لم تشمل هذه التغطية عشرات زيارات الطبيب التي لحقت العلاج وصور الأشعة وجلسات العلاج الفيزيائي: "عندما غادرت المستشفى دفعت كافة التكاليف".
يحتفظ أنور بكتيّب يسجّل فيه بالتفاصيل هذه التكاليف كالتالي: 250000 ليرة لبنانية لزيارة "طبيب أخصائي للأذن" بعد أن خسر توازنه عند المشي، و400000 ليرة لبنانية لإجراء فحص دم، و200000 ليرة لبنانية لكل جلسة علاج فيزيائي لظهره. وقد أوقف في نيسان العام الماضي جلسات إعادة التأهيل لأنه لم يستطع تحمّل تكاليفها. بحسب ما هو مُسجّل على الكتيّب، ترزح عائلة أنور اليوم تحت ديون بقيمة 18000 دولار أمريكي ويستأثر العلاج الطبي بنصف هذا المبلغ أما النصف الثاني فهو متعلق بتكاليف معيشته وزوجته وأطفاله الستة.
بعد مرور شهر على الانفجار، أصدرت وزارة الصحة تعميمًا تطلب فيه من جرحى الانفجار متابعة جميع علاجاتهم وإجراء الصور الشعاعية والفحوصات في المستشفيات اللبنانية على نفقة الوزارة، لكن ذلك كان مجرد حبر على ورق.
في الواقع، كان جرحى الانفجار من اللبنانيين وغير اللبنانيين ضحايا دوامة البيروقراطية.
فيما يخص ذلك أوضحت المحامية غيدة فرنجية: "طُلب منهم فتح ملفات في وزارة الصحة لمواصلة علاجهم في المستشفيات. ولكن كان من الصعب متابعة أمور ملفاتهم بسبب البيروقراطية السائدة، خاصة وأنّ الضحايا لم يحصلوا على أي توجيهات عمّا ينبغي فعله".
بدوره أكّد الدكتور جوزيف الحلو أن وزارة الصحة قد أعلمت المستشفيات بكيفية متابعة الأمور. يقول: "أوصت وزارة الصحة المستشفيات بإجراء العمليات الجراحية لكل من يدخل أبوابها... لكن إذا خضع أحدهم لعملية جراحية ولم يأت ويخبرني كيف لي أن أعلم بذلك؟"
"كيف سنتمكن من دفع التكاليف؟"
في أعقاب الانفجار، تلقى القطاع الصحي في لبنان 15.5 مليون دولار أمريكي من أصل المبلغ الموعود وقيمته 33.3 مليون دولار أمريكي في إطار النداء الإنساني العاجل لعام 2020 بتنسيق من الأمم المتحدة. وكانت هذه الأموال مخصّصة للعلاجات الطارئة للإصابات الرضية وإعادة بناء المرافق الصحية التي تضرّرت ومساعدة مرافق الرعاية الصحية المتبقية لاستقبال "سيل" المرضى الذين خسروا إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية بعد تضرّر عدد من المستشفيات، بحسب كريستينا بيتكي، منسقة القطاع الصحي في منظمة الصحة العالمية.
وقد شهدت أساسًا السنوات القليلة الماضية تدمير القطاع الصحي في لبنان؛ فقد جعل التدهور السريع لقيمة العملة اللبنانية منذ بداية الأزمة الاقتصادية في 2019، كل ما هو مستورد من بين ذلك الأدوات الطبية، أشبه بكابوس. وكان البنك الدولي قد وصف الأزمة المالية اللبنانية على أنها من بين أسوأ ثلاث انهيارات اقتصادية في العالم منذ حوالي عام 1850.
وسط كل ذلك، وعلى الرغم من إصدار السلطات اللبنانية التعاميم وتمريرها القانونين رقم 194/2020 و196/2020 اللذين يمنحان ضحايا وجرحى انفجار المرفأ وعائلاتهم حقوقهم شكليًا، إلا أنّ الحكومة لم تخصّص ميزانية لذلك.
يقول الدكتور جوزيف الحلو: "إذا أرادوا أن يمرّروا قانونًا وأن يطلبوا من الوزارة تحمّل التكاليف، فعلى الحكومة تخصيص ميزانية لذلك". وأضاف، "للأسف، لم تتلقَ المستشفيات حتى الآن المبالغ التي تغطي كلفة العلاجات". وبالفعل، فإن مسألة الدين بين الوزارة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والمستشفيات لطالما كانت مشكلة بنيوية في لبنان حتى قبل الانفجار.
في الوقت نفسه، لا تزال عقود الوزارة مع المستشفيات على سعر صرف الدولار الرسمي أي 1500 ليرة لبنانية في حين أنّ السعر في السوق السوداء إلى حين نشر هذا المقال يبلغ حوالي 29,700 ليرة لبنانية للدولار الواحد. يقول الدكتور الحلو: "لن تقبل أي مستشفى المبالغ على سعر الصرف الرسمي (1500 ليرة لبنانية)، لا يمكننا أن نطلب من المستشفيات أن تعمل في الوقت الذي لا ندفع لها مستحقاتها".
ينعكس مدى الضرر الذي لحق بنظام الرعاية الصحية في لبنان من خلال التدهور السريع للعملة الوطنية. إذ تبلغ ميزانية وزارة الصحة 475 مليون ليرة لبنانية –أي ما يعادل 330 مليون دولار أمريكي عندما كان سعر الصرف الرسمي (1500 ليرة لبنانية) سائدًا. أما اليوم، فإنه يعادل ما قيمته 16 مليون دولار أمريكي.
إهمال الأشخاص ذوي الإعاقات الناجمة عن الانفجار
من بين الأشخاص الذين أُصيبوا في الانفجار، والذين يفوق عددهم 6500 شخص، لا يزال عدد الذين تكبّدوا إعاقات جسديّة غير واضح. أحصت وزارة الشؤون الاجتماعية، وهي الهيئة الحكومية التي من المفترض أنها مسؤولة عن مساعدة هؤلاء الأشخاص، 15 شخصًا فقط ممن تواصلت معهم وتلقوا بطاقات إعاقة رسمية، هدفها منحهم بعض المزايا.
أما العدد الفعلي، فيفوق ذلك بأشواط؛ حيث تمكنت المنظمة غير الحكومية، الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركيًا، التي دعمت الجرحى ماديًا ووفرت لهم جلسات إعادة تأهيل وأمنت لهم حفاضات وأطرافًا اصطناعية وكراسٍ متحركة وسماعات للأذنين منذ يوم الانفجار، من الوصول إلى حوالي 500 شخص من الجرحى الذين كانوا يعانون من الإعاقات –بحسب ندى العزير منسقة برنامج الطوارئ. ومن بين هؤلاء الأشخاص، كان 350 شخصًا يعانون من إعاقة جسدية سابقة، بينما أُصيب 150 شخصًا بإعاقة جراء الانفجار. وبحسب ندى العزير، كان من بينهم عشرة سوريين أُصيبوا بإعاقة جرّاء الانفجار و20 شخصًا كان لديهم إعاقة سابقة. وقالت: "إن عدد الأشخاص الذين يعانون من الإعاقات يفوق العدد الذي استهدفناه لكننا لم نتمكن من الوصول إليهم جميعًا".
يصعب تفسير هذه الفجوة المذهلة بين الرقمين: الأول الذي حدّده الاتحاد، وهو 500 شخص، والثاني الذي حددته الوزارة وهو 15 شخصًا. يعزي عبدالله أحمد، المدير العام لوزارة الشؤون الاجتماعية سبب الانخفاض في العدد الذي ذكرته الوزارة إلى أن بعض الجرحى "لم يطلبوا مساعدتنا.. في بعض الأحيان لم يُرد الأشخاص الحضور إلى مقر الوزارة بسبب تفشي فيروس كورونا والأوضاع الاقتصادية أو (لأنه يتوجب عليهم إحضار) بعض الوثائق الضرورية".
بحسب ندى العزير، لا تزال أسماء العديد من الأشخاص مسجلة على اللوائح للحصول على بطاقة إعاقة، وذلك لأنه في بعض الأحيان، "ليس في وزارة الشؤون الاجتماعية موظفون أو لا تتوفر الكهرباء. وفي حالات أخرى، حين يزور المرضى الأطباء للحصول على تقرير طبي مطلوب للحصول على البطاقة يأتي الرد على شاكلة «الطبيب غير موجود، مصاب بفيروس كورونا أو أنّ المركز قد أُقفل»".
وضعت الحكومة أحكامًا خاصة تستهدف ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذين تطورت إصاباتهم إلى إعاقات، في القانون 196/2020 الذي يحيلهم إلى قانون المعوقين رقم 220/2000. ويسمح القانون لذوي الإعاقة بالحصول على بطاقة تمنحهم بعض الإعفاءات وتوفر لهم بعض المعدات الطبية كالكراسي المتحركة.
تقول غيدة فرنجية: إنّ " قانون المعوقين يمثّل إشكالية لأنه غير مطبّق، فإنهم ببساطة يحيلونهم إلى ما هو غير عملي".
حتى في ذلك الوقت، لم يكن الأجانب مشمولين بهذه المزايا. يقول عبدالله أحمد إن الوزارة "حاولت التنسيق مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومنظمات غير حكومية أخرى من أجل هذه المسألة إلا أن جهود التنسيق لم تحقق أي نتيجة ملموسة".
شهداء في الجيش؟
على جانب آخر فقد كان هناك سبيل آخر للمساعدة، فقد دعا الاتحاد لمنح جرحى الانفجار صفة "شهداء في الجيش" ما يمنحهم نظريًا معاشًا شهريًا ورعاية صحية مجانية ويغطي تكاليف مدارس الأطفال. بموجب القانون رقم 196/2020، يُعتبر الأشخاص الذين استشهدوا في الانفجار شهداء في الجيش اللبناني، ما يعني أن أفراد عائلاتهم سيستفيدون من بعض المزايا. فهل من الممكن تطبيق الصفة نفسها على جرحى الانفجار؟ تجادل منسقة برنامج الطوارئ في الاتحاد قائلة: "لقد انقلبت حياة هؤلاء الأشخاص رأسًا على عقب، فلا يمكن للعديد منهم مواصلة عملهم الآن بسبب الإعاقة التي أُصيبوا بها بالانفجار". ومن الناحية الأخرى، قال عبدالله أحمد إنّ هذا الطلب "غير منطقي" لأنه "سيفتح علينا أبواب سيل من المطالبات من أشخاص أصيبوا بإعاقات أو جروح في انفجارات أخرى – فقد يطالب العديد من الأشخاص بالحصول على هذه الصفة".
كذلك حُرمت عائلات الأشخاص من غير اللبنانيين الذين لقوا حتفهم في الانفجار من هذه الصفة. وقالت سميرة من جمعية رواد فرونتيرز: "لا يحدّد نص القانون نفسه على أنه ينطبق حصرًا على الأشخاص اللبنانيين، لكن عمليًا وعند سؤالنا عن كيفية منح الصفة لغير اللبنانيين، كان الرد أن العملية مستحيلة".
وفقًا للدكتور جوزيف الحلو، فإنه: "لا يحق للدولة إعطاء معاش لشخص غير لبناني". كما يذكر أنها بحاجة لقانون جديد لفعل ذلك.
في كل الأحوال، لم تكن عائلة الكنو مؤهلة للحصول على صفة "شهيد" بعد خسارتهم ابنتهم سيدرا، كما لم يتمكنوا من الحصول على بطاقة إعاقة. وقد تلقوا مبلغًا من المال مرّة واحدة مجموعه 30 مليون ليرة لبنانية من الهيئة العليا للإغاثة كغيرهم من ذوي ضحايا الانفجار لكنهم أنفقوا نصف هذا المبلغ على جمعهم الوثائق الرسمية التي يحتاجونها لإثبات وضعهم العائلي للحصول على المساعدة في المقام الأول.
أوجه القصور في تغطية المفوضية الساميّة للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين
كان السوريون الذين أجريت مقابلات معهم لغرض هذا التحقيق، جمعيهم لاجئين مسجلين لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين باستثناء أنور، عامل البناء والأب لستة أطفال الذي أصيب بجروح. تغطي المفوضية التكاليف الطبية للاجئين المسجلين لديها على الرغم من إشارة الناطق باسم المفوضية "إلى وجود آلية لتسريع عملية التسجيل".
على الرغم من ذلك، فقد أوقفت المفوضية تسجيل اللاجئين السوريين في عام 2015 بناء على طلب من الحكومة اللبنانية. ووفقًا لأرقام الأمم المتحدة، من بين عدد مقدّر بـ1.5 مليون لاجئ سوري يعيشون في لبنان، 839000 شخص فقط مسجلون لدى المفوضية اليوم. أما البقية فتُركوا يتدبرون أمرهم بأنفسهم أو راحوا يطلبون المساعدة من المنظمات غير الحكومية.
ود أخبر الناطقون باسم المفوضية حكاية ما انحكت ونيريج بأنه قد "تمت تغطية تكاليف المستشفيات بشكل كامل" من قبل وكالة الأمم المتحدة في حالة ضحايا الانفجار السوريين المسجلين لدى المفوضية. لكن لم يكن الأمر كذلك في بعض الحالات؛ كحالة جواد، العامل الذي أصيب بجروح حين كان يسلم طلبات الطعام بالقرب من المرفأ عند وقوع الانفجار، والذي اضطر إلى دفع نسبة 25 بالمئة من فاتورة المستشفى.
عند السؤال عن مثل تلك الحالات، ذكر الناطقون باسم المفوضية بأنه "قد يكون هناك حالات أخرى لجأ فيها الأشخاص إلى طلب الرعاية في مستشفيات خارج نطاق شبكة المستشفيات التي تتعامل معها المفوضية والتي لم تكن على دراية بها".
هذا ما قالته وفاء، التي تعيش في لبنان كلاجئة مسجلة لدى المفوضية وأصلها من حمص، إنه حصل معها. لم تتعرض وفاء نفسها لأي إصابة على الرغم من أنها كانت في منطقة مار مخايل القريبة من مرفأ بيروت عند وقوع الانفجار، لكن أصيبت ابنتها ملاك، التي تبلغ من العمر 10 سنوات، بجرح في حاجبها تطلّب تقطيبًا. كما أصيب زوجها، بلال، الذي كان يعمل آنذاك كعامل توصيل طعام لدى مطعم في مار مخايل بجروح في قدمه. ولم تكن هذه الجروح خطيرة جدًا، وقد حاولت العائلة زيارة ثلاث مستشفيات في بيروت لمداواة الجروح إلا أنها كانت غارقة بسيل من الجرحى يفوق طاقتها على التحمل. وقالت وفاء: "لا ألوم تلك المستشفيات إذ كانت منشغلة بالحالات الطارئة".
في نهاية المطاف، قبلت مستشفى أوتيل ديو دخول بلال الذي عالج الأطباء جرحه بـ22 قطبة. وقالت وفاء إنهم دفعوا فاتورة المستشفى التي بلغت قيمتها 250 دولار أمريكي. أما ملاك، فتلقت علاجها في مستشفى القديس يوسف في الدورة، خارج مدينة بيروت، حيث عالج الأطباء جرحها في الحاجب بـ11 قطبة وطالبت المستشفى العائلة بدفع مبلغ قيمته 350 دولار أمريكي. تابعت وفا قائلة إن الطبيب أصرّ على اعتبار القطب "جراحة تجميلية" وأن عليها تحمل التكاليف، وهذا ما فعلته. أضافت: "يجب ألا تطالبنا المستشفى بدفع المبلغ حتى ولو كانت مستشفى خاص". وأوضح مصدر في مستشفى القديس يوسف أنهم أرسلوا فواتير كلفة علاجات الجرحى اللبنانيين إلى وزارة الصحة أما بالنسبة للجرحى من غير اللبنانيين "ففي بعض الحالات" طالبوهم بدفع الفواتير. وقد رفض نسيب نصر، المدير العام لمستشفى أوتيل ديو، التعليق على بعض الحالات المحددة "لأسباب تتعلق بالسرية".
دفعت عائلة وفاء ما مجموعه 550 دولار أمريكي لتغطية نفقة تقطيب جروح بلال وملاك. وقالت العائلة إنها لم تكن على دراية بأن العلاج كان من المفترض أن يكون مجانيًا. بحسب قولها، تواصلت العائلة مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بعد الانفجار لكن وكالة الأمم المتحدة لم تغطِ التكاليف.
لقد شابت تغطية المفوضية أوجه قصور إلى جانب المشاكل في التنفيذ. وبحسب الناطقين باسم المفوضية الذين قدموا بيانًا خطيًا لنيريج وحكاية ما انحكت، فإنّ وكالة الأمم المتحدة قد غطت "تدخل طواقم المستشفيات مباشرة بعد الانفجار" و"معظم النفقات المتعلقة بالاستشفاء باستثناء تلك المتعلقة بالعلاجات في العيادات الخارجية وللأمراض المزمنة". وهذا يستثني العلاج الفيزيائي طويل الأمد والرعاية الخارجية وغيرها من أشكال الرعاية المقدمة في مراكز الرعاية الصحية الأولية. على سبيل المثال، قال الناطقون باسم المفوضية إنها لن تغطي تكاليف علاج "شخص يخضع لصورة شعاعية بناء على توصية مزوّد رعاية صحية أولية لكن لا يدخل إلى المستشفى إنما يغادر إلى منزله بعد الانتهاء من إجراء الصورة الشعاعية".
لكن في حالة العديد من جرحى انفجار الرابع من آب، لم تنتهِ احتياجاتهم الطبية عند الزيارة الأولية للمستشفى في ذلك النهار، بل استمرت إلى ما بعد ذلك. وتُرك العديد منهم يتدبرون أمرهم بأنفسهم فيما يتعلق بدفع فواتير عمليات الفحص والأطراف الاصطناعية أو جلسات إعادة التأهيل المتكرّرة.
لم يغط أوجه القصور هذه سوى عدد من المنظمات غير الحكومية كالاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركيًا.
يقول أديب، وهو أصلًا من حلب، ومن المستفيدين من خدمات الاتحاد المذكور، ويعيش اليوم مع ابنه الذي يبلغ من العمر 10 سنوات في منطقة مار مخايل بالقرب من مرفأ بيروت حيث يعمل في ورشة نجارة، إنه فقد قدرته على المشي طوال 6 أشهر بسبب الإصابة في قدمه عقب الانفجار، وقد تمكن شقيقه من دفع مبلغ 600000 ليرة لبنانية للحصول على دعامة للساق، وغير ذلك من التكاليف لتغطية زيارات الأطباء الخاصين.
أفاد أديب لاحقًا، بأنّ الاتحاد غطّى تكاليف 25 جلسة علاج فيزيائي وسلموه مبلغًا من المال. وعلى الرغم من تلقيه مساعدة كبيرة مقارنة مع غيره من جرحى الانفجار، إلا أنه يقول إنه يظل عاجزًا عن العمل في ورشة النجارة بالهمة ذاتها التي كان يتمتع بها قبل إصابته.
أمل يلوح في الأفق
دخلت نسمات ربيعية في يوم من أيام نيسان الماضي من نوافذ منزل مخول الأحمد محمد في منطقة الجعيتاوي بالقرب من المرفأ؛ تلك النوافذ نفسها التي كانت مُشرّعة يوم الانفجار. ويتذكر مخول كيف كانت ابنته سما التي كانت تبلغ من العمر 5 سنوات آنذاك تميل وتنظر إلى أعمدة الدخان المتصاعدة في ذلك اليوم.
تقول سما التي تبلغ اليوم سبع سنوات: " كنت عند النافذة وناديت أختي لترى النيران وبعدها... لا أعلم ما الذي اخترق عيني". قطعة من الحطام المتطاير اخترقت المنزل من نوافذه واستقرت في عينها. تشير سما إلى عينها اليسرى وتقول "هذه العين اصطناعية".
في ليلة الانفجار نفسها، نُقلت سما إلى المركز الطبي للجامعة اللبنانية الأمريكية –مستشفى رزق، حيث تمكن الأطباء من حفظ الأعصاب المتصلة على الرغم من أنها فقدت عينها اليسرى. يقول والدها مخول: "أخبرنا الأطباء بأن كلفة العملية الجراحية هي 12 مليون ليرة لبنانية لكنهم قد أُبلغوا بأن وزارة الصحة ستغطي هذه التكلفة".
في حالة سما، على النقيض من الحالات العديدة الأخرى، طُبقت التدابير وباشر الأطباء بإجراء تلك العملية في تلك الليلة.
زار مخول، في وقت لاحق، أطباء خاصين على نفقته الخاصة لسماع عدّة آراء حول هذه المسألة على اعتبار أنه نظرًا لنجاح العملية في حفظ أعصاب عين سما، ذلك يعني أنها ستكون قادرة على وضع عين زجاجية وتحريكها. لذا تواصل مع المفوضية التي اقترحت عليه أن يذهب بها إلى مستشفى المقاصد لكنه لم يكن على اقتناع بأن لديهم أطباء متخصصين في ذلك المجال.
سريعًا ما انتشرت حكاية سما وتصدرت العناوين الإخبارية على نطاق دولي واكتسبت اهتمامًا على نطاق واسع. وضمن زيارة له إلى بيروت في أعقاب الانفجار، زار مفوض الأمم المتحدة السامي فيليبو غراندي عائلة سما. وقد تكفلت هيئة الهلال الأحمر لدولة الإمارات العربية المتحدة بدفع تكاليف العملية الثانية لها، والتي تُقدّر بـ3000 دولار أمريكي، ويجريها طبيب متخصّص بالعين الزجاجية، كما وعدتهم الهيئة بدفع تكاليف التجديد المتواصل للعين الزجاجية حتى تبلغ 18 عامًا.
منذ ذلك الحين، خضعت سما لجلسات إعادة تأهيل وتعلمت كيفية التكيف مع عينها الزجاجية. وقد مُنحت العائلة مؤخرًا فرصة إعادة توطينهم في كندا عبر المفوضية.
أفادت سما، قبل أيام قليلة من المغادرة إلى كندا، أنها على دراية بأن اللغة المحكية في ألبيرتا حيث سيتم إعادة توطينهم، هي الإنجليزية. فراحت تردد وهي لا تزال في منزلها في بيروت تلك الكلمات بالانجليزية: "اسمي سما وأنا أتكلم اللغة الإنجليزية" ثم انتقلت إلى الفرنسية لتقول وهي تبتسم ابتسامة عريضة: "ما اسمك؟". يرمقها مخول بنظرات من الفخر، ويقول إن ابنته أصبحت معروفة في مدرستها في بيروت حيث تتعلم الفرنسية ورياضتي اليوغا والتايكوندو. وفي تناغم بين أدائها الغنائي والرياضي، تقاطع سما حديث مخول بأغنية فرنسية ثم تقفز على الدرج وتؤدي حركات راقصة.
يعبّر أفراد عائلة سما عن شعورهم بالارتياح حيال رحلتهم إلى كندا، يقول مخول:" نحن ذاهبون إلى بلد فيه أمان/ بلد يهتم بمواطنيه".
"إنه لشعور جميل".
أين الضحايا من حقهم في الحصول على التعويض؟
بحسب المحامين، ينبغي أن يتمتع ضحايا انفجار المرفأ بحقهم بالمطالبة بتعويض مالي إلى جانب التغطية الصحية.
تقول المحامية في منظمة المفكرة القانونية، غيدة فرنجية: "من المفترض أن يكون التعويض بمثابة مساعدة تعيد وضع الشخص إلى ما كان عليه قبل أن يتعرّض لأي أذى. فيتم التعويض عن أي أذى نفسي أو ضياع أي فرصة كالتوقف عن العمل بسبب الإصابات مثلًا".
كما انتقدت فرنجية، غياب أي مبادرة من قبل الدولة للتعويض. وتابعت:"بالطبع لا يوجد أي خطة في لبنان حيث تُرك الضحايا يتدبرون أمرهم بأنفسهم". تلقي فرنجية المسؤولية على المسؤولين اللبنانيين: "بصرف النظر عن كيفية نشوب الحريق يوم الرابع من آب، فإن السبب هو تخزين نيترات الأمونيوم في العنبر". وقد أشارت الدلائل في تقرير شامل لمنظمة هيومن رايتس ووتش بأن كبار المسؤولين الحكوميين في لبنان قد "أُبلِغوا بالمخاطر التي تُشكّلها نيترات الأمونيوم ولم يتخذوا الإجراءات اللازمة لحماية الناس". تابعت فرنجية قائلة إنّه بموجب القانون "تقع على الدولة مسؤولية التعويض عن أي ضرر نتج عن تخزين المواد الخطرة".
بحسب فرنجية، تُعتبر الجهات الثلاث التي يتعين عليها تعويض الضحايا الذين يقررون رفع دعاوى جنائية بخصوص ما تكبدوه من إصابات وخسائر، هي إلى جانب الدولة، شركات التأمين و"الأشخاص الذين تثبت إدانتهم" في المحاكمة المستمرة لانفجار المرفأ.
يمكن -نظريًا- لجرحى الانفجار السوريين – بما في ذلك اللاجئين غير المسجلين في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين- أن ينضموا إلى الجرحى اللبنانيين في مطالبتهم بالحصول على تعويض. ووضحت المحامية، يمنى مخلوف، من منظمة المفكرة القانونية أنه: "يمكن تعويض أي شخص، حتى لو كانت إقامته غير قانونية ولكن يتعين عليه رفع دعوى قضائية".
إلا أن السوريين الذين أجريت معهم المقابلات لغرض هذا التقرير قد استبعدوا فكرة رفع الدعاوى القضائية إلى حد كبير. ووفقًا للمفوضية، لا يملك 84% من اللاجئين السوريين تصاريح إقامة في لبنان ما يجعلهم في وضع هش غير مستقر بشكل مستمر. وقد كان احتمال مشاركة السوريين بالدعاوى القضائية المطالِبة بالتعويضات مستبعدًا. وتُعزي يمنى مخلوف حالة الشكّ هذه إلى "مشكلة إمكانية وصول الفئات المستضعفة إلى القانون وهي مشكلة أساسية في لبنان".
يقول أنور، الأب لستة أطفال، إنه لم يعد بإمكانه العمل كعامل بناء بسبب الإصابة في ظهره. ويدرك أديب أن قدرته على العمل في ورشة النجارة قد قُوضت بسبب الإصابة في ركبته. ولم يفكر أحد منهما بطلب الحصول على تعويض.
يقول أديب: "صاحب الورشة لبناني. وحتى الآن لم يحصل على أي تعويض لإصلاح ورشته، فكيف لي أنا، شخص سوري، أن أحصل على تعويض؟".
عادةً في أماكن العمل، يمكن أن يطالب العاملون أصحاب العمل بالحصول على تعويض، على أن يكون بينهما عقد عمل رسمي وتصريح عمل. وهو سيناريو مستبعد بالنسبة للعديد من السوريين.
تقول وفاء، زوجة بلال، الذي كان يعمل سابقًا كعامل توصيل طلبات الطعام، والذي خسر دراجته النارية يوم الانفجار ولم يعد بإمكانه العمل لشهور بعدها: "لا يمكنه المطالبة بحقوقه إذ لم يكن لديه أي عقد عمل أو أي تأمين".
أما جواد فعندما تواصل مع أصحاب عمله السابقين أخبروه بأنه قد خسر مكانه في العمل. يقول جواد، الذي لم يتمكن من المشي لمدة 3 أشهر بعد الانفجار بسبب الإصابة في قدمه :"لا يمكنني أن أشتكي للشركة. أنا سوري ولا يمكنني أن أفعل شيئًا". تعافى جواد من إصابته جزئيًا بفضل جلسات إعادة التأهيل التي وفرها له الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركيًا لكنه لا يستطيع الركض أو حمل الأوزان، إذ أنه بحاجة لإجراء عملية جراحية إضافية لإزالة المسامير المعدنية من قدمه لكن تنتابه حالة من التردّد حيال إجراء هذه العملية.
قرّر جواد العمل كعامل توصيلات ليتدبر أمر معيشته وزوجته وطفله الذي يبلغ من العمر 6 سنوات. وكانت العائلة قد تركت الشقة المستأجرة في مار مخايل التي تضرّرت بشكل كبير جراء الانفجار، لتنتقل إلى انطلياس شمالي بيروت، حيث سُمح لهم العيش في غرفة صغيرة بالطابق السفلي والحصول على ساعتين من الكهرباء يوميًا على أن يهتموا بأمور المبنى. يحلم جواد كل يوم بفرصة إعادة توطين: "نحن نعيش في بلد لا يحب الأشخاص السوريين. دعونا نذهب إلى أي بلد آخر، أرسلوني إلى السودان أو نيجيريا، فالمهم بالنسبة لي أن أترك لبنان".
كذلك تحلم عائلة الكنو، التي تعيش الآن في جدرا جنوبي بيروت، بحياة جديدة.،وتذكر العائلة أن الدين الذي راكموه لدفع نفقات الفحوص والأدوية اللازمة لهدى وعلي وفاطمة أصبحت قيمته الآن 25 مليون ليرة لبنانية أي ما يعادل 900 دولار أمريكي بحسب سعر صرف الدولار في السوق السوداء عند كتابة هذا التقرير، وقد سلمتهم منظمات غير حكومة ككاريتاس وبسمة وزيتونة بعد الانفجار مساعدات مالية ومشدّ لتقويم العظام لعلي لكن كل ما تبقى كان على نفقتهم الخاصة.
يفتح علي أريكة قابلة للطي ويسحب الفواتير والتقارير الطبية المخبأة في باطنها ويقول: "هذه فاتورة زيارة الطبيب وتبلغ 250000 ليرة لبنانية وتلك عائدة لصورة شعاعية وتبلغ 500000 ليرة لبنانية". أما زوجته فاطمة فتفتح علبة أدويتها وتبدأ في ترديد مواعيد استعمال كل حبة فيها وتقول: "ما زلت أتناول هذه الأدوية كل يوم". وتُعدّ المعاشات الضئيلة التي يتقاضاها الولدان إلى جانب المساعدة المقدمة من المفوضية مدخول العائلة الوحيد.
يقول علي، الذي أنهى انفجار الرابع من آب فجأة مسيرة عمله التي استمرت على مدى 15 عامًا كناطور مبنى: "لم يكترث لي (صاحب المبنى) نهار الانفجار. لا يوجد تعويض للأجانب". وبسبب الإصابات في جسده لم يعد قادرًا على المشي لمسافات طويلة، ويتابع "لا يمكنني أن أحمل أوزان، لقد خسرت نظري وسمعي وأشعر أنني أخسر توازني عند المشي، فأين لي أن أجد عملًا؟".
كان علي قبل الانفجار يستيقظ يوميًا للقيام بواجباته المطلوبة منه كناطور مبنى. أما اليوم، فيتجه عند السادسة والنصف من كل صباح نحو آخر الشارع حيث يعيش في جدرا، ويرى الأشخاص الذين ينتظرون الباصات العامة لتقلهم إلى أشغالهم. "أراهم كل يوم على الأوتوستراد وهم في طريقهم إلى عملهم. أراهم يذهبون كل يوم".
"وأنا أقف فقط على ناصية الشارع."
(ينشر هذا التحقيق بدعم وإشراف من شبكة نيريج للصحافة الاستقصائية)