(تنشر هذه المادة بالتعاون مع مجلة دار، وهي مترجمة إلى الانكليزية والفرنسية والنرويجية)
عندما وصلتُ باريس في العام 2017، قيل لي إنّ المنفى حالة اجتماعيّة. لطالما كانت لدي رغبة العمل على قصص صغيرة تتناول موضوعة المنفى، ولهذا التقيتُ بولينا أولينيكوفا، القادمة من موسكو، ووفا مصطفى، القادمة من مدينة مصياف (سورية). كلتاهما ناشطتان تعيشان من أجل حلم الحريّة، تكسران القواعد، وتهتمان بالقضايا في أوكرانيا وفلسطين بقدر اهتمامهما بحريّة بلديهما، روسيا وسوريا. أمضيتُ معهما مؤخرًا أسبوعًا في مدينة برلين، حيث أقنعتاني بأنّ المنفى حالة عقليّة. وعلى الرغم من ماضيهما وتجربتهما الصعبة، فإنّ بولينا ووفا من أكثر الأشخاص إيجابيّة واهتمامًا بالآخر الذين قابلتهم على الإطلاق.
منذ وقت ليس ببعيد، استقلتُ الحافلة ذهابًا وإيابًا بين برلين وباريس لمدّة 17 ساعة، وتلك تقريبًا نفس المدة التي أمضيتها في الحافلة حين أجبر الجيش الروسي سكّان حلب على النزوح القسري في شهر كانون الأول من العام 2016، بعد حصار دام سبعة أشهر كنّا فيها معزولين تمامًا عن العالم الخارجي. أكثر المشاعر وحشيّة التي يُمكن أن يتحملها البشر، هي عيش المنفى في البيت-الوطن.
في العام 2011، كانت سوريا تعيش الثورة، شاركتُ مثل وفا في المظاهرات السلميّة التي طالبت بحقوق الإنسان الأساسيّة وبالكرامة والحريّة. إذا ما أخبرنا شخص ما خلال تلك الأيام الأولى من الثورة أنّ الأمر سيتحول إلى حرب، وأنّنا سننجو لكنّنا سنفقد آباءنا، وأنّنا سنلتقي في برلين يومًا ما لنحكي عن آمالنا وخيباتنا، لما صدقناه.
حين حدثتني وفا عن والدها، بدا أنّ هناك رصاصة مستقرة في قلبها. شعرتُ بألمها الذي أيقظ ألمي، كأنّه الصدى. كان أبي مع الدفاع المدني ويرتدي خوذة بيضاء في حلب. قُتل خلال الحرب، ولم أعد مضطرًا لتحمل عبء الأمل في عودته غير المتوقعة. كان والد وفا ناشطًا سياسيًا، اعتُقل قبل تسع سنوات في دمشق ولم يُسمع عنه شيء منذ ذلك الحين. الأمل الذي تحمله وفا، هو الدافع اللانهائي لعملها السياسي.
في السنوات الإحدى عشر التاليّة لأيام الاحتجاج الأولى، اعتقل النظام السوري المدعوم من روسيا ما يقارب مئة ألف شخص، بسبب أو دونه، بهدف ترويع السكّان. كما قتل هذا النظام نفسه أكثر من 350 ألف شخص كي يبقى حاكمًا للبلاد بالألم والخوف. أيّ إنسان عادي سيتلاشى، عند نهاية المطاف، خلال محاولة إعادة شخص اختفى منذ زمن طويل. لكن وفا لم تفعل ذلك، بل تحاول مقاومة الألم والنسيان. اختارت وفا أن تكون صحفيّة وناشطة، مستندة على أمل لا يعتمد بدوره على العدالة كي يبقى.
تعيش وفا في برلين، في غرفة صغيرة مليئة باقتباسات لفريدا كاهلو وبصور أبيها. تعيش قليلًا من أجل نفسها، وكثيرًا من أجل والدها، ومن أجل المئة ألف معتقل في سجون الأسد. تقدّم نفسها في حسابها الشخصي في موقع انستغرام على إنّها ابنة علي مصطفى. "لمدة تسع سنوات لم أتوقف أبدًا عن التساؤل عمّا إذا كان أبي حيًّا أم ميتًا. لم أنم ليلة واحدة دون أن أتخيّل والدي إن كان جائعًا أو باردًا أو مُتعبًا. هل يغني؟ هل يعود؟"، وفوق كلّ هذا تهتم وفا بالقضايا الأوكرانيّة والفلسطينيّة، بقدر اهتمامها بحريّة بلادها وبحريّة والدها.
في العشرين من أيار 2022، وبعد سنوات من النضال من أجل حرية والدها، علي مصطفى، والدفاع عن حقوق الإنسان، حصلت وفا على جائزة بيمنتل فونسيكا التي تُمنح للصحفيات. في الشهر نفسه، انتشرت أنباء عن عفو عام عن السجناء الذين أدينوا بتهم سياسيّة أصدره النظام. كانت وفا تنتظر بفارغ الصبر، مع آلاف العائلات السوريّة، أسماء المُفرج عنهم، لمعرفة من سيطلق سراحه كجزء من العفو. كتبت وفا على حسابها الشخصي في موقع انستغرام٬ "عم دوّر على اسم أبي بين هالأسماء، مع كلّ «علي» بيكبر قلبي، ومع كلّ كنية مختلفة بيضيق صدري".
هذا تذكير لنا جميعًا بأنّ النظام السوري ما يزال في السلطة. في الواقع، حاول النظام حتى أنّ يرسل قواته إلى أوكرانيا لدعم روسيا هناك. من المستحيل تخيّل عدد الآباء الذين قد يُقتلون. كم عدد الموجودين في السجن بالفعل، أو من سيصبحون قريبًا هناك؟ كم عدد البنات والأبناء والأخوات والإخوة والأمهات والآباء والمحبين الذين سيتعلمون العيش في فَقد، في انتظار لا ينتهي، في بناء آمال وتوقعات؟
أقسى الصور التي رسمها الكاتب المسرحي الروسي أنطون تشيخوف في مسرحيته "العم فانيا" هي صورة "ضياع العمر" بكلّ أشكاله، أن يضيع العمر مع الشخص الخطأ، والعمل الخطأ، والمكان الخطأ، والخيارات الخطأ". في القراءة الأولى تبدو كلمات تشيخوف منطقيّة، لكنها ليست خيارات سهلة. لا يوجد كابوس أسوأ من بلوغ التاسعة عشر من العمر وأنت مطارد/ة من قبل الشرطة، واكتشاف أنّ والدك يعارض الخيارات التي اتخذتها/ اتخذتيها.
هذا بالضبط ما حدث مع بولينا حين انخرطت بشكل كامل في النضال ضدّ فلاديمير بوتين. كان من المفترض أن تكون بكليّة الكيمياء في موسكو، وأن تقضي الوقت مع أصدقائها وعائلتها، لكن تمّت متابعتها من قبل الشرطة واحتُجرت لعدّة أيام بسبب نشاطها السياسي. الشرطة حاصرت شقتها في السادس عشر من كانون الثاني 2022، مما دفعها مؤخرًا إلى مغادرة البلاد، في رحلة طويلة بالحافلة استمرت لسبعة أيام، لم تأخذ فيها معها سوى لعبتها المُسماة Uchikuvshinum، وهي قطعة مجتزأة من طفولتها الحلوة. من خلال قضاء الوقت مع بولينا، يمكنك بسهولة رؤية حبها لبلدها، وأن نشاطها السياسيي كان فقط بدافع الحب.
يدّعي بوتين أنّه يدافع عن بلاده، وعن سوريا أيضًا، لكنّه سبب خروجي، وخروج بولينا، من منازلنا، وسبب لقائنا في برلين اليوم. تُعرف روسيا وسوريا كمكانين خطرين مليئين بالقمع والحرب، لكنّ هذه الأماكن كانت بيوتنا الجميلة المليئة بالألوان والأغاني الجميلة. تم التقاط صورة FCK PTN أمام السفارة الروسية في برلين بدافع الحب ... حب الحرية. (أغتنم هذه الفرصة لأشكر البائع الذي باعنا القميص بنصف السعر بعدما سمع قصصنا).قد تكون بولينا شخصًا في التاسعة عشر من عمرها فقط، لكن حكمتها، وعيها وطريقتها الخاصة في رؤية الحياة تجعلها تبدو أكبر سنًا. تعتبر بولينا برلين مدينة باردة. المكان الذي تقضي فيه معظم وقتها هو الشارع الذي تقع فيه السفارة الروسيّة، من أجل مواصلة حملتها ضدّ الحرب في أوكرانيا، مكرّسة ما تبقى من وقت فراغها لزيارة المتاحف، من أجل فهم النزاعات عبر التاريخ. تحاول استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتوعية الشعب الروسي بخطورة الوضع.
تحدث لنا تشيخوف في مسرحيته عن العديد من الخيارات التي تبدو منطقيّة، لكنّها خيارات تواجه بالكثير من الصعوبات والتحديات عند الممارسة العمليّة، ومع ذلك، أدّت هذه الخيارات ببولينا إلى حياة تناسبها بشكل أفضل. قريبًا ستغادر برلين لدراسة العلوم السياسيّة في جامعة نيويورك في أبو ظبي. إنّها متحفزة وقد بدأت بالفعل في تعلّم اللغة العربيّة. عالم آخر، ثقافة أخرى، مغامرة أخرى تنتظرها.