"من أجل فهم جزء من تاريخ هذه البلاد"

قراءة في كتاب المستشرقة غيرترود بيل، سوريا: الصحراء والخُضرة


أعادت مؤخرًا دار ذا فوليو سوسايتي للنشر (The Folio Society Ltd) في لندن إعادة طباعة كتاب الباحثة والمستشرقة البريطانية غيرترود بيل، "سوريا: الصحراء والخُضرة" (Syria: The Desert and the Sown)، والذي نُشر لأول مرة في العام 1907. حكاية ما انحكت تواصلت مع الدار لمعرفة أسباب إعادة نشر هذا الكتاب اليوم بعد حوالي مئة وخمسة عشر عامًا من نشره لأول مرة، إضافة إلى عرض ونقد لبعض محتوياته، عدا عن التعريف بمؤلفته والدور الذي لعبته في المنطقة.

01 تشرين الأول 2022

دلير يوسف

كاتب ومخرج وصحافي من سوريا، أخرج عددًا من الأفلام السينمائيّة منها: "منفى"، و"بانياس: البدايات"، و"أمراء النحل"، و"القصيدة الأخيرة التي أراد شتيفان بوخفالد أن يكتبها". صدر له مطبوعًا: "حكايات من هذا الزمن" (2014)، و"صباح الخير يا أحبّة" (2020)، و"قاعدة الخوف الذهبيّة" (2022). مقيم حالياً في برلين- ألمانيا.

يُمكن اعتبار كتاب "سوريا: الصحراء والخُضرة" بشكل ما، كتاب مشاهدات أو كتابًا في أدب الرحلات أو كتابًا تاريخيًا أو كتابًا سياسيًا، أو مزيجًا من كلّ ذلك، لكن دار النشر  (The Folio Society Ltd) اعتبرت في إجابتها عن سؤال حكاية ما انحكت المتعلّق بتصنيف الكتاب، أنّهم يصنّفون الكتاب على أنّه كتابٌ في أدب الرحلات، "ومثل كلّ كتب أدب الرحلات العظيمة، يكون جزء منه سيرةً ذاتيّة وجزء آخر تاريخي وجزء يُعلّق فيه على الكاتب/ة على المنطقة، وعلى سكانها".

أمّا عن توقيت إعادة نشر الكتاب بعد حوالي مئة وخمسة عشر عامًا من نشره في المرة الأولى، أجاب مسؤولو النشر في دار فوليو سوسايتي، أنّ الكتاب يعتبر عملًا كلاسيكيًا يستحق الوصول إلى شريحة واسعة من الجمهور، وأنّه من أكثر الكتب طلبًا في قسم أدب الرحلات عند الدار، "لكن أيضًا الوضع في سوريا أثار انتباهنا للمنطقة وأهلها. ومن أجل فهم حقيقي لما يحدث هناك من وجهة نظر نقديّة، علينا أن نفهم تاريخ هذه البلاد، أو على الأقل جزءًا من هذا التاريخ".

تكمن أهميّة الكتاب في أنّه يُظهر منطقة ممتلئة بالنزاعات والحروب والديكتاتوريات والاحتلالات مثل الشرق الأوسط في نقطة زمنيّة محددة، كانت تحكمه فيها الإمبراطوريّة العثمانيّة، حيث يعيش جميع أنواع الناس والأديان. كذلك فإنّ الكاتبة هي امرأة بريطانيّة فكتوريّة لا يراها الرجال البريطانيون على أنّها قادرة أن تكون في سويتهم. كُتب الكتاب بلغة سلسة بسيطة، لكن مدركة للوقائع، ولأهل البلاد.

غيرترود بيل

عُرفت مؤلفة الكتاب، غيرترود بيل، المولودة في مقاطعة درم (Durham) في شمال شرق إنجلترا في العام 1868، بدورها المحوري في منطقتي بلاد الشام (سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن) والعراق، خلال فترة الحرب العالميّة الأولى وما بعدها، حيث ساعدت المسؤولين البريطانيين بشكل مكثّف على ترتيب أوضاع المنطقة، ولا سيما العراق، حتى لقّبها العراقيون القدماء بلقب "الخاتون" (وصف عثماني للنساء الملكيّات)، وبعضهم أسماها "أم العراق"، في المقابل قال آخرون إنّها جاسوسة بريطانيّة، لا يختلف دورها عن دور لورنس العرب (توماس إدوارد لورنس)، الذي ربطته علاقة وديّة مع غيرترود بيل، والذي ساهم بشكل فعّال في الثورة العربيّة الكبرى، وإنشاء دول عربيّة مكان السلطنة العثمانيّة المُنحلّة.

لكنّ، ورغم اختلاف الآراء في دورَي لورنس العرب ومِس بيل في المنطقة، إلّا أنّهما ساهما بشكل كبير في شكل حدود دول المنطقة، فمثلًا ساهمت غيرترود بيل، الباحثة والمصوّرة والكاتبة والسياسيّة، في بناء حدود العراق كما نعرفه بشكله الحالي، وفي تنصيب الملك فيصل على رأس حكومة العراق الجديد، وفي كتابة دستوره الأول بعد سيطرة بريطانيا على البلاد التي كانت تحت حكم السلطنة العثمانيّة قبل ذلك، وساهمت في تأسيس المتحف العراقي، وكانت الرئيسة الأولى للهيئة العامة للآثار والتراث العراقيّة (1922-1926).

قبل مجيء مِس بيل إلى العراق في العام 1914 والعيش فيها لبقيّة حياتها حتى موتها ودفنها في بغداد عام 1926، ترحلت وسافرت في مناطق السعوديّة والأردن وسوريا وفلسطين ولبنان، وسجلت كثير من الملاحظات والتقطت الكثير من الصور للمنطقة ونشرتها في عدد من المكتب والمراسلات.

سوريا: الصحراء والخُضرة

في كتابها الذي أُعيد نشره مؤخرًا، سوريا: الصحراء والخُضرة، تسجّل بيل مشاهداتها أثناء تنقلها بين مدن بلاد الشام المختلفة من القدس ومدن فلسطين الداخليّة، مرورًا بمدن الأردن فسهل حوران ودمشق وريفي حمص وحماة وسهل البقاع، وصولًا إلى مدن وبلدات الشمال السوري وريف حلب، انتهاء بأنطاكية وساحل المتوسط.

رسمت غيرترود بيل في كتابها خريطة جغرافيّة للمنطقة، إضافة إلى الخريطة الاجتماعيّة والمدنيّة، فقابلت وصوّرت سكان هذه المدن من عرب وأكراد وشراكس وأرمن وآشورين، ومن مسلمين سنة ودروز ومسيحيين ويهود، وكتبت مشاهداتها بطرق مختلفة، فمرة كانت الملاحظات طويلة ومُفصلّة ومرة كانت مختصرة لا إطالة فيها.

يحتوي الكتاب المؤلف من ثلاثمئة وست وثلاثين صفحة من القطع الكبير على عدد كبير من الصور التي التقطتها بيل في تنقلاتها، مظهرة الأوابد الأثريّة في بلاد الشام وعددًا من الأماكن المميزة مثل الجامع الأموي في دمشق وشوارع القدس القديمة وغيرها الكثير، كما أُدرج في الكتاب عدد كبير من البورتريهات (الصور الشخصيّة) لأشخاص محليين قابلتهم خلال تنقلاتها، فصورت رجالًا ونساء فلسطينيين وسوريين وأردنيين ولبنانيين، وهم يعيشون بشكل طبيعي في بلادهم/ن.

يبدأ الكتاب من وصول غيرترود بيل إلى مسجد عمر الواقع في الفناء الجنوبي من كنيسة القيامة في حارة النصارى في مدينة القدس لتنتقل عبر شوارع المدينة وأماكنها المقدّسة، ومن هناك ترتحل نحو غور الأردن ونهر الأردن، ثمّ تتجه نحو البحر الميت عابرة الأراضي الأردنيّة لتصل إلى عمّان ومسرحها القديم وأسواقها. ينتقل الكتاب ليحكي عن الآثار المتواجدة في الأردن وهي في طريقها نحو البلاد السوريّة تعبر صحراء/ بادية، واصلة إلى سهل حوران وجبل الدروز لترسم صورة لحياة الدروز آنذاك. 

تدخل غيرترود بيل مدن الشام الداخلية، فتصل الغوطة ودمشق وتحكي عن جامعها الكبير وتكتب مشاهداتها عن الأسواق والبشر، لتصل بعدها إلى قرى ريف حمص فمدينة بعلبك وآثارها الشهيرة، وتكتب عن الأرز اللبناني وعن مدن لبنان وأهله. 

يكاد المرء وهو يقرأ أن ينسى أين تقع هذه المدن، في أي دولة. حينها، أي حين كُتب الكتاب أثناء تنقلات مِس بيل، كانت كلّ هذه المدن تتبع السلطنة العثمانيّة، فكانت مدن فلسطين والأردن وسوريا ولبنان متداخلة، فترى الباحثة الإنجليزيّة تنتقل من ريف حمص (الواقعة حاليًا في سوريا) إلى مدن وبلدات بعلبك وطرابلس (الواقعة الآن في لبنان) لتعود مرة أخرى إلى ريفي حمص وحماة لتروي مشاهداتها في قلعة الحصن وغيرها من الأماكن، وكأنّ كلّ هذه المدن بلادٌ واحدة، وهذا ما كانت عليه. (الآن وبعد أكثر من مئة سنة يحتاج المرء إلى عشرات الموافقات الأمنيّة للانتقال من مكان إلى آخر في هذه البلاد).

تصل بيل في تنقلاتها إلى مدينة حلب وتحكي عن قلعتها وطعامها وناسها، لتنتقل شمالًا نحو دير سمعان ومدن وبلدات الشمال السوري والجنوب التركي، لتُنهي رحلتها/ كتابها في مدينة أنطاكيّة، التي تتبع لواء اسكندرون الواقع اليوم في أراضي الدولة التركيّة. 

رغم تعلّم مِس بيل العربيّة وحديثها مع أهل المنطقة بالعربيّة إلّا أنّ كتابها لم يخلو من تلك النظرة المركزيّة الأوروبيّة الاستشراقيّة لبلاد الشام. يعزو المرء هذه النظرة إلى أنّ غيرترود بيل كانت تملك نظرة امرأة بريطانيّة تنظر إلى بلاد الشام والعراق نظرة خارجيّة، وإن تكلمت بلسان المدن التي تسافر عبرها، لكن ورغم ذلك هي نظرة مميزة، فقد كانت أول امرأة أوروبيّة تسافر في هذه الأراضي وتكتب عنها وتصوّرها. ما يجعل الأمر مميزًا ككلّ هو وقوع الباحثة البريطانيّة في حب هذه البلاد وقرارها لاحقًا الاستقرار فيها، لتشتغل وتقضي شطرًا كبيرًا من حياتها، وتموت وتدفن فيها. 

مقدمة الكتاب التي كتبها البروفسور في جامعة أوكسفورد داون تشاتي (Dawn Chatty) لا تخلو من تلك النظرة الاستشراقيّة، وحتى غلاف الكتاب الذي يبدو من الخارج كتابًا دينيًا إسلاميًا قديمًا، وعن سؤال حكاية ما انحكت لدار النشر عن ذلك، ردت الدار على لسان مصمّمة الغلاف ييرين تونغ (Yehrin Tong)، أنّها "جربت شكل أوراق شجر الأعمدة الكورنيثيّة (وهي الأعمدة المعتمدة في النظام الكورنيثي، أحد الأنظمة الكلاسيكيّة من العمارة الكلاسيكيّة). ذكرتني أشكال ورق الأكانثوس (Acanthus) باللهب، الذي اعتمدته في تصميم شكل الشمس المزخرفة. في الكتاب ذُكرت النار والحرارة والجلوس بجوار نيران المخيم مع سكّان البلاد وموجات الحرّ في الصحراء ونار الشمس بشكل متكرر..." ولهذا بدا التصميم على ما هو عليه.

ربّما نعيد قراءة هذا الكتاب بعد مئة عام أخرى، لنرَ كيف كان شكل بلادنا وكيف أصبحت، ونحن الذين نرى تاريخها وحجارتها وأناسها اليوم، يتغيرون أمامنا بشكل مستمر.

ربّما كان التغيير هو درس التاريخ الذي نتعلّمه من مثل هذه الكتب.

مقالات متعلقة

لماذا لا نسخر من الوحش؟ الكوميديا حلًا

02 آب 2022
"لنضحك يا رفاق" هذا ما تدعونا إليه الكاتبة "فدوى العبود" في مجموعتها القصصيّة المعنونة بـ"تلّة يسكنها الأعداء"، فالحل، دائمًا، يكمن في الضحك، لأنّه نمط من أنماط التضامن بين الناس، طريقة...
كانت السرديّة منذ بدايتها بصريّة

22 حزيران 2022
قام فضاء لاغرانج بوينتس (Lagrange Points) في العاصمة البلجيكيّة بروكسل، بتنظيم مجموعة من الفعاليات الثقافيّة والفنيّة، تضمنت عروضًا سينمائيّة وحفلات موسيقيّة ومعرض تصوير ضوئي وغيرها من النشاطات الثقافيّة والفنيّة. إحدى...
بسطات الكتب في دمشق: الذاكرة والمحو

13 حزيران 2022
"تحوي هذه البسطات آلاف الكتب وفي كلّ كتاب آلاف، وربما مئات الآلاف من الكلمات، والذي يفكر إحصائيًا قد يُصاب بالجنون". تحاول هذه الحكاية البحث عن قصص بسطات الكتب المنتشرة وسط...
النسخة الفرنسيّة مني

06 نيسان 2022
بعد كتابتها عشرات الروايات باللغة العربيّة، والتي تُرجمت إلى لغات متعدّدة، خاضت الكاتبة والروائيّة مها حسن، تجربتها الكتابيّة الأولى باللغة الفرنسيّة. تكتب في هذا النص الذاتي عن تجربتها تلك، عن...
الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد