تصوير: علي حاج سليمان، وهو مصور سوري مستقل مقيم في شمال سوريا، نُشرت صوره في العديد من الصحف والمواقع العالميّة مثل الجزيرة الإنجليزيّة ونيويورك تايمز وهيومن رايتس ووتش.
نص: دلير يوسف
تُنشر هذه المادة بدعم من ريلينك ميديا، وقد تمّ التصوير في مخيم الروضة في منطقة مشهد روحين في شمال غرب سوريا خلال شهر تشرين الثاني 2022.
تشرق الشمس فوق الخيمة. خيمة صغيرة تُشكّل بيتًا. بيتًا لا يقي حرّ الصيف ولا برد الشتاء. شتاء يكون في كلّ عام أقسى ممّا سبقه من أعوام. أعوام طويلة مرّت مذ كان لكثير من سكّان هذه المخيمات بيت تشرق فيه الشمس.
ما الذي فعلناه كي يقابلنا العالم بكلّ هذا؟ ما الخطأ في وجودنا؟ ما هو الخطأ الذي اقترفناه في هذه الحياة كي نقابل بكلّ هذا الألم والعذاب؟ أين هو العالم الذي يعيش "أزهى عصور السلام" من مآسينا؟ أين هي قيم العالم المتحضر، العالم الذي تحوّل إلى قرية صغيرة تحكمها التكنولوجيا المقيّدة بقيم ومثل عليا، من معاناتنا؟ كيف يمكن أن يكون العالم هو نفسه، وأن تكون الحياة هي نفسها بعد كلّ ما حدث لنا؟
هل حدود هذا المخيّم هي حدودنا؟ ما هي حدود أحلامنا؟ السماء أم البحر؟ ما الذي نقوله لأطفالنا الذين فتحوا أعينهم ليروا أنفسهم في الخيام؟ كيف أشرح لطفل صغير معنى المدرسة؟ البيت؟ الشارع؟ الحديقة؟ الحريّة؟ الحياة؟
أجلسُ أمام خيمتي. أنظر حولي وأفكر بنفسي وبحياتي السابقة، أفكر بكلّ ما فعلت وبكل ما أودّ فعله. أفكر ما الذي كان سيحدث لو قمت بهذا الفعل عوضًا عن ذاك الفعل الذي قمت به. أفكر لو أنّني أستطيع تبديل أفعال سابقة بأفعال أُخرى.
كنّا نلعب كرة القدم في شوارع مدننا وبلداتنا وحاراتنا الضيقة. كنّا نخترع لعبًا لا تكلّف أهلنا الكثير. بيوتنا متلاصقة وبالكاد يعرف الغريب عنها حدود كلّ بيت، ويكاد كلّ شخص من الحارة يعرف شكل بيوت الآخرين من الداخل.
نلعب في كلّ مكان ونتعارك ونتضارب ثم نتصالح. كلّ رجال الحارة آباؤنا وكلّ نساء الحارة أمهاتنا، كلّ الشيوخ أجدادنا وكلّ العجوزات جداتنا.
كان الجميع فقراء، عائلات كثيرة تعيش تحت خط الفقر رغم أنّ الحكومة تعتبرها من الطبقة الوسطى. ورغم أنّ أفرادها لا يعتبرون أنفسهم فقراء، لكنّنا اليوم فقراء ولا أفق أمامنا، حدودنا تقف عند حدود المخيم، أو حتى عند حدود خيمنا.
هذه الخيمة التي نحاول أن نستبدلها بأشياء أخرى، خيام تحمي بشكل أفضل، بيوتًا مسبقة الصنع. أيّ شيء يجعل حياتنا أفضل… ولو قليلًا.
لا نفعل الأشياء لوحدنا، لا نستطيع. يساعدنا أصدقاؤنا، يساعدنا أهلنا، يساعدنا رفاقنا، أو من بقي منهم على قيد الحياة. أو مثلًا يساعدنا من تقاسموا معنا هذا الطريق في بناء بيوتنا الجديدة المؤقتة.
حسنًا، خلال السنوات السابقة صُرفت الملايين، أو ربما أكثر، على الخيام. المنظمات الإنسانيّة كانت تقول منذ البداية أعطوا الناس خيامًا، وهذا يعني الكثير والكثير من الخيام. هذه الخيام لا تعيش طويلًا، بسبب الظروف المناخيّة المتغيرة. هذه الخيام تعيش فقط لستة أشهر في أحسن الأحوال، ويجب استبدالها. من غير المقبول أن تعيش أيّ عائلة في أيّ خيمة، فكيف بنا نحن الذين نعيش في هذه المخيمات لسنوات طويلة.
نحن نتحدث عن أشخاص كبار في العمر، عن نساء وأطفال وذوي احتياجات خاصة. لا يُمكن ترك أولئك الأشخاص لسنوات طويلة في الخيام، الخيام التي تتمزق خلال الرياح، والتي تسرب المياه عندما تُمطر. خيام لا توفر الدفء في الشتاء ولا تحمي من الحرّ في الصيف.
لهذه الخيام مشكلات كثيرة، كثيرة جدًا. لقد رأينا مئات الحرائق في المخيمات مثلًا. هناك أيضًا وضع النساء الذين يعيشون في هذه المخيمات، حيث تكون الحياة غير مستقرة، في بيئات مزدحمة حيث يعيش المئات دون أن يكون لديهم حتى باب يغلقنه على أنفسهن. كثير من هذه العائلات تطلب مساكن أكثر أمانًا من أجل هذه الأسباب.
من أجل ذلك نبني بيوتًا مؤقتة جديدة. ربّما تكون أكثر أمانًا من تلك الخيام التي التهمت حيواتنا.
هذه النار تأكلنا الآن، هذه النار تأكلنا منذ سنوات، هذه النار التي التهمت بيوتنا وقلوبنا لن تقف هنا، هذا المخيم طريقه الخراب مهما كان جميلًا. هذه النار المشتعلة لن تخمد فوق بيوتنا وينتهي الأمر هكذا، هذه النار ستأكل العالم كلّه، هذه النار ستغير وجه العالم. هذه هي طبيعة الأشياء: هذه النار ستأكل العالم كله، عاجلًا أم آجلًا، وبيوتنا هي مثال لما سيكون عليه العالم مستقبلًا.
لم يتغير شيء ولن يتغير شيء. انظروا إلى غروب الشمس أو إلى شروقها فوق بيوتنا التي هي بكلّ تأكيد أفضل من خيامنا القديمة، لكن هل حقًا هذا مكان يسع أحلام طفل صغير يريد أن يصير لاعب كرة قدم يلعب في كأس العالم، أو رسامٍ يريد أن يعرض لوحاته في كبرى المتاحف، أو شخص يريد أن يعيش مع عائلته بسلام، وفقط بسلام؟