(هذا المقال جزء من ملف بالشراكة بين "حكاية ما انحكت" و"أوريان ٢١"، يستكشف عواقب الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وسوريا في فبراير 2023).
قبل 6 شباط/ فبراير 2023، كنت قد بدأت أفقد أيّ أمل في إعادة توحيد السوريين في مختلف مناطق البلاد. وبالفعل، كان حينها الصراع في سوريا قد دخل عامه الثاني عشر، والبلاد مقسّمة إلى أربع مناطق نفوذ منذ الاتفاق الشهير في أذار/ مارس 2020 بين الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
سلطات متعدّدة ولا استجابة إنسانية مشتركة
يقع جنوب غرب البلاد والمنطقة الوسطى والساحل تحت سيطرة النظام في دمشق، المدعوم من روسيا وإيران. أما الشمال الشرقي من البلاد، فهو تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، لمكافحة داعش. ينقسم شمال غرب البلاد إلى منطقتين، إحداها تحت السيطرة التركية المباشرة وتُديرها الحكومة الانتقالية السورية المرتبطة بالمعارضة، والأخرى تحت سيطرة هيئة تحرير الشام (التابعة سابقًا لتنظيم القاعدة في سوريا) وتُديرها ما يُسمّى حكومة الإنقاذ السورية. تلاشت مرحلة الصراع المحتدمة، وبدأ يتحوّل لصراع جامد شبه منسي، خصوصًا في ظلّ تركيز وسائل الإعلام بشكل كامل على الغزو الروسي لأوكرانيا.
لكلّ منطقة من هذه المناطق أوضاعها الداخلية بالحوكمة والاقتصاد والحياة الاجتماعية، وجميع جوانب الحياة العامة الأخرى، مما أدى إلى بلورة العزل والحدود الفعلية، وجعل العمل المتقاطع أمرًا مستحيلًا. فشلت محاولات إقامة استجابات إنسانية مشتركة عدّة مرّات، لا سيما في التصدّي لجائحة كورونا، حيث طوّرت كلّ منطقة آليتها للاستجابة. فاختلفت أساليب العمل الإنساني حسب كلّ منطقة، وكان من شبه المستحيل التنقل بين المناطق. أمّا خطابات الكراهية، فكانت على أشدها، حيث اتهّم الناس بعضهم البعض بالويلات والعنصرية وجميع أنواع التمييز. ابتعدت القوى المجتمعية عن بعضها البعض، وانشغلت تمامًا بتحدياتها وصعوباتها الخاصة... أو على الأقل، هكذا كان يبدو الوضع.
وجاء الزلزال...
وقع الزلزال الأول في الساعة 4:17 صباحًا في 6 شباط/ فبراير، تلاه زلزال ثانٍ في الساعة 13:24 في نفس اليوم. هو أقوى زلازل يضرب المنطقة منذ قرون. وجد مئات الآلاف أنفسهم محاصرين تحت الأنقاض أو بلا مأوى. فقد أكثر من 50,000 شخص حياتهم بين جنوب تركيا وشمال سوريا. حجم الدمار كان خيالياً، وامتدّ على مساحة عشرات الآلاف من الكيلومترات المربعة. دُمِرت مدن تاريخية مثل أنطاكيا برمتّها، وانشغلت الحكومة التركية بالكامل بالتعامل مع الوضع داخل تركيا. أثّر الزلزال أيضًا على المناطق التي تقع تحت سيطرة النظام، لا سيما منطقة جبلة على الساحل وأجزاء من مدينة حلب. انهارت عدّة مبانٍ وواجهت المستشفيات صعوبة في استيعاب جميع المصابين. كان لا بدّ من نقل بعضهم على طول الطريق إلى دمشق (رحلة 320 كم). أمّا الوضع في شمال سوريا، فقد كان أكثر هشاشة، حيث تعرضت المنطقة سابقًا لأضرار جسيمة نتيجة القصف المستمر من قبل القوات الجوية السورية والروسية. تضرّرت الطريق الرئيسية لإيصال المساعدات الإنسانية إلى شمال سوريا بشدّة، ولم يكن هناك بدائل متاحة، حيث إنّ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة كان قد وافق سابقًا في كانون الثاني/ يناير 2023 على ممرّ واحد فقط لتوصيل المساعدات الإنسانية عبر الحدود. وكانت الإمدادات عبر خطوط النزاع مستحيلة، فجميع نقاط التفتيش مغلقة. تضمنت المناطق التي تعرّضت لأضرار جسيمة بلدات جنديرس في شمال حلب، وحارم وسلقين في إدلب.
تحوَّل الفايسبوك السوري بين عشية وضحاها من ساحة حرب إلى ساحة تضامن
تخضع هذه البلدات لنماذج حكم مختلفة ومن المستحيل تنسيق العمل بينها. عندما توافدت فرق البحث والإنقاذ والمساعدات الإنسانية إلى تركيا، تأملنا بأن ينعكس بعض آثار هذه المساعدات على سوريا، لكن لم يحدث ذلك. لم تدخل فرق البحث والإنقاذ شمال سوريا، ولم يكن هناك إمكانية لتوصيل المساعدات الإنسانية. وكالات الأمم المتحدة وقفت عاجزة تمامًا، وتُركت الناس في الشوارع لتواجه مصيرها. بدا الوضع وكأنّه فعليًا نهاية العالم.
تجاهل سنوات العداء
في هذه اللحظة الكارثية والعاجزة، تجمّع السوريون معًا. في غضون ساعات من وقوع الزلزال، جُهزّت قافلة مساعدات إنسانية في شمال شرق البلاد. فقد كانت جنديرس إحدى المدن الأكثر تضرّرًا، وهي مدينة ذات أغلبية كردية. كما يعيش العديد من النازحين قسرًا من دير الزور في شمال غرب سوريا. تجاهل الناس جميع التحديات اللوجستية وسنوات العداء بين شمال شرق وشمال غرب سوريا، وبدؤوا في دير الزور والرقة في التبرّع بكل ما يمكنهم تقديمه: خيام، فرش، بطانيات، وسائد، مواد غذائية، وما إلى ذلك. قادت هذه الجهود منظمتان من المجتمع المدني في دير الزور: "ديرنا" و"ماري". كلاهما عضو في تحالف المجتمع المدني في شمال شرق سوريا، الهيئة التي قامت بتنسيق مرور المساعدات. وبدأ العديد من الأشخاص ببيع ما يملكون من ذهب أو فضة للتبرّع للقافلة. اجتمعت النساء في الرقة في ساحة النعيم للتبرّع بالذهب والمجوهرات. في غضون ثلاثة أيام، ضمّت القافلة 77 شاحنة واتجهت من شمال شرق سوريا إلى الشمال الغربي. ثم جاء تحدّي السماح للقافلة بعبور معبر "عون الدادات" (الحاجز بين المناطق التي تسيطر عليها تركيا والمناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية). لم يجرؤ أحد من المعارضة السورية على اتخاذ قرار، حيث كان الجميع ينتظر رد فعل من تركيا، التي كانت بدورها غارقة بالكامل في مواجهتها للزلزال. حاولت عدّة منظمات من المجتمع المدني، بما في ذلك تلك التي أقودها، التوّسط لتسهيل عبور القافلة. في نهاية المطاف، اتخذ زعماء القبائل على كلا الجانبين من الخط القرار النهائي، وأحضروا المساعدات بدعم من الدفاع المدني السوري. وهناك مثال آخر على مدى سرعة وكفاءة وفعالية الفاعلين المدنيين في الاستجابة للطوارئ: فقد كانوا دائمًا أفضل المفاوضين خلال العقد الماضي من النزاع، عندما يتعلّق الأمر بالاحتياجات الإنسانية، بما في ذلك عمليات الإجلاء. بدأت المساعدات أيضًا في الوصول من إقليم كردستان العراق عن طريق مؤسسة بارزاني التي قامت بتوصيل المساعدات عبر الحدود مباشرة إلى جنديرس. حدث ذلك بينما كانت الأمم المتحدة عاجزة تمامًا ولم ترسل قافلة واحدة إلى المنطقة، إلا بعد ثمانية أيام من الكارثة. في حين أنّ قافلة لنقل صهاريج للوقود كانت أقل حظًا في عبور الحدود، في تذكير صارخ بمدى تسييس البيئة الإغاثية واستقطابها المنتشرين بشدّة في المنطقة. أراد كلّ من الفاعلين السياسيين والعسكريين أن يدّعوا أنهم أنقذوا الناس، وبالتالي لم تعبر قافلة الوقود.
أراد كلّ من الفاعلين السياسيين والعسكريين أن يدّعوا أنهم أنقذوا الناس، وبالتالي لم تعبر قافلة الوقود
لم تأت المساعدات فقط من شمال شرق سوريا. بدأ العديد من الأصدقاء والعائلات ونشطاء المجتمع المدني في مناطق سيطرة النظام بجمع المساعدات أيضًا لإرسالها إلى المناطق الأكثر تضرّرًا، إما بشكل عيني إلى المناطق التي يمكنهم الوصول إليها، أو كأموال أرسلت عبر نظام الحوالة إلى مناطق أخرى. تطوّع المدنيون لإخراج الناس من تحت الأنقاض وتوزيع الخيام والمواد الغذائية ووسائل المأوى الأساسية على السكان المتضرّرين. على الرغم من أن النظام السوري لم يتدخل في الساعات الأولى، إلا أنّه سرعان ما حاول السيطرة على جميع هذه الأنشطة وفرض قنواتي تسليم: الهلال الأحمر العربي السوري والأمانة السورية للتنمية (جمعية خيرية تديرها زوجة بشار الأسد). كان من الواضح أنّ هاتين الجهتين لن تُرسلا أيّ مساعدات إلى شمال غرب سوريا، لكن بدأت المساعدات في الوصول إلى المناطق المتضرّرة على الساحل وفي مدينة حلب، عبر التنسيق مع الهلال الأحمر العربي السوري واللجنة الدولية للصليب الأحمر. مع ذلك، لم يكن الممثلون المدنيون راضين عن ذلك، وقرّروا تجاوز الحصار المفروض من قبل النظام في شمال غرب سوريا عن طريق إرسال الأموال. شرع الناس بسرعة في التبرّع بكلّ ما يمكنهم تقديمه نقدًا أو ذهبًا، وأُنشِئَت شبكات على الفور لتوصيل الأموال بأكثر الطرق فعالية؛ وذلك بشكل رئيسي عن طريق الجهات الموثوقة التي تعمل في المناطق المختلفة باستخدام نظام الحوالة.
اختفاء خطابات الكراهية
تطوّر آخر مثير للاهتمام هو اختفاء خطابات الكراهية تقريبًا من وسائل الإعلام التقليدية والجديدة. لم تختف فقط، بل سرعان ما استبدلت بدعوات للتضامن والتعاضد. تحوَّل الفايسبوك السوري بين عشية وضحاها من ساحة حرب إلى ساحة تضامن. دُعي الجميع إلى تجاوز التجاذب السياسي في الاستجابة للزلزال. بدأت حملات التبرعات عبر الإنترنت في كلّ مكان، وأنشئت قواعد بيانات للأشخاص المفقودة لتوحيد الوصول إلى المعلومات. تبادل سكان المناطق التي يسيطر عليها النظام النداءات لجمع التبرعات للخوذ البيضاء وفريق ملهم التطوعي (منظمتان غير حكوميتين لطالما اعتبرتا أنهما مرتبطتان بالمعارضة)، وهو أمر غير مسبوق. أمّا فرق البحث والإنقاذ من الخوذ البيضاء، التي اتُهم أعضاؤها بأنهم إرهابيون تابعون لتنظيم القاعدة قبل بضعة أشهر فقط، فقد رُحّب بهم كأبطال وشُورِكَت صورهم على نطاق واسع. مُورس ضغط على وسائل الإعلام الحكومية لإدراج الضحايا من جميع المناطق. وأنشئت مجموعات واتساب على الفور للتحقّق من سلامة الأصدقاء والعائلات ومكان تواجدهم، إلى جانب مجموعات تنسيق لإدارة الاستجابة ومشاركة الاحتياجات والأولويات ووضع المقترحات المشتركة.
اليوم، بعد ستة أشهر من الكارثة، لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي تشارك هذه الرسالة، أو صمتت. التحدّي الرئيسي بعد الزلزال هو كيفية الحفاظ على حركة التضامن هذه والبناء عليها. لقد أثبت السوريون أنّ خطوط النزاع مصطنعة، وأنهم ما زالوا يهتمون بما يحدث عبر هذه الخطوط وبعيدًا عنها. لذا دور الفاعلين في المجتمع المدني مهم جدًا هنا. في الواقع، عمل المجتمع المدني السوري بشكل منهجي كخط دفاع أخير لحماية النسيج الاجتماعي السوري منذ عام 2011. وقد قاد معظم مبادرات بناء السلام، وتضامنه هو في صميم الحركة الثورية من أذار/ مارس 2011. لذا، عليهم:
أولاً، الحفاظ على الخطوط التي فُتحت خلال الاستجابة للزلزال. يمكن استخدام هذه الخطوط لتبادل المعلومات وتطوير الممارسات، وفي نهاية المطاف العمل على نقاط مناصرة مشتركة. يجب استثمار العلاقات الشخصية من خلال الشبكات الاجتماعية والقبلية والروابط العائلية.
فتح الشعب السوري الباب لحركة تضامن على المستوى الوطني بعد الزلزال. الآن حان دور فعاليات المجتمع المدني لاستلام الكفة وبناء أركان الاستدامة والفعالية لهذه الحركة
ثانيًا، عليهم تعزيز قبول الآخر والاعتراف به. يجب التركيز على قصص النجاح والاحتفاء بها عبر الخطوط الفاصلة، واعتماد نهج يرتكز على الضحية وقائم على الحقوق ويراعي الجندر كمبدأ توجيهي لجميع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني.
ثالثًا، عليهم تعزيز الحوار بين الفاعلين المدنيين. من خلال هذا الحوار، يمكن أن تنشأ حلول محلية للنزاعات الموضعية، وكذلك فهم أفضل للاحتياجات والأولويات في جميع المجالات.
أخيرًا، ينبغي محاولة التعاون في القطاعات. والقطاعات ذات الأولوية هي: الصحة، والمياه والصرف الصحي، والتعليم. عندما تكون هناك الإرادة، يمكن تحقيق البرامج المشتركة والتقييم الشامل للاحتياجات.
لقد فتح الشعب السوري الباب لحركة تضامن على المستوى الوطني بعد الزلزال. الآن حان دور فعاليات المجتمع المدني لاستلام الكفة وبناء أركان الاستدامة والفعالية لهذه الحركة. فرص مثل هذه نادرة جدًا في هذا النزاع، فلنتحرك الآن!ال