القوة الإبداعيّة الاستثنائيّة للشَعْر


في هذه المجموعة المختارة من الأعمال الفنية، بالتعاون مع معرض "مينا آرت غاليري"، تدعو المنسقة كلاوديا أفوليو الجمهور إلى التفاعل بصرياً مع العلاقات والمظاهر والأفكار المرتبطة بالشعر وأبعاده.

21 آب 2023

الأسيرة الفلسطينيّة، ديما نشاوي
كلاوديا أفوليو

كاتبة ومترجمة وفنانة إيطاليّة.

كيف استخدم الفنانون الشعر كوسيلة إبداعية لسرد قصص تمكينية؟ لسنوات وأنا أتأمل الأعمال الفنية بإعجاب، ويتردد صدى هذا السؤال في ذهني.

يزداد فضولي حول الحوارات التي تجري بين خصلات الشعر والمشاهد المصورة- كيف تتعايش مستويات مختلفة من التأويلات في صورة واحدة.

حددت بعض العناصر المهمة التي يبدو أنها تتردد في العديد من الأعمال المختارة: الشعر كتجسيد للطبيعة/ تفاعل الشعر مع المدن/ الشعر كحضور فعال يدافع ويحمي ويمكّن ويحرر/ تشجيع الشعر على التواصل والتعبير عن الذات.

أثناء استكشافكم للأعمال الفنية، يمكنكم ملاحظة كيف تتقاطع هذه المستويات وتتداخل في كثير من الأحيان، إذ يوجد فصل حاد بين الأعمال- أترك لكم خيار إنشاء روابطك الشخصية بحسب منظوراتكم الشخصية.

الشعر كتجسيد للطبيعة

رحلة قوس قزح، ديالا بريسلي

في "رحلة قوس القزح" التي تخيلتها ديالا بريسلي، يخلق الترابط البصري بين الشعر والقوس قزح علاقة قوية بالطبيعة. من خلال هذا التفصيل الوحيد الملون، تتمكن الفنانة ببراعة من مشاركتنا اللمحات الأولى لسردها البصري: "هذه القصة تدور حول المادية والناس المنشغلة بهواتفها لدرجة عدم ملاحظة جهود رجل قوس قزح. لذلك يذهب هذا الأخير إلى الريف، فهناك الأطفال هم بانتظاره"، كما أوضحت الفنانة.  

إنسان حرّ، عالم حرّ - ديما نشاوي

في إحدى أعمال ديما نشاوي المكرسة لإثارة الوعي حول عمليات الخطف والحجز والتعذيب، يصبح الشعر كالسماء الممطرة الملبدة بالغيوم. تكتب الفنانة كيف ولدت رسمتها –المهداة إلى مريم حايد-: "كنت أرسم وأنا أستمع إلى شهادتها وهكذا رسمتها. عكست كلماتها جملاً على الرغم من التجربة القاسية والقبيحة التي عاشتها". عندما ننظر إلى هذه الصورة المؤثرة، قد يتراءى لنا أن العيون لا تتّسع لكل الدموع التي تواصل الانهمار، بحيث يصبح الشعر نفسه بحاجة إلى البكاء، ليُخرج كل ما في قلبه. في الوقت نفسه، يذكرنا ذلك بأن الماء هو نعمة، لذلك، عندما ينهمر بسخاء، فإنه يوفر الغذاء، ويمكن جمعه والاحتفاظ به. 

(الشكل ٣، ٤، ٥، ٦، ٧) ينساب الشعر ليتحول إلى أمواج مأهولة بالأسماك والكائنات المائية الأخرى.

سومر سلام بارعة في خلق إحساس بالسلام الداخلي، وفي رسوماتها الساحرة يستضيف الشعر الطيور الصغيرة والكبيرة: بعضها يبدو وكأنه ينزلق على سطح الماء، بينما يستمتع البعض الآخر بالأجواء الهادئة التي يعيشون فيها.

التصوير الفني للشعر، وثمار البرتقال الرقيقة، والجذور في تكريس ديما نشاوي المذهل للنساء الفلسطينيات السجينات يخلق إحساساً مذهلاً.

ثم هناك أوراق الشجر والزهور وعناصر طبيعية أخرى تبدو في بعض الأحيان وكأنها تأكد على وجود بعض الطاقة الداخلية التي لا نستطيع رؤيتها، ولكننا نشعر بها بقوة.

من أجل الأطفال الذين فقدوا شعرهم، ديالا بريسلي

تجسد خصلات الشعر الملونة والنابضة بالحياة المنتشرة في كل مكان في لوحة ديالا بريسلي ذات الأوجه الثلاث، إحساساً بالتكاتف والترابط والتعاطف. ذكرت الفنانة السرطان، مشيرة إلى "الأطفال الذين فقدوا شعرهم"، من هذا المنظور، يكتسب العمل معاني غير متوقعة، إذ تتغير النظرة إلى الشعر بشكل كبير.

تفاعل الشعر مع المدن

أنقذوا حلب، أنقذوا سوريا - ديالا بريسلي

في عمل ديالا بريسلي الفني لغلاف أغنية أليس ليموج بعنوان حلب (٢٠١٦)، تظهر تلك الزهور الحمراء الكبيرة وكأنّها تتحول إلى قطرات دماء، حيث تمتزج خصلات الشعر مع الدخان الرمادي الداكن، كمحاولة لحماية ما يبدو أنها قلعة حلب في الخلفية، ممّا يخفّف ذلك الشعور بالعجز، حتى لو للحظات معدودة. اقرؤوا المزيد حول العمل هنا.

في مجموعة الأعمال الفنية لديما نشاوي، بما في ذلك تكريمها المؤثر لبيروت بعبارة "الثورة تولد من رحم الأحزان"، تظهر المدن وكأنها مدعومة من خصلات الشعر المهيبة والمموجة. من خلال فعل القراءة، الذي يغذي الخيال، إلى الدور الأساسي للمجتمع المدني، يمكننا تصوّر الشعر منغمساً في دعم المجتمعات المحلية وحقنها بقوة حيوية جديدة. نحن نعلم مدى قوة العقل، وفي هذه المشاهد يبدو أن الشعر يجد مساره بفضل إرشادات الأفكار الحكيمة.

في رسمة أنس سلامة بالأبيض والأسود، يظهر الشعر بشكل مبان تحيط بالعنصر الإنساني الذي نراه. ونرى شقوق على هذا الوجه، تشبه آثار الدموع. مشاركة صامتة تهيمن على العمل.

في المشهد الأول لسارة خياط، يخلق الشعر نوعًا من المناظر الطبيعية الحمراء الزاهية، رغم أنّه جزءٌ أساسي من البيئة الصحراوية، إلّا أنّه في تناقض معها أيضاً. هل يمكن أن تكون هذه المساحة عبارة عن تجسيد لمزاج البطل، والشعر تعبيراً عن البحث عن الفرح؟ في المشهد الآخر، بذكرى مذبحة حماة ١٩٨٢، يحيط العنصر البشري المصوّر المدينة بشعر طويل وكثيف، كما لو كان يحتضنها ويحميها بهالة من الاحترام الجليل.

الشعر كحضور فعال يدافع ويحمي ويمكّن ويحرر

هذا العمل الفني لسارة خياط هو غلاف كتاب "كي لا أكون علي الهامش: الذاكرة الشفوية لناجيات سوريات من الاعتقال" للكاتبة لمى قنّوت عن مؤسسة اليوم التالي (٢٠١٩). يظهر الشعر كإشارة مباشرة إلى الحرية، حيث يجعلني أرى سماء مفتوحة- على الرغم من أنها لا تزال مقيدة، إلّا إن ذراع المرأة الآن حرة الحركة ويمكن للطيور الصغيرة أخيراً أن تطير دون قيود نحو ضوء الشمس الدافئ.

في رسومات ديما نشاوي، تصبح جدائل الشعر وسيلة للدفاع تستطيع محاربة أي اعتداء، وكسر حاجز الإحساس بالعار وتحدي كل محاولة هجوم. يحتل المساحة وعي أوسع وأعمق، لا يمكن تجاهله. مدفوعاً برغبة واحدة، يسعى نحو نفس الهدف: إذا فكرنا في الأمر، فإن جدائل الشعر قوية لأنها في حد ذاتها تشكّل مجتمعًا.

تشجيع الشعر على التواصل والتعبير عن الذات

في هاتين الرسمتين لعماد الوهيبي، الشعر هو الذي يربط بين الشخصين. في الصورة الأولى، يُشعل صراعاً: ما هي رغبتهما الحقيقية؟ الانسحاب أم البقاء معاً؟ في الصورة الثانية، يرسم الشعر نوعاً من المسار. أرى الشخصان المصوّران أيضاً كوجهين لشخصية واحدة، يحاولان التواصل مع بعضهما البعض، مهما كان ذلك صعبًا.

لدي مقص، أقصّ به شعري، والنباتات، والورق - ديالا بريسلي.

 أكثر ما أحبه في عمل ديالا بريسلي مع مقصات الشعر هو الدورة التي يمكن أن يراها المرء في المشهد. يبدو وكأن القارب الورقي يصبح تدريجياً طائراً ورقياً، حيث يتحول الشعر إلى زهور. يمكن فصل كل هذه العناصر عن بعضها البعض ويبقى الإحساس بأننا جزء من حوار يجري بينهما.

يختصر عنوان رسومات طارق السعدي "فخور بكوني رجل محترم" كل المعاني بهذه العبارة الرمزية. يعزز تأكيد الهوية وأناقة التصوير بعضهما البعض، وتنعكس الكلمات في النظرة الواثقة والثابتة الذي يتلقاها المشاهد. يحيط الشعر بأزهار وأوراق رائعة، مما يجعله متوهجًا نحو الأعلى. هناك بريق يلمع فعلياً في هذين العملين الفنيين الآخرين، حيث يتم تصوير الشعر واللحية من خلال ألوان جميلة. وبمجرد أن ترتفع أعيننا متبعة الشعر، نجدها ممزوجة بأشكال ملونة توحي بمجموعة متنوعة من الزخارف النباتية، بما في ذلك هذا الإحساس الكامل بالحرية التي تنقلها.

تم اختيار عمل سارة خياط من قبل تعاونية الضمة لتقويمهم الخاص (كانون الثاني ٢٠١٩) "لتحرير العقول من الأدوار النمطية للجندر"، حسبما كتبت الفنانة. في الخلفية، تضفي هذه الأشجار المصنوعة من البسكويت (خطرت لي هذه الفكرة والآن لا أستطيع إلا أن أراها!) طابعاً جميلاً للوحة، متبعة بشكل ما حركات الشعر اللطيفة والشارب المستعار بمواءمة مع صمت القلوب التي نراها في منتصف المشهد.

أود أن أوضح أنه بعد الزلزال الرهيب في شباط الفائت، قرر/ت العديد من الفنانين/ات – بعضهم/ن مشمول/ات في هذا التصنيف - بيع أعمالهم/ن الفنية لمساعدة السكان في سوريا وتركيا.

شكراً للفنانات/ين المبدعات/ين: ديالا بريسلي، سارة خياط، ديما النشاوي، طارق السعدي، أنس سلامة، سومر سلام، عماد الوهيبي.

مقالات متعلقة

من ملامح الشعرية السورية المعاصرة (1 من 2)

16 حزيران 2020
لابد أن تحمل أية تجربة سياسية، اجتماعية، ثقافية، بحجم الحدث السوري خواصاً جديدة للشعر المواكب لها، وقد تجلى ذلك بالإنتاج الأدبي والفني السوري منذ عام 2011. في هذه المادة يحاول...
سارة حجازي في سوريا

20 تشرين الأول 2020
"بين البقاء والرحيل، بين الوطن والمنفى، بين هويتي وعادات المجتمع، بين الحرية و قمع السلطة، نحن بأمس الحاجة لخلق مساحة في كل تخيلاتنا لدولة سورية مستقبلية غير مبنية على قساوة...
ثورةٌ ما بين جندري ووطني

05 كانون الأول 2020
"أدرك بقسوة وبهجة أن أي ثورة بدأت بذاك الجمال ولاقت ما لاقت من قمع شنيع، لم ولن تموت. يوماً ما سأشارك عائلتي من الكويريين والطنطات النشاط والأمل. ومن غير خوف،...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد