بعد أن بدأت الموجة الحالية من احتجاجات مدينة السويداء في السابع عشر من آب ٢٠٢٣، أقدم النظام السوري على اعتقال عدد من الأصوات المعترضة عليه في الساحل السوري، والتي رفعت من سقف مطالبها، الأمر الذي طرح تساؤلات كثيرة عن أسباب تخوّف النظام من هذه الأصوات من جهة، وعن مآلات وإمكانيات الحراك في الساحل السوري وحدوده من جهة ثانية. هذا ما يحاول هذا التحقيق الإضاءة عليه.
في الوقت الذي يتظاهر فيه السوريون في مدينة السويداء السورية للشهر الرابع على التوالي (بدأت في ١٧ آب ٢٠٢٣) دون أيّ تدخل مباشر لقوات الأمن السورية (حتى الآن على الأقل)، لم تتردّد سلطات النظام السوري باعتقال الشاعر الشعبي حسين حيدر من منزله في منطقة سهل الغاب (وسط وغرب سوريا) على خلفية مشاركات شعرية له، نشرها على حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، انتقد فيها ممارسات سلطات النظام، وطالب فيها بمصادرة أموال آلي الأسد والأخرس، قبل أن تداهم دورية أمنية منزله وتعتقله وتصادر هاتفه المحمول، وحتى الآن ما زال قيد الاعتقال لتكون المرّة الثانية التي يُعتقل فيها.
سبق اعتقال حيدر اعتقال الناشط أحمد إسماعيل على خلفية منشورات مناهضة للنظام على منصة فيسبوك، وقد وجهت بناته نداءاً لمعرفة معلومات عنه بعد اعتقاله من قبل دورية قالت إنّها دورية أمنية، وبعد بضعة أيام في 16 أيلول، اعتقلت القوى الأمنية أيضاً صوتاً آخر من قرية "بترياس" في ريف جبلة، وهو الناشط جهاد أسعد، أيضاً لنفس السبب.
تعليقاً على هذه الاعتقالات، قال المحامي المعارض المقيم في أوروبا، عيسى إبراهيم، إنّه "تمّ تظهير الصراع في سوريا من قِبَل الإعلام وغيره على أنه صراع بين نظام «علوي» وثورة «سنية»، وهذا استتبع بالضرورة اصطفافات جعلت الحراك لا ينتصر بتغيير سياسي. الآن هذه الثنائية بالتظهير جعلت هناك ثِقَل كبير لأيّ حراك علوي، والأسد الابن أدرك ذلك، وهو المدرك أصلاً أنّ العلويين ليسوا معه جميعاً، فعمد الى استباق أمر خروج حراك علوي حقيقي، كما فعل مع الحراك السوري العام ببدايته، وخلق مجموعة من «المعارضة المصنّعة محلياً منه» منذ وقت، كشبكة صيد اجتماعي للحراك الحقيقي، بيد أنّ ذلك لم يمنع من ظهور أصوات علوية حقيقية، متباينة بالساحل السوري من العلويين، ورغم كونها لأشخاص، فقد عمد إلى اعتقالهم مباشرة، خلاف معارضته المصنّعة تلك، درءاً منه لتداعي حقيقي لهذا الحراك ليصبح عاماً، وهو أمر كان قريباً جداً من الحدوث، لولا الاعتقالات التي قام بها، والتي قد تبدو لأشخاص غير ذوي تأثير، بيد أنّ أهميتها كانت كسر حاجز الخوف، لذلك أعاده الأسد الابن عبر الاعتقال لهذا الخوف"
هذه الاعتقالات شبه اليومية، دفعت عدداً من الأشخاص على منصّة فيسبوك لكتابة بوستات تضامنية علنية مع المعتقلين السابقين وضعوا فيها معلوماتهم الشخصية وأرقام هواتفهم وعناوينهم، معلنين تحديهم للدوريات الأمنية.
تقول لسوريا ما انحكت، المدرّسة الجامعيّة رباب حيدر، وهي ممن وضعوا أرقام هواتفهم إنّ الفكرة "هي تحدّي اعتقال الجميع وتحميل السلطة مسؤولية اعتقال الناشطين وسلامتهم"، والأهم بالنسبة لها "أنّ من الضروري تضامن الجميع مع الجميع، خاصة أنّ الوضع لم يعد يطاق، وأنّ السلطة لا تهتم أبداً بمؤيديها من الناس العاديين"، في تغيّر يمكن وصفه بالجديد نسبياً في مشهد تعاطي الساحل مع قضايا الاعتقال من قبل الموالين بهذا الوضوح.
اعتقالات مستمرة وتهديدات واقعية
في حوار عفوي مع شخص أربعيني يرتدي معطفاً عسكرياً مهلهلاً في باص النقل الداخلي في اللاذقية، قال تعليقاً على خبر اعتقال لمى عباس، وهي ناشطة موالية: "إذا هي اعتقلوها وهي من عضام الرقبة ما رح يتركوا حدا مثل العادة، لكن هالمرة الناس عم تحكي من الجوع والقهر، ما ضل شي ينخاف عليه أو منه إلا الموت".
كان قد سبق اعتقال الشاعر حسين حيدر اعتقالات لناشطين على منصّات التواصل الاجتماعي في الساحل السوري بدأت باعتقال فراس غانم، من العنازة (بانياس)، واعتقال لمى عباس، وهي ناشطة موالية ورئيسة جمعية خيرية، خرجت بمقاطع فيديو تنتقد فيها إيران وروسيا للمرة الثانية. ووفقاً لمصادرنا الخاصة، فإنّ لمى اعتقلت بأوامر مباشرة من القصر، وهذه الاعتقالات لم تكن الوحيدة، حيث قامت دوريات أمنية في مدينة اللاذقية باعتقالات لم تجد طريقها للإعلام وغير معروفة العدد بدقة بعد، بين تموز وتشرين الأوّل ٢٠٢٣.
هذه الاعتقالات انتشرت أخبارها على منصّات التواصل الاجتماعي بكثافة، ولم تكن مستغربة لدى الشرائح الاجتماعية غير المهتمة بالشأن العام عادة.
تشير هذه التعليقات والتضييقات المستمرة إلى أنّ السلطة باتت تلمس بوضوح تغيّر مواقف الكتلة الأكبر في البلاد من المؤيّدين لها، أي سكان الساحل السوري وجباله، وأنّها تحسب حساب هذه التغيّرات مع التشدّد في قمع أيّة اعتراضات على سياسات النظام حتى لو كانت مجرّد "بوست" على منصات التواصل الاجتماعي، وكان ذلك واضحاً في قرار أمني (بقي ضمن الدوائر الأمنية، وفقا لمصادرنا الخاصة) بمنع أيّة اجتماعات يمكن أن تنتهي إلى أيّة احتجاجات. وهو ما يمكن تلمسّه بوضوح من إقدام قوات الأمن السياسي على منع اجتماع تشاوري للمرة الثانية (يوم الجمعة ١٨ آب ٢٠٢٣) في منزل المعارض المعروف، فاتح جاموس، وتطويق مكان الاجتماع في منطقة "بسنادا" جوار مدينة اللاذقية بكثافة، ومحاولة اعتقال الأشخاص لمجرّد رغبتهم بحضور الاجتماع، وحجّة المنع كانت أنّ نشاط اللقاء التشاوري الذي يجمع شخصيات معارضة وموالية كلّ أسبوعين، ومنذ العام ٢٠١٤، غير مرخص.
يقول الدكتور المقداد عبود، وهو أستاذ جامعي ومؤلف كتاب "الربيع السوري"، حاول حضور اللقاء التشاوري في بسنادا: "ذهبنا إلى اللقاء وكان هناك عدد من رجال الشرطة ورئيس فرع الأمن السياسي وعميد قائد المجموعة... منعوني من الدخول إلى بيت الأستاذ فاتح وتجادلت معهم عن سبب المنع. قلت هذا انتهاك لحقوقي كمواطن، لأنّ من حقي لقاء من أشاء طالما لا أخرق القانون، وقال لي العميد لا تعذب حالك ممنوع يعني ممنوع لأنو ما معكم ترخيص باللقاء".
هذه الاعتقالات شبه اليومية، دفعت عدداً من الأشخاص على منصّة فيسبوك لكتابة بوستات تضامنية علنية مع المعتقلين السابقين وضعوا فيها معلوماتهم الشخصية وأرقام هواتفهم وعناوينهم، معلنين تحديهم للدوريات الأمنية.
في المرّة الثانية حاصروا بيت فاتح جاموس ومحيط القرية كلّها منعاً لوصول الناس. يشرح جاموس ما حصل وفق التالي: "حصل منع اللقاء في بيتنا مرتين بفارق خمسة عشر يوماً، وكان هدف اللقائين دعوة من يرغب من نخب مهتمة بقضايا الشأن العام والخروج من الأزمة إلى حوار، بالطبع منها النخب الموجودة في صف السلطة، والأمر علني بصورة مسبقة، فجاؤوا بمظاهر كثيفة لمنع اللقاء بحجّة أنّه لقاء غير مرّخص. لم يدخلوا البيت أبداً، ولكنهم صوّروا بعض هويات من حضروا. أمّا المنع الثاني، فكان بعد خمسة عشر يوماً للقاء كادريّ في تيار «طريق التغيير السلمي»، وقد جاؤوا ولم يبدأ اللقاء بنفس الحجة، ولم يدخلوا البيت وطلبوا تصوير هويات من كان قد سبقهم".
في تفسير المنع اﻵن وليس سابقاً يقول: "أعتقد أنّ السبب الرئيسي مرتبط بضرورة ترهيب ومنع أي حالة من النشاط المؤثّر مهما كان بسيطاً، حتى لو كان في وسط نخبوي ضيّق، متذكرين أنّ أحداث السويداء قد شكلت لهم دافعاً لمثل ذلك السلوك القمعي التخويفي المسبق، وعلى العموم أرادوا بتلك المظاهر المبالغ بها تخويف أهل القرية وخلق فجوة بيننا، وبالترافق نشروا بعض إشاعات أنّني دعوت أشخاص من الخارج ويريدون منعهم ومراقبتهم فهناك خوف من أعمال تخريبية".
في مناطق متعدّدة من الساحل، حدثت توترات بين الناس والسلطات ونشرت الأخيرة دوريات أمنية تحسّباً لأيّ طارئ، في وقت وصلت فيه الناس إلى مرحلة "ما عاد عنّا شي نخسره، ولادنا فقدناهن، رواتبنا ما تكفي ساعات، وحياتنا مالها قيمة" بتعبير والد أحد الشباب الذين قتلوا في المعارك إلى جانب النظام السوري (في الأربعين من عمره) في مناسبة وفاة في بانياس. واللافت في هذه النبرات الجديدة أنّها تحمّل المسؤولية مباشرة إلى رأس النظام، ولعلّ هذا ما استنفر الجماعات الأمنية منذ فترة في كلّ مدن الساحل وريفه بحثاً عن أيّ صوت ولو كان صوتاً واحداً.
في سياق مواز، تجاهل الناس في مدينة طرطوس زيارة أسماء الأسد إلى المزرعة الإنتاجية، كما أنّ الاتصالات الأرضية قطعت عند زيارة الأسد إلى مناطق الحرائق شمال اللاذقية للمرّة الأولى في تاريخ المحافظة، ونقلت أنباء غير مؤكدة من منطقة الحرائق تمزيق صور للرئيس وأخيه.
أسباب تحوّلات مواقف المؤيدين
هناك العديد من الأسباب التي دفعت المؤيدين لتغيير مواقفهم في السرّ والعلن، ففي حين أنّه، كما يقول الصحفي أحمد (اسم مستعار/ ٤٦ عاماً)، "إذا كان هناك قطاعات شابة واسعة في مناطق الدولة عاشت الحياد سنوات طويلة، فإن الانهيار الاقتصادي والاجتماعي دفع هؤلاء لتغيير مواقفهم والتفكير بالهجرة".
تشكّل كتلة الشباب أكثر من نصف الموالين، وليس أمامها طرق لحلّ مشاكلها، التي أدّت ظروف الحرب لتغيير بنيتها، وهذا سببه، كما يقول الشاب حسين (اسم مستعار/ مهندس/ ٣٠ عاماً): "سقوط عدد كبير من شباب الساحل أثناء قتاله في صفوف الجيش السوري والقوات الرديفة، والرقم بمئات الآلاف، والشعور العام بالغبن من قبل أبناء الساحل السوري، خصوصاً من قضى سنوات طويلة في الخدمة الإلزامية ولم يجد عملاً بعد تسريحه".
هذا التغيير في بنية الكتلة الموالية لا يتركز فقط على الأجيال الجديدة، "فمن عاش التجربة ولمسها وحتى قاتل فيها من الأجيال الأكبر سناً من الثلاثين حتى الستين، لمس بوضوح أنّه كان مجرّد أداة انتهت صلاحيتها، وخلا بضعة ميّزات معنوية فإنه لم يحصد شيئاً في ظلّ تكالب السلطة على كلّ شيء في البلاد، وابتلاعها الأخضر واليابس في الموارد" كما يقول الشاب علي (اسم مستعار) المسرّح حديثاً من الخدمة اﻹلزامية، من إحدى قرى ريف اللاذقية. واليوم وفق الإعلام الحكومي نفسه، فإنّ هناك استقالات متزايدة من قطاعات الوظائف الحكومية بلغت في قطاع التربية والصحة ٣٧٪، ومن قطاع النسيج آلاف مؤلفة.
ما يدفع هذه الأجيال جميعها إلى تغيير مواقفها هو "تداعي الوضع العام في مناطق سيطرة دمشق بشكل متسارع اقتصادياً"، كما يقول الدكتور في كلية الاقتصاد عدنان سليمان، مضيفاً أنّه "كان يفترض أنّ الزيادة الأخيرة في رواتب الموظفين إلى الضعف سترفع رواتبهم شهرياً إلى ما يعادل عشرين دولاراً، بينما باتت فعلياً خمسة عشر دولاراً (دولار أمريكي واحد مقابل ١٤ ألف ليرة سورية تقريبا حسب سعر الصرف في السوق السوداء أثناء كتابة هذه المادة) بعد ازدياد التضخم في البلاد بنسبة خمسة أو ستة أضعاف في أقل من نصف شهر، إثر إزالة كلّ أشكال الدعم الحكومية للمواد الأساسية، وعلى ما يظهر فإنّ هذه الزيادة في رواتب موظفي الدولة جاءت عبر فرض ضرائب جديدة على شرائح ليست من موظفي الدولة مقابل إعطاء تجار كبار حرية التصرّف في تسعير البضائع والسلع. واليوم مثلاً، فإنَّ سعر بيض المائدة ٢٢٠٠ ليرة (أثناء كتابة هذه المادة في نهايات تشرين الثاني ٢٠٢٣)، بعد أن كانت أقل بمقدار النصف قبل شهر، وقسم من الناس غيّر عاداته الغذائية، ومنها المتة حيث بلغ سعر الكيلو منها حدود ثمانين ألفاً (ستة دولارات) أما القهوة فباتت حلماً مع وصول سعر الكيلو إلى مئة وعشرين ألف (٨.٥ دولار)".
كما "ساهمت القرارات الارتجالية الأخيرة التي اتخذتها حكومة دمشق في رفع الدعم عن كلّ شيء وإلغاء وظيفة الدولة الرعائية في بلاد تتناهبها الحرب منذ عقد، في رفع منسوب الغضب الجماعي لدى الموالين قبل غيرهم" كما يقول الصحفي المستقل أحمد، وأضاف أنّ "انتشار الفساد والمحسوبيات أضعاف مضاعفة خلال العقد الماضي وتحوّله إلى نمط حياة في مجتمعات المؤيدين وتكاثر خيبات «الأمل بالعمل» والوعود الفاشلة بأي نوع من التغيير بوقف نزيف البلاد البشري والاقتصادي. واليوم، تجهّز معظم العائلات أبناءها للسفر وتقوم ببيع بيوتها وأراضيها وممتلكاتها بأبخس الأسعار على أمل قيام أبنائهم في لاحق الوقت بدعم عائلاتهم اقتصادياً".
توّضح أرقام الحوالات المالية القادمة من العالم إلى مناطق سيطرة النظام أنّ الحياة هنا ليست ممكنة دون هذه الحوالات، وحسب مركز حرمون للدراسات، فإنّ ٧٠٪ من السوريين/ات يعيشون على الحوالات، وأنّ القيمة اليومية للحوالات حوالي ستة ملايين دولار تقتطع السلطة منها ما قيمته ٢٠٪ حيث تعطيها بسعر صرف أقل من سعر السوق السوداء حوالي ١١ ألف ليرة للدولار الواحد (سعر السوق السوداء حوالي ١٤ ألف للدولار الواحد).
ماذا عن أثر احتجاجات السويداء في الساحل السوري؟
لقيت احتجاجات السويداء الأخيرة في مجرى الحراك في شهرها الأوّل اهتماماً وتضامناً ساحلياً، حيث حاول بعض الناشطين الالتحاق بها وقد اعتقلتهم السلطات ومنهم أيمن فارس الذي خرج بفيديوهات تُحمّل بشار الأسد وزوجته مسؤولية الأوضاع السورية الحالية.
لكن من جهة أخرى، يشير الدكتور عدنان سليمان إلى أنّ "ظهور العلم السوري ذي الثلاث نجوم كان سبباً رئيسياً في تضاؤل اهتمام الساحليين بحراك السويداء، فقد أعاد العلم الساحليين إلى التفكير بأجواء العام ٢٠١١ حين بدأ الانقسام بين السوريين على أساس الأعلام، وهذه المرة ولو بدرجة أقل ابتعد الساحل عن احتجاجات السويداء، وتسبّب بنفور وتردّد في قبول كون الاحتجاجات على أساس مطلبي، ومن المؤكد أنّ احتجاجات الساحل لن تنخرط مع أيّة احتجاجات منضوية تحت العلم الأخضر في أي منطقة".
في نفس الوقت يعي الساحليون أنّ السويداء التي "دللها النظام بالكهرباء والخدمات أكثر من غيرها لأسباب طائفية سوف لن يتعامل مع الساحل بهذه الطريقة في حال توسعت الاحتجاجات" كما يشير الصحفي سامر (اسم مستعار)، والذي يعمل في صحيفة محلية، "لا بل تكاد السلطة ترى احتجاجات الساحل في حال انتشارها الخطر الأكبر عليها قياساً بتعاطيها «الناعم» مع حراك السويداء في تاريخ المحافظة، ولكن هذا احتمال مستبعد لأسباب كثيرة".
هل هناك استعادة لأجواء ٢٠١١؟
لم يشهد الساحل خروجاً حقيقياً على السلطة بل كان خزانها البشري طيلة العقد الماضي الساخن، ووفقاً لقول المهندس حسين فإنّ "ما يحدث اليوم هو تغيير طفيف في الموقف لم يرق ليكون تحوّلاً حقيقياً في الموقف الفعلي منها (السلطة)، ومع جود انحياز ضمني وعلني لكثير من الموالين السابقين لأي نشاط احتجاجي، ولو على منصات التواصل الاجتماعي، وانخراطهم شيئاً فشيئاً ضمنه عدا البعثيين النشطين المرتبطين فعلاً بالسلطة الذين يعيشون حالة خوف وترقب، إلا أنّ كل هذا التغيير ما يزال دون تشكيله قوة ضاغطة على السلطة"، وفي تفسير ذلك يقول حسين: "حتى الآن ليس هناك حاضنة شعبية لهذه الأصوات، وبقيت فردية ومعزولة وبدون حماية مجتمعية، ومع الوقت عندما يجد هؤلاء الأفراد أنفسهم معزولين عن المجتمع ستخفت أصواتهم وهو ما حصل مع عدد من الناشطين، مضافاً له التضييق الأمني".
٧٠٪ من السوريين/ات يعيشون على الحوالات، والقيمة اليومية للحوالات حوالي ستة ملايين دولار أمريكي تقتطع السلطة منها ما قيمته ٢٠٪ حيث تعطيها بسعر صرف أقل من سعر السوق السوداء.
احتجاجات الساحل حتى الآن اتخذت طابعاً مطلبياً وخدمياً واقتصادياً ولم تحمل مطالب سياسية واضحة، ولكن هذه المطالب "تحمل معنى معيشي يعترف المحتجين فيه بدور للنظام في التسبّب في وضعه السيئ وفي حله أيضاً بصفته قوام الدولة وبنفس الوقت يعترف فيه النظام بأحقية هذه المطالب ويعتبر نفسه المسؤول عن تنفيذها، وغياب المطالب السياسية هنا يعني أنّ القطيعة مع النظام لم تتم بعد، وأنّ هناك من يخاف من المستقبل بغياب النظام بوضوح" كما يقول المهندس يوسف (اسم مستعار/ ٥٦ عام/ من أحد قرى ريف بانياس).
حدود قدرات الموالين
مع التغيّرات الملحوظة في مواقف المؤيدين، فإنّ حدود الأفعال الممكن القيام بها للموالين "محدودة للغاية". وفي تفسير ذلك يقول المهندس يوسف إنّ "الكتلة الموالية ذاقت من النظام الكثير واشتغل على تفكيك علاقاتها الاجتماعية والإنسانية مع السوريين الآخرين، ولذلك تجد نفسها وحيدةً تُحاسب على مواقفها بشدة من قبل سوريين آخرين، يرفعون دائماً بوجهها لافتة "أين كنتم وقتما كنّا؟" متناسين أنّ القمع الذي طالها من النظام لا يقل عن غيرها من السوريين والعدائية التي اتسمت بها مواقف الكتل المعارضة دفعتها إلى أسوأ الاختيارات التي يمكن لكتلة بشرية أن تقوم بها، وخاصة في غياب مرجعيات يمكن أن تحرّكها، أو تغيّر موقفها، سواء اجتماعية أو دينية أو سياسية مع تفريغ ساحاتها العامة من الرموز المقبولة من الجميع".
وفي ظلّ تنبه النظام لأيّة محاولات فردية للاحتجاج، فإنّ "قدرة الموالين على تحويل احتجاجاتهم اللفظية إلى تجمعات ضاغطة على السلطة محدودة، ويعود ذلك إلى أنّ جزءاً كبيراً من هذه الكتلة ما زال يعمل في قلب مؤسسات النظام نفسها، والأمنية منها، وهؤلاء الموظفون الأمنيون لديهم علاقات عائلية وارتباطات تمنعهم حتى الآن من اتخاذ مواقف والانفصال عن النظام، وحجة لقمة العيش التي حبسهم بها النظام ليست حجة منكرة، من هنا سعى النظام دائماً لإطلاق يد هؤلاء بين أهليهم بغاية واضحة هي عدم ذهابهم مع المحتجين، وتفكيك أيّة محاولات للاحتجاج أو الاعتراض" حسب حديث المهندس السابق. وكمثال، فإنه وفقاً لأنباء محلية جرت محاولات للتجمع والتظاهر في عدد من القرى المحيطة بالقرداحة (نيننتي، دير حنا) وجبلة (بشراغي) انتهت مع وصول عناصر من الحرس الجمهوري إلى تلك المناطق وقمع تلك المحاولات عبر التهديد والوعيد.
وفقاً لمشاهداتنا، فقد جاء وصول عناصر الحرس الجمهوري مع توزيع مناشير في القرداحة من قبل "حركة الشغل المدني" و"حركة الضباط العلويين الأحرار"، وكان اللافت استخدام رجال الدين في تهدئة الأوضاع والطلب منهم المشاركة والحديث في كلّ المناسبات الاجتماعية والدينية عن ضرورة التهدئة والصبر ودعم الرئيس، وبالمقابل زادت ساعات التغذية بالتيار الكهربائي والمياه والوعود بالوظائف والترقيات.
السبب الثاني لضعف قدرة الأصوات الموالية المحتجة، كما يقول المهندس حسين هو أنّ "هذه الأصوات دون أي أفق أو وعي سياسي، وليست أكثر من ردّة فعل على ما حصل، وهذا عائد إلى عدم وجود أيّ تنظيم سياسي قادر على أن يبلور هذا السخط العام إلى رأي عام يمكن أن يبنى عليه مواقف سياسية تشكّل حالة من الضغط على النظام السوري".