"تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع «تمكين الجيل القادم من الصحفيات السوريات» بالشراكة بين مؤسستي «شبكة الصحفيات السوريات» و «حكاية ما انحكت». أُنتجت هذه المادة بإشراف الصحافية لمى راجح"
"كانت تقله هي وعم تضحك سبحان مين كمشني راسك، وهو يضحك ويقول عنها شاطرة وجدعة ما خلته يحتاج حلاق يجي عالبيت" بهذه العبارات تستعيد الكاتبة سلوى زكزك لحظات من ذاكرتها عن زوجة والدها التي أخذت على عاتقها حلاقة شعر وذقن والدها المسن، والاهتمام الدائم بمظهره وهندامه.
"يومياً كانت تحلق ذقن أبي لأنه ايديه بيهزوا..وكانت تحلق لأبوها وقت مرض كمان، كان مشهد حلو كتير وفيه تبادل أمان وثقة، لأنه بوقتا كان امتياز أنه الرجل يسلم راسه لامرأة، وكان الموضوع يقتصر على الأقارب هرباً من المسؤولية الاجتماعية ونظرة المجتمع".
مثل سلوى يحمل بعضنا في ذاكرته صوراً لجدته أو والدته وهي تقص شعر جده أو والده، لكن مهارات العديد من النساء في الحلاقة الرجالية بقيت حبيسة المنزل والعائلة الضيقة، ولم تتجاوزها إلى المساحات العامة، التي جعلت من هذه المهنة حكراً على الكثير من الرجال في العديد من البيئات المحلية في سوريا.
خلال إعداد هذه المادة، تم استطلاع رأي ٥٠ رجلاً (٣٣ مقيمون في سوريا، ١٧ في الخارج) بهدف قياس مدى تقبل الرجال عمل النساء في الحلاقة الرجالية، ووجدنا أن نصف الرجال الذين توجهنا لسؤالهم لا يمانعون عمل النساء في مجال الحلاقة الرجالية ويتقبلونه.
إلا أن هذا القبول لا نجد له ترجمة حقيقية على أرض الواقع في كثير من الأحيان، حيث لا تزال مشاركة العديد من النساء السوريات في هذه المهنة تواجه جملة من التحديات. فعند سؤالنا ديلارا (اسم مستعار، حلاقة نسائية سورية مقيمة في تركيا) أخبرتنا أنها تفضل العمل مع النساء، وتقول: "رغم أنني أجد أن الحلاقة النسائية تحتاج جهداً ومهارات أكثر من الحلاقة الرجالية، لكن المجتمع يرفض عملنا كنساء في هذه المهنة" وهذا ما جعلها غير راغبة بالعمل كحلاقة رجالية.
تؤيدها فرح (اسم مستعار، حلاقة نسائية سورية مقيمة في لبنان) في رأيها حول دور المجتمع والثقافة المجتمعية في عدم رغبتها بالعمل في مهنة الحلاقة الرجالية، وتقول: "يمكن لأنه من صغرنا تربينا على عادات وتقاليد بترفض الاختلاط أو حتى المصافحة ببعض الأحيان بين الرجال والنساء، وهالشي كبر معنا، صار صعب اليوم اتقبل العمل بهي المهنة".
للبحث أكثر في تحديات الثقافة المجتمعية التي قد تواجهها النساء العاملات أو الراغبات في العمل بمهنة الحلاقة الرجالية في سوريا، قابلنا مايا عرموش (٢١ عاماً، تعمل حلاقة رجالية في ألمانيا) التي تعمل منذ ثلاث سنوات كحلاقة رجاليّة، "أحب مهنتي كثيراً، وأجد التعامل مع الرجال هنا مريحاً، لكنني لا أتخيل في حال عدت إلى سوريا بأني سأكون قادرة على العمل بأريحية"، وعند سؤالها عن أسباب ذلك أجابت أنّ "الموضوع متعلق بالمجتمع غير الحاضن، ونظرة الرجال للنساء في مجتمعاتنا، لدي ثقة بمهاراتي كحلاقة رجالية، لكني أخشى من المضايقات، ومحاربتي من قبل المجتمع في حال قررت فتح صالون رجالي خاص بي في سوريا".
لتوضيح دور المجتمع والثقافة في دفع النساء بعيداً عن العمل في مهنة الحلاقة الرجالية، تخبرنا الباحثة النسوية نسرين حبيب إن "المجتمعات الأبوية كمجتمعاتنا، تمنح الرجل أحقية التواجد في الفضاءات العامة، وتحصر تواجد النساء في هذه الفضاءات في أنماط محددة من المهن تلقى قبولاً اجتماعياً، وتفضل في غالبيتها عمل النساء مع النساء فقط، وخاصة في المهن التي تتطلب تلامس أو قرب جسدي لأدائها".
"من يضع معايير الجمال للنساء والرجال عالمياً حتى اليوم هم في غالبيتهم رجال، ولذلك إضافة إلى عامل الخبرة والإتقان الضروريان لنجاح أي صاحب مهنة، يمتلك الحلاق النسائي ميزة انه رجل أي أنه شريك في تحديد معايير الجمال للنساء وصانع لها"
عن هذا يحدثنا هاني (اسم مستعار) حلاق رجالي (٢٠ عاماً ومقيم في لبنان) أنّ أقسى ما ستواجهه أي شابة تريد العمل في مهنتنا هو "نظرات المجتمع الواصمة القاسية، وباعتقادي أن جيل الشباب قد يكون أكثر تقبلاً لكن الكبار سيرفضونه، ولن يكونوا زبائن محتملين"
بالعموم يمكن القول إن فقدان عامل الأمان الاجتماعي المتمثل بالرفض من قبل المحيط القريب أولاً، ومن ثم الوصم المجتمعي الذي قد يطال النساء بنسب أعلى من الرجال، يشكل تحدياً كبيراً، تقول نسرين حبيب إنّه وعند النظر إلى علاقات القوة ضمن هذه المجتمعات نجد أن "الكفة ترجح لصالح الرجال، بحيث قد لا يطال الوصم في أغلب الأحيان الزبائن من الرجال الذين يقصدون صالونات الحلاقة الرجالية ذات الكادر النسائي، بل غالباً يطال النساء العاملات فيه".
يزيد فقدان عامل الأمان الاجتماعي وطأةً عدم توفر بيئة قانونية غير تمييزية تحمي النساء وتنصفهن في حال تعرضن للتحرش أو المضايقات خلال أداء مهامهن الوظيفية، "المجتمع في غالبيته يرفع شعار الرجل لا يعيبه شيء، والقانون قاصر حتى اليوم عن تأمين حماية فعلية للنساء" حسب حبيب.
هذا يدفع كثيرات لتفضيل العمل في الحلاقة النسائية، بحيث "تشكل صالونات الحلاقة النسائية اللاتي يدرنها مساحة آمنة للنساء من عنف المجتمع، ومساحة للبوح في ظل التضييق الذكوري، وكذلك مصدر دخل يساعد النساء على تحمل أعباء الحياة"، تقول حبيب.
تحديات اقتصادية
إضافةً لتحدي الثقافة الاجتماعية الأبوية، يواجه عمل بعض النساء في مهنة الحلاقة الرجالية تحديات اقتصادية بوصفه مشروعَ عملٍ ربحي يحتاج لمهارات إدارية ومالية كي ينجح ويستمر.
تعطي الاستشارية الاقتصادية والكاتبة في الاقتصاد والاقتصاد النسوي ثريا حجازي أهمية كبيرة لتطوير مهارات النساء المالية والإدارية في ظل الفجوة الجندرية التي تعاني منها النساء في تكافؤ فرص التعليم والعمل في مجتمعاتنا، وتجد أنه "من الضروري العمل على تطوير التدريبات المخصصة لتمكين النساء، بحيث تصبح أكثر قرباً لسياق احتياجات السوق المحلية في مناطق تواجد النساء الراغبات بالعمل، وهو سياق صعب ومتبدل، وكذلك تطوير سياسات تمويل المشاريع الصغيرة، بحيث تراعي تكاليف المشاريع ولا تكون محدودة بسقف موحد يمنح لكافة المشاريع نفس الميزانية".
ينظر عبد الهادي كحيل (٢٤ عاماً حلاق رجالي مقيم في مصر) إلى المنافسة بشكل إيجابي ويقول إن "ممارسة النساء مهنة الحلاقة الرجالية ممكن يخفف الضغط عني شوي، لكن عند النظر للمدى البعيد، فمهنة الحلاقة ما بتعتمد على أنه شخص أشطر من شخص أو أحسن، الحلاقة هي شغلة نفسية، يعني الأشخاص الي عم تجي لعندي عم تجي لأنه بترتاح عندي، بمعنى كل حدا عنده زباينه".
ما يجدر ذكره أن الاقتصاد السوري شهد تبدل في الأدوار الجندرية بين الجنسين نتيجة للحرب وحركات النزوح واللجوء، فالواقع الذي فرضه النزاع المستمر في سوريا، أنشأ ظروفاً إنسانية واقتصادية وسياسية صعبة للغاية، وفقدت غالبية الأسر السورية معيلها التقليدي، مما ضاعف الأعباء الواقعة على عاتق الكثير من النساء السوريات، وسواء أصبحن المعيل الوحيد لأسرهن أم لا، فإن عملهن ومشاركتهن في سوق العمل، باتت ضرورة وذلك إما نتيجة رغبة العديدات منهن بالعمل، وتحقيق أهدافهن الاقتصادية المتنوعة، أو سعياً لتوفير دخل يتناسب مع الواقع الاقتصادي، ويساهم في تأمين أدنى أساسيات الحياة، وخاصة أنّ نسبة البطالة زادت عن ٨٧٪ في عموم سوريا، حسبما ورد في مقال نشره موقع العربي الجديد في آذار ٢٠٢٣.
مما زاد من أعداد النساء المشاركات في سوق العمل، وكسر نمطية كثير من الأعمال التي كانت حكراً للرجال على مدى سنوات في مختلف القطاعات حتى الصعبة منها، فبتنا نرى كثير من النساء يعملن سواء في مهن تقليدية كالخياطة، الزراعة، الحلاقة النسائية وغيرها، وكذلك الأمر في مهن لم تعتد النساء مزاولتها كمشاريع النقد مقابل العمل، تصليح الأدوات الكهربائية، ، صيانة الهواتف المحمولة، وفي قيادة الشاحنات وفتح مغسل للسيارات، وكذلك في مهن كالسباكة، وفي مقالع الحجارة، وفقاً لما ورد في تقرير نشره راديو روزنة.
عمل الرجال في الحلاقة النسائية مقبول
بشكل عام يمكن القول رفض المجتمع الأبوي الاختلاط بين الرجال والنساء، ومع ذلك نجد أنه اليوم يتقبل عمل الرجال في مهنة الحلاقة النسائية بشكل عام ولا يقابلها بنفس الرفض الذي يلقاه عمل النساء كحلاقات للرجال. تجيبنا نسرين حبيب حول أسباب هذا التناقض قائلة إنّ "المجتمع الذي يفرض على الرجل الدور الإنتاجي يبرر له العمل في أي مهنة تدر عليه دخلاً مادياً جيداً، وخاصة أن مجال الحلاقة النسائية أوسع وزبائنه أكثر وأجوره أعلى، كما أن الصلاحيات الممنوحة للرجل في هذه المجتمعات تبيح للرجل التواصل الفيزيائي مع جسد أكثر من امرأة وخاصة في المجال المهني، كونها تفتح أمامه جميع فضاءات العمل العام، وفي حال تعرضت بعض النساء لاعتداء أو تحرش داخل صالون حلاقة نسائية كارده رجال، ينال الحلاق في معظم الأحيان غطاءً اجتماعياً حامياً كصاحب رزق، ويعود الوصم للنساء اللاتي اخترن التزين عند حلاق رجل بدلاً من صالونات الحلاقة النسائية ذات الكادر النسائي".
في هذا السياق، استطلعنا رأي ٥٠ امرأة (٢٢ مقيمات داخل سوريا، و٢٨ مقيمات في الخارج) بهدف قياس مدى تقبل النساء لعمل الرجال في الحلاقة النسائية، ووجدنا أن ثلثي النساء اللاتي سألناهن يقبلن عمل الرجال في هذه المهنة ولا يمانعن زيارة صالونات الحلاقة النسائية ذات الكادر الرجالي.
تقول نسرين حبيب في هذا الصدد: "من يضع معايير الجمال للنساء والرجال عالمياً حتى اليوم هم في غالبيتهم رجال، ولذلك إضافة إلى عامل الخبرة والإتقان الضروريان لنجاح أي صاحب مهنة، يمتلك الحلاق النسائي ميزة انه رجل أي أنه شريك في تحديد معايير الجمال للنساء وصانع لها عبر عمله في مهنة الحلاقة النسائية، وبالتالي فإن رأيه ونصائحه لزبائنه من النساء قد تكون مرغوبة ومهمة لبعض النساء اللاتي يرغبن بمحاكاة الذوق الرجالي الدارج حول مظهرهن".
بالعموم يمكن القول أن من يضع معايير الجمال في العديد من مجتمعاتنا هم الرجال، وهنا يواجه عمل بعض النساء في مهنة الحلاقة الرجالية، تحدي مدى قبول العديد من الرجال بوصفهم زبائن تحديد مظهرهم وتعبيرهم عن رجولتهم بشكل الحلاقة على يد النساء ومن قبل النساء أنفسهن، والذوق العام لهذا يحدده الرجال، بمعنى عملت المجتمعات المحلية في كثير من الأحيان على تثمين ذوق الرجال وإعطاء أهمية لرأيهم بالمقاييس الجمالية لدى الكثير من النساء، ولكن حتى اليوم يرفض العديد من الرجال أن تتدخل النساء في مقاييس الجمال الخاصة بهم.
ضرورة كسر نمطية الأعمال
في معرض الذاكرة تستذكر سلوى زكزك صديقة لها كانت تحلم بأن تفتح وتدير صالون حلاقة للرجال. ماتت الصديقة مؤخراً ولم تتمكن من فتح صالونها الخاص وتحقيق حلمها، نتيجة لرفض المجتمع دخول النساء مهنة الحلاقة الرجالية.
رغم أن نظرة المجتمع لم تتغير تجاه عمل النساء في كثير من الأحيان، ولا يزال تقبله رهناً للظرف الحالي، إلا أن ثريا حجازي ترى أن عمل النساء اليوم له أثر إيجابي لتغيير المفهومة القيمية والثقافية تجاه مشاركة النساء في سوق العمل على المدى الطويل.
كما تؤكد نسرين حبيب على أملها في أن يصل النضال النسوي إلى المرحلة التي تصبح فيها معايير الجمال ذاتية وفردية بغض النظر عن الجندر، وأن يصبح الرجال والنساء متكافئين/ات في فرص العمل وظروفه المناسبة، بحيث لا يعود جنس مُقدّم/ة الخدمة عائقاً، وإنّما تكون الخبرة والكفاءة هي المعيار الأول والأخير.