تمرّد على سلطة الحكايات

أميرة سوداء وغُرغونه طيّبة


الحكايات التي نسمعها ونُعجب بها في طفولتنا، تبقى مترسّبة في قعرِ لاوعينا بقوّة الكلمات وتأثيرها، لتُشكّل وعينا وتُبلور نظرتنا نحو الكثير من المسائل. ولمّا كان لكلِّ حكاية قديمة تقريباً، جانب عميق، يرسخ قيماً بطريركية، عنصرية، تمييزية، ونظرة تشييئية للمرأة، جاءت ما بعد الحداثة لتعمل على إعادة تفكيك الأسطورة والحكايات الشعبية القديمة، بهدف بنائها من جديد. هذا ما حدث مع الفيلم الغنائي سندريلا، الذي تتكأ عليه هذه المادة لتقودنا في رحلة التمرّد على سلطة الحكاية.

17 أيار 2024

روزا ياسين حسن

كاتبة وروائية سورية مقيمة في ألمانيا، صدر لها عدد من الروايات منها: "أبنوس"، "حراس الهواء"، "بروفا"، "نيغاتيف"، "الذين مسّهم سحر"، "بين حبال الماء". ترجمت أعمالها إلى عدد من اللغات، منها الألمانية والفرنسية والإيطالية، إضافة إلى ترجمة فصول إلى الإنكليزية والفلامنكية.

في الفيلمِ الغنائي سندريلا (Cinderella)، الذي أنتجته شركة كولومبيا Columbia Pictures سنة ٢٠٢١، تبدو شخصية "سندريلا" مغايرةً للصورة النمطية التي عُرِفتْ عنها: فتاة سمراء البشرة بشعرٍ بني، مُفعمة بحلمِ أنْ تُصبحَ مصمّمةَ أزياءٍ معروفة. في يومٍ ما، وبمساعدةِ الجنّي الطيّب، أسود البشرة، تذهب لتشارك في حفلةِ الأمير، لا ليراها ويتزوّجها، وإنّما لتتعرّف هناك إلى إحدى الملكات، وهي سوداء البشرة كذلك، لعلّها تنجح في أنْ تصبح مصمّمة أزيائها الخاصة. على الرغم من أنّ زواجها بالأمير لم يكن يعنيها بشيء، إلّا أنّ الأخير يقع في حبّها، ويقرّر في النهاية أن يتخلّى عن العرش ويعيش معها حياةً عادية، يدعمها فيها لتحقّق حلمها في أن تكون مصمّمة أزياء عالمية.

من الواضح في هذا الفيلم محاولات صانعيه ليّ الحكاية الأصلية، وإسباغ أفكارٍ وقيم مغايرة، يمكن القول عنها إنّها "نسوية" في العمق، أو لنقل إسباغ قيم لاعنصرية، لاتمييزية، مضادةً للأفكارِ والقيم التي سادت في كثيرٍ من المجتمعات الإنسانية لقرونٍ طويلة. ليس من المبالغة القول إنّها واحدة من أهم الأفعال الثقافية التي راحت المدارس النسوية الحديثة، والمدارس النقدية الجديدة كذلك، تفعّلها، سواء بتفكيك الحكايات الشعبية والأساطير والتقاط مفاصل التمييز والعنصرية والأحكام المسبقة المرسّخة فيها، أو تفكيك خطابات اللغة المكرّسة. على هذا، فسيكون أحد امتيازات ما بعد الحداثة إعادة تفكيكها للأسطورة والحكاية الشعبية، كردٍّ على الحداثة التي لم توليهما شأناً بل نادت بالعقل وسلطته. فكيف لنا أن نُعدّ لثورةٍ في المجتمع دون أن تترافق مع ثورةٍ في الخطاب الذي نتبنى؟! "لقد ورثنا لغة ملوثة"، تعبّر الناقدة "جوليا كريستيفا" بوضوحٍ عن الأمر.(٢)

حسناً، لنتفق أولاً بأنّ الحكاية الشعبية هي واحدة من أعمقِ آليات التأثير على لاوعي البشر، وسيلة تربوية مختبرة ومفعّلة للغاية، مرآة عاكسة للمجتمعات، وواحدة من أهم طرق الحفاظ على الإرث الثقافي وترسيخ الهُويّة. فإذا كانت الأساطير تاريخاً يكتنف الحقيقة والخرافة على وجه السواء، وتفسيراً للحياة والظواهر المختلفة في عمرِ البشرية، فإنّ الحكاية تثبيت للتراث والقيم والأخلاقيات. في كثيرٍ من المجتمعات، منها الشرقية على وجهِ الخصوص، تُستخدم الحكاية لسوقِ البراهين على صحةِ رأيٍ أو خطئه. الحكايات في حالاتٍ كثيرة تتحوّل لتغدو بديلاً عن الحجج والأدلة العقلية.

السرديّات السوريّة في مرآة الآخر. ما الذي غيّرته المنافي في سردياتنا؟

26 كانون الثاني 2021
ضمن ملف الرواية السوريّة تحاور معدّة الملف ومحررته روزا ياسين حسن المترجمين والمستشرقين "لاريسا بندر" و"شتيفان ميليش" وتتحدثه معهما في موضوعات السرد الروائي السوريّ والأدب السوريّ وعلاقته بالمنفى وتغيّره بعد...

ثمّة تشابك عميق بين الأسطورة والحكاية. الأسطورة هي الجانب اللاواعي الجمعي للنفسِ البشرية، محمّلة برموز ثقافية في زمانٍ ومكانٍ مُعيّنين، رابط بين التاريخ الشخصي والتاريخ الجمعي، أي "حُفرية حية".(٣) و"اللاوعي الجمعي"، وكما هو معروف، هو مصطلح عالم النفس، كارل يونغ، المركزي، يراه مخزون الخبرة الإنسانية التي تخلق جسراً بين النماذج البدئية وصورها. وباعتبار أنّ البشرية تتجه قدماً إلى زيادةٍ في ذبذبات وعيها، فإنّ حقيقة تأثيرات الأسطورة على الوعي المُدرك للمجتمعات، وانتقالها عبر الزمن من اللاوعي إلى الوعي لتؤثّر على الحياة اليومية، ونمطِ التفكير الواعي اليومي، باتتْ قناعةً لدى الكثيرين. هذا ما جعل الكاتب، ستيفن اف ووكر، يتنبأ بأنّ القرن الحادي والعشرين سيكون قرن كارل يونغ، كما كان القرن العشرين قرن سيغموند فرويد.(٤) سبقه في هذا القول، كلّ من ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو في كتابهما المشترك "جدلية التنوير"، حين رأيا أنّ العقل ونقيضه (أي الأسطورة) ليسا منفصلين عن بعضهما بعضاً، وإنّما مرتبطان من خلال جدلية مستمرة على مدار التاريخ.(٥) هذا ما يتبدّى عميقاً من خلال تتبّعنا لمسيرة تطوّر الأساطير/ الحكايات، وأكثر ما يُظهر هذا التحوّل هو اختلاف توزيع الأدوار بين الجنسين، والنظر إلى مكانةِ المرأة وحضورها وتأثيرها في المجتمعات التي راحت تتجه قدماً إلى تثبيت القيم البطريركية. كمثالٍ على ذلك، ومن بين أمثلة كثيرة، شيطنة "ليليت" وتحوّلها من ربّة المهد والشفاء إلى "غُرغونه" الخرائب،(٦) تماماً كما تغيّرت مكانة "عشتار" وحُوِّلَت من ربةٍ وعاهرةٍ مقدّسةٍ إلى مجرّد امرأةٍ رخيصةٍ يُعايرها جلجامش بماضيها!(٧)

 الحكاية الشعبية هي واحدة من أعمقِ آليات التأثير على لاوعي البشر، وسيلة تربوية مختبرة ومفعّلة للغاية، مرآة عاكسة للمجتمعات، وواحدة من أهم طرق الحفاظ على الإرث الثقافي وترسيخ الهُويّة.

أمّا الحكاية الشعبية، فعلى الرغم من أنّها موروثة شفاهياً جيلاً بعد جيل، متغيّرة حسب الرواة في أزمنتهم وأمكنتهم، إلا أنّها لم تخسر تأثيرها العميق أبداً، باعتبارها "أسطورة متجرّدة من التاريخ"، وتؤثر أكثر ما تؤثر على الأطفال وقت تشكّل وعيهم وبناء منظومتهم الأخلاقية والقيمية، فتحرّف تطوّرهم العاطفي والنفسي كما فهمهم العقلي والأدبي والاجتماعي والأخلاقي، زاخرةً بقيمٍ رسّختها المجتمعات واعتبرتها قيماً نبيلة. هذا صحيح بالتأكيد في جزءٍ منها، ثمّة جزء لا يمكن إغفاله من الحكايات الشعبية يركّز على قيمٍ نبيلةٍ كالشجاعة والصدق وإغاثة المحتاج، وما إلى ذلك، لكن في جزء آخر منها، جزء فاعل وعميق، تترسّخ قيم بطريركية عنصرية تمييزية، منها النظرة التشييئية للمرأة والتعامل معها كموضوعٍ وليس كذات، كذلك الأدوار النمطية المنوطة بها كناقصةِ عقلٍ ودين، وترسيخ صورتها كشهوانيةٍ انتهازية، كما وضع شباب المرأة/ الجمال الظاهري في مقابلةٍ ضدّيةٍ مع شيخوختها/ القبح، على عكسِ الرجال تماماً حين يتمّ التعامل مع تقدّمهم في العمر باعتباره ميزة تقودهم إلى الحكمة. الجمال (بمعناه المكرّس والمعمّم) وبوصفه فضيلة يتوافق مع الخير في الحكايات الشعبية، أمّا القبح فمع الشر. فيما الغدر والكيد صفتان ترافقان المرأة خصوصاً تلك المتمّردة، أمّا المرأة الصالحة الخاضعة لزوجها، والمستسلمة، فهي المثال الجيّد الذي يُحتذى.

تغيير الكثير من قيم الحكاية الشعبية هو تغيير بشكلٍ ما للوعي الجمعي، يمكن استخدام ذلك بطريقةٍ سلبيةٍ تُنشدُ تفتيت ثقافات المجتمعات، ويمكن استخدامه بطريقةٍ إيجابية لتفكيك الفهم البطريركي وسيطرته، وبالتالي تحرير المجتمعات. ذلك أنّنا حكاياتنا بالمختصر، تجربة كنقشٍ في حجر، تبقى مترسّبة في قعرِ لاوعينا بقوّة الكلمات وتأثيرها، وما من تعويذةٍ يمكن أن تنجح إلّا بالكلمات. كما قالت الشاعرة الأميركية موريك ريكايستر يوماً: يُقال بأنّ العالم مصنوع من الذرّات! أنا أقول بأنّه مصنوع من القصص.

على هذا فكم من الممكن أن تؤثر النسخة الجديدة القادمة من فيلم ديزني "حورية البحر الصغيرة" التي تؤدي فيها "هالي بيلي" دور حورية البحر "أريل" على الأجيال الجديدة؟! ذلك أنّ دورها يُعتبر واحداً من أدوار نادرة لأميرات ذوات بشرة سوداء، دون أن ننسى فيلم "الأميرة والضفدع" (٢٠٠٩) الذي أصبحت فيه الخادمة السوداء "تيانا" أميرة!

يرى "بوعلي ياسين" في كتابه "خير الزاد من حكايات شهرزاد"(٨) أنّ أهمية الحكاية في المجتمع العربي القروسطي تُقارب مكانة الكتب المقدّسة. الحكاية في هذا المجتمع ضرورة حياتية، أشبه بأداةٍ ثقافيةٍ علميةٍ ترفيهيةٍ تربوية. التاريخ والأدب يختلطان أو يندمجان في "ألف ليلة وليلة"، كما هما مختلطان أو مندمجان لدى عامة الشعب حتى الآن. تأثير "ألف ليلة وليلة"، مازال إلى لحظتنا هذه ممتدّاً متغلغلاً فينا!

النسخة الفرنسيّة مني

06 نيسان 2022
بعد كتابتها عشرات الروايات باللغة العربيّة، والتي تُرجمت إلى لغات متعدّدة، خاضت الكاتبة والروائيّة مها حسن، تجربتها الكتابيّة الأولى باللغة الفرنسيّة. تكتب في هذا النص الذاتي عن تجربتها تلك، عن...

قبل فيلم "سندريلا (Cinderella) الذي تحدّثت عنه آنفاً، وفي العام ٢٠١٤ أعلنت ديزني عن فيلمها المميّز "maleficent" من بطولة، أنجلينا جولي، وإخراج روبرت سترومبرج، وهو مأخوذ عن الفيلم المعروف "الأميرة النائمة". في هذا الفيلم نطّلع على رؤيةٍ جديدة لحكايةِ الساحرة الشريرة التي ألقت اللعنة على الأميرة لتنام مائة عام، فللساحرة حكايتها المؤلمة الخاصة التي جعلتها أنثى مجروحة محطّمة ومخدوعة، كذلك نطّلع على جزءٍ مخبّأٍ من شخصيتها، يفيض بالحبِّ الذي حاولت دفنه طويلاً داخلها، والذي يتمثّل في أنّها "شخصياً" من توقظ الأميرة بقبلةِ الحياة/ الحب. هذا الفيلم كان بمثابةِ ثورة، تتابعت في عالم السينما لتصل اليوم إلى فيلم poor things (٩)الذي أثار ضجةً كبيرةً مؤخراً، وسوف يخلخل العديد من الأفكار المكرّسة لدى الكثيرات والكثيرين.

في واحدةٍ من أجمل الأوراق التي قرأتها، كتبتها الشاعرة والكاتبة الأميركية، أدريان ريتش، لهيئة جمعية اللغات الحديثة MLA نهاية العام ١٩٧٠، تقول: "إنّ إعادة النظر، فعل الالتفاتِ إلى الوراء، النظر بعينين مُنتعشتين، الدخولَ إلى نصٍّ قديمٍ من منظورٍ نقديّ جديد، هو بالنسبة لنا أكثرُ من مجرّدِ فصلٍ في التاريخ الثقافي: إنّه فعلُ نجاة"، ثم تردف في مكان آخر من الورقة قائلة: "نحتاج أنْ نعرف كتابة الماضي، وأن نعرفها على نحوٍ مختلفٍ عمّا عرفناه يوماً؛ ليس من أجل توريث تقليدٍ [ثقافي]، وإنّما لهدم سلطته علينا"(١٠)

 

الهوامش

(١) كلمة غرغونه في العنوان، وجمعها الغرغونات، وهنّ ثلاث أخوات مرعبات في الأسطورة الإغريقية، شعورهن ثعابين ومن ينظر إليهن يتحول إلى حجر. مع الزمن صارت هذه التسمية تُطلق على كل امرأة قرّرت السرديات الذكورية اتهامها بالسحر أو الشعوذة لتُكّرس كشخصية متوحشة قبيحة وخطيرة، أي غُرغونه.
(٢) للمزيد انظر/ي كتاب: أنثى اللغة أوراق في الخطاب والجنس، زليخة أبو ريشة، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق 2009.
(٣) للمزيد انظر/ي كتاب: الأسطورة والتراث، سيد محمود القمني، المركز المصري لبحوث الحضارة، ط3 القاهرة 1999.
(٤) للمزيد انظر/ي كتاب: يونغ واليونغيون والأسطورة، ستيفن اف ووكر، ترجمة: جميل الضحاك، وزارة الثقافة الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2009.
(٥) للمزيد انظر/ي كتاب: جدل التنوير/ شذرت فلسفية، ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت 2020.
(٦) للمزيد انظر/ي ليليت والحركة النسوية الحديثة، حنا عبود، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 2007. انظر/ي أيضاً كتاب: العشق الجنسي والمقدس، فيليب كامبي، دار الحصاد، دمشق 2002.
(٧) للمزيد انظر/ي كتاب: كنوز الأعماق، قراءة في أسطورة جلجامش، فراس السواح، ط1 دار سومر نيقوسيا قبرص، دار العربي دمشق 1987.
(٨) للمزيد انظر/ي كتاب: خير الزاد من حكايات شهرزاد (دراسة في مجتمع ألف ليلة وليلة)، بوعلي ياسين، دار الحوار، اللاذقية ط1 1986.
(٩) فيلم من إخراج يورجوس لانثيموس  Yorgos Lanthimos فاز بأربع جوائز أوسكار العام 2024، أفضل ملابس ومكياج وتصميم مناظر و أفضل ممثلة رئيسية لبطلته إيما ستون Emma Stone.
(١٠) لقراءة كامل الورقة انظر/ي ترجمتها الحديثة إلى العربية على الرابط.

مقالات متعلقة

أزمة المناخ: تعقيد اللفظ يعيق توصيل الرسالة

11 تشرين الثاني 2022
يتوقع تقرير صادر عن مؤسسة ماكس بلانك الألمانيّة أنّ العديد من المدن في منطقة الشرق الأوسط قد تصبح غير صالحة للسكن مع نهاية هذا القرن، إذا استمر وضع الحروب والنزاعات...
نقد الدين وفتوى قتل سلمان رشدي

06 أيلول 2022
أعادت محاولة اغتيال الكاتب البريطاني الهندي الأصل، سلمان رشدي، بسبب كتابة رواية "آيات شيطانية"، الضوء مجددًا على مسألة الإصلاح الديني وعلاقة الدين بالسلطة من جهة وقيم الحداثة من جهة ثانية،...
فكّ شكيلو وخود اللي بديلو - أعطوهم حريتهم وخذوا تحلايتكم

03 أيار 2022
في العقود الماضية، كان لدى الأمهات في حلب تعويذة لإطلاق لسان الأطفال الذين يعانون من تأخر النطق. هل يمكننا تطبيق طقوسهن اليوم؟
الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد