كان لدى عائلة نجوى (٤٨ عاماً) أرضٌ صغيرة مساحتها خمس دونمات تزرعها بالمحاصيل الصيفيّة، لكنّ تراجع المردود المادي أجبرهم على بيعها منذ خمس سنوات بعد أن تراكمت عليهم الديون، "أصبح اعتمادنا الكلّي على العمل بالأجرة في الأراضي الزراعية"، تقول.
تعمل نجوى وزوجها في أرض زراعية تعود لأحد أبناء قريتهم في سهل الروج، في ريف إدلب. يقومان بزراعة الأرض وحصادها ويتحملان تكاليف الأدوية والأسمدة، فيما يتكفل صاحب الأرض بسقايتها من البئر الذي يملكه. تتقاسم عائلة نجوى المحصول بنسبة ٥٠٪ مع صاحب الأرض. تقول لنا إنّ "معظم الناس هنا لديهم أراضٍ ولكنّ القليل فقط من الفقراء الذين يلجؤون إلى هذه الطريقة من الشراكة".
مع تغير المناخ وتأخر هطول الأمطار احتاجت الأراضي إلى المزيد من الأسمدة والأدوية من أجل مكافحة الأمراض المحتملة، لكن أسعار تلك المواد ارتفعت، "إذا دفعنا تكلفة عالية فلن يعود لنا أي دخل أو فائدة من الأرض" تقول نجوى.
"زرعنا أربع دونمات كوسا وخيار من الأرض لكن الديدان هاجمت النباتات فلم نستطع جمع المحصول أكثر من مرة، وماتت المزروعات"، تضيف متحسرة إنّهم لم يحققوا أي فائدة من أرضهم "مردودنا من العمل بالأجرة في أراضي الآخرين".
التغييرات المناخية تقلّص المحاصيل الزراعية
"موجات الحر الشديدة المبكرة تؤثر على أزهار اللوزيات والزيتون، كما أنّ تأخر موعد الصقيع الشتوي وحصوله في فصل الربيع يؤثر على الخضار الصيفية" يقول لنا المهندس أنس الرحمون، الناشط في أبحاث المناخ والبيئة، ويضيف "توقعات الأعوام القادمة مبهمة لأنّ التغييرات المناخية مترددة صعوداً وهبوطاً".
سابقاً قالت وزارة الإدارة المحلية والبيئة التابعة لنظام الأسد، ووفقاً لصحيفة البعث، إن البلاد تتعرّض لأسوأ موجة جفاف منذ سبعين عاماً نتيجة انحباس الأمطار في معظم المناطق، ما أدى إلى أضرار بالمحاصيل والمزارعين، بالإضافة إلى موجات الحر العالية في بعض المناطق، وأوضحت مديرة السلامة البيئية في الوزارة المهندسة رويدة النهار، أن الحدّ من توفر المياه بسبب التغيرات المناخية سوف يؤدي إلى تقليص الإنتاجية الزراعية الحالية.
تبلغ مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في محافظة إدلب نحو ١٧٧ هكتاراً تتوزع بين الأراضي السليخ غير المزروعة وهي قابلة للزراعة وتبلغ مساحتها ٦٥ هكتاراً، وأراضي مشجرة وتبلغ مساحتها ١١٢ هكتاراً حسب ما أفادت وزارة الزراعة التابعة لحكومة الإنقاذ، ( كل ١٠ دونم يساوي هكتاراً واحداً) وتبلغ نسبة العاملين في القطاع الزراعي في مناطق شمالي غرب سوريا الخاضعة لسيطرة حكومة الإنقاذ في محافظة إدلب، حوالي ٣٠٪ من مجموع القوة العاملة فيها.
حلول زراعية تتأثر بالمناخ أيضاً
لجأ المزارعون لزراعة النباتات العطرية التي تدر دخلاً أفضل من الخضروات؛ مثل الكمون والحبة السوداء (حبّة البركة)، فقد سجل الكمون عام ٢٠٢٣ ما بين ثلاثة وأربعة آلاف دولار أمريكي كسعر لمبيع الطن الواحد، وبلغ إنتاجه ما تراوح بين ٧٠ و١٥٠ كيلو غرام للدونم الواحد.
يزرع وحيد نبهان (٦٩ عاماً) القمح والجلبان والخضروات الصيفية منذ ثلاثين سنة، وقد قام بزراعة الحبّة السوداء وجنى فائدة كبيرة منها سابقاً، "من حسن حظي أنّني لم أزرعها هذه السنة، تضرّرت جميع محاصيلها في المنطقة" يقول، لكنّه زرع الكمّون، وتضرّر محصوله أيضاً.
تبلغ مساحة أرض نبهان حوالي ٣٥ دونم، وتقع على أطراف قرية زردنا في الريف الشمالي لإدلب، زرع منها ١١ دونم بالكمون. يقول إنّه تعرّض لخسارة الموسم بشكل كامل، "زرعت ٤٠ كيلو من بذور الكمون إضافة إلى رش المبيدات الحشريّة سبع مرات وحرث الأرض، خسارتي كبيرة سيكون من الجيّد إذا تمكنت من تعويض البذور التي زرعتها".
يعود هذا الضرر إلى انتشار مرض "الألترناريا" أو "لفحة الكمون" بالدرجة الأولى، الذي يظهر بسبب تأخر الموسم المطري واستمراره في فصل الربيع مع ارتفاع درجات الحرارة إلى حوالي ثلاثين درجة، ما أدى إلى ظهور أمراض فطرية وحشرية حسب المهندس أنس الرحمون. يُصنّف "لفحة الكمّون" كمرض فطري يصيب النباتات أثناء مرحلة التزهير، تظهر بقع بنية على أوراق النباتات وسوقها إلى أن تتهدل سوق تلك النباتات وتجف وتموت.
محصول الكمون يحبط المزارعين
بدأتْ زراعة الكمون في سوريا منذ أكثر من خمسين سنة لكن وجودها يقتصر على بعض المناطق السهلية والجافة، حيث لا يمكن زراعته في الأراضي الثقيلة التي لديها نسبة رطوبة عالية، "الطقس في شمال غرب سوريا رطب وكميات الأمطار عالية فيكون النجاح بزراعة الكمون محصور ببعض المناطق الجافة فقط" يشرح لنا الخبير الزراعي سامر يسوف.
لا يحتاج الكمون إلى سقايةٍ وإنّما يكتفي بمياه الأمطار الربيعية حسب يسوف، و"نسبة نجاح زراعة الكمون هذا العام ضعيفة بسبب كميات الأمطار الهاطلة بشكل كبير في شهر نيسان على غير المعتاد"، ويضيف أنّ الكمون حسّاس لدرجاتِ الرطوبة العالية، فلا يوجد كتلة جذرية تمتص من الأرض.
من أجل تخفيف الأضرار قام المزارعون بتهيئة الأرض كلٌّ حسب إمكانيّاته. مثلاً قام المزارع وحيد نبهان برش الأرض بمادة التريفلان، وهو مضاد للأعشاب الضارّة يُكلّف حوالي ٢.٥ دولار أمريكي لكلّ دونم، وتصل الكلفة مع أجرة العامل إلى عشرة دولارات.
قام نبهان أيضاً بحرث الأرض ثلاث مرات، وقام بتسيير آلية البذار قبل البدء بنشر البذور، يتطلب الدونم الواحد ثلاث كيلوغرامات من البذر، "بعد زراعته أضفت سماداً يبلغ ثمن الكيس الواحد ٣٧ دولاراً، كل ست دونمات احتاجت إلى كيس من السماد، فاحتجت إلى كيسين" يقول النبهان. وبحسب الخبير الزراعي سامر يسوف فإن الكمون يحتاج إلى الأسمدة الفوسفورية، حيث تتركز أغلب احتياجاته فيها.
بعد زراعة الكمون قام نبهان بمحاولة مكافحة الأمراض الفطرية، "قمت برش النبات ست مرات بالمبيدات وأضفت إليه كيسين من سماد السلفات، ويبلغ ثمن الكيس منه ١٥ دولاراً". كلّفت عملية الرش الواحدة حوالي خمسين دولاراً للمساحة المزروعة من أرضه، يقول نبهان إنه بالكاد سيُجني سعر التكلفة لثمن البذار.
تعرض عمر يسوف من قرية زردنا لضرر الكبير في الكمون والحبة السوداء "كان المحصول جيداً في البداية ثم انتشرت فيها أمراض الشلل وتعفن الجذور، قمت بمكافحتها عدة مرات لكن لم يكن هناك تحسن، بمجرد انتشار مثل هذه الأمراض تصبح مكافحتها مستحيلة".
في البداية لم يلجأ عمر إلى مكافحة الأمراض لكن حين رأى بقية المزارعين يعملون على مكافحتها جرب ذلك "أنفقت المال دون تحقيق أي فائدة، لم يبقَ أمامي سوى أن أقوم بحصادها واستبدالها بمحصول آخر، لم تعد الأرض تصلح سوى لزراعة المحاصيل الصيفية مثل البطيخ والخيار والكوسا والذرة".
يقول الخبير الزراعي سامر يسوف إنّ حوالي ٧٥٪ من محاصيل الكمون وحبة السوداء تضرّرت بسبب العوامل الجوية والأمراض التي أصابت المزروعات، وفي وقت سابق قالت لجنة الإنقاذ الدولية في تقرير نشرته نيسان ٢٠٢٣ إن سوريا هي إحدى عشر دول معرضة لخطر الكوارث المناخية بسبب تآكل قدرة البلاد على الاستجابة للأزمات، وأوضح الرئيس التنفيذي لها في التقرير إن السكان الأكثر ضعفاً في العالم هم بالفعل على خط المواجهة لأزمة المناخ.
"لا يجب إعادة زراعة الكمون في نفس الأرض قبل ثلاث إلى خمس سنوات" حسب الخبير الزراعي سامر يسوف، ويضيف أنه في حال انتشرت أمراض في المنطقة التي يُزرع فيها وتعرّضت لمرض فمن المفترض ألّا تعاد زراعتها حتى مرور دورة طويلة من ست إلى ثماني سنوات.
يفيد الخبراء أن هذه الدورة الزراعية يتبعها الفلاح من أجل الحفاظ على أرضه، وبالتالي يقوم المزارعون اليوم بتقسيم أراضيهم لزراعة كل قسم بنوع محدد، "بعض المزارعين لم يعرفوا إن كانت الأرض مزروعة بنبات الكمون في السابق أم لا فتم إعادة زراعة الكمون في نفس الأرض ما أدى إلى خروج الأرض عن الخدمة" حسب يسوف، الذي أضاف أن المزارعين يقبلون على زراعة الأصناف التي تدرّ دخلاً عالياً بسبب الوضع الاقتصادي السيء.
الكثير من التفاصيل المعيشية استغنت عنها نجوى وعائلتها بسبب عدم مقدرتهم على شرائها، "نأكل اللحوم في الأعياد ورمضان فقط، واستغنينا عن الكثير من الأشياء"، وتضيف أنّها في العيد الماضي اشترت لأبنائها ثياب العيد "من أرخص ما يكون؛ ولم أشترِ لنفسي"، وتضيف أنّها في الأعياد الثلاث الماضية اشترت لهم من الألبسة الأوروبية المستعملة (البالة)، لأنّ "الأوضاع الماديّة تزداد سوءاً ونحن نزداد فقراً بسبب تغير الجو وقلّة المحاصيل الزراعية".