في مقهى برليني جلسَ المهندسان أمل محمد وشريكها موفق نيربية محاولين التعاون على استعادةِ تفاصيل أحداث مرّ عليها أكثر من أربعةِ عقودٍ في مدينتي حمص ودمشق، عن أيّام عاصفة غيّرت تاريخ سوريا، وجعلت ما يمرّ به السوريين/ات في تركيا اليوم (تموز/ يوليو ٢٠٢٤)، جرّاء حملات ملاحقة عنصرية، ممكناً. مع ذلك، يتملكهما الحماس وهما يتحدّثان عن عام الثمانين (1980) من القرن الماضي، حينما كان قلب الحياة المدنيّة الديمقراطية ما زال ينبض، وإن كان بضعف، عن بياناتٍ سياسيّةٍ تُوضع على أسقف الحافلات في حمص، تنثرها في شوارعها، وتسجيلاتٍ صوتيّةٍ سياسيّةٍ تُنسخ وتُوزّع، وعن أيّام لا ينامون فيها، يقضونها في اللقاءاتِ وفي الشوارع، لمعرفتهما بمدى مصيريتها على حاضر ومستقبل سوريا. كلُّ هذا فيما كان حافظ الأسد يحاول السيطرة على نقاباتٍ مهنيّة لم يسبق له أن تجرّأ على الاقتراب منها والتدخل في شؤونها بقوّةٍ، نقابات كان يراها خطراً على نفوذه وحكمه، خطراً لا يقلّ عن ذاك الذي يشكله الإخوان المسلمون وتنظيم الطليعة المقاتلة.
الشهودُ على تلك المرحلة باتوا الآن قلّة، بعد وفاة أغلبهم/ن، لذا لا تتحدّث أمل عمّا عايشته، وعن مشاركتها في النشاط النقابي حينذاك فحسب، بل وأيضاً عن شقيقها المُتوفي منذ سنوات، علي محمد، الذي كان عضواً بارزاً في نقابةِ المهندسين في دمشق، والذي عاقبه النظام على ذلك بسلبه سنوات من عمره في المعتقل.
الثمانيات وحراك النقابات الفاعل
تعود بنا أمل إلى عام ال ١٩٧٩، حيث كانت موظّفة في مؤسّسة الإسمنت في أجواءِ خوفٍ، تُوزّع فيها الاتهامات الجاهزة، بالانتماء للإخوان أو العمالة لأنصار اتفاقية كامب ديفيد، خلال حملة القمع التي بدأها النظام بعد مجزرة مدرسة المدفعية في حلب. كامب ديفيد ستعودُ للظهور في خطابٍ عالقٍ في ذهنها، ألقاه شقيقها علي في اجتماعٍ لنقابة المهندسين في دمشق، جادل فيه بأنّ ما يجري في سوريا حينذاك يخدم مثل هكذا اتفاقية. كلمة تقول أنّه لمّح فيها إلى سياسة الأسد القائمة على إسكاتِ جميع الأصوات ليُفرغ الساحة لنفسه ولجماعته، وجادل بأنّ توقّف السلطة عن الاعتقال التعسفي وتعذيب المناوئين لها كفيل بإيقاف دوامة العنف، أمر يشي بسقف الحريّة الذي كان ما زال حينها عالياً نسبياً.
في وقتٍ لاحق تردّد صدى خطاب علي في النقابة في حمص، عندما استعادتْ أمل بعضًا مما ورد فيه، في كلمتها أمام زملائها في اجتماعِ نقابة المهندسين، في وقتٍ كانتْ المؤتمرات لمختلف النقابات تُعقد في كافة المحافظات السورية.
كانتْ أمل قد انتقلتْ حديثاً من دمشق للعيش في حمص وانتسبتْ إلى نقابتها حينذاك، كي تستطيعَ ممارسةَ المهنة، عندما توجّهت إلى سينما الأمير للمشاركة في مؤتمرِ نقابة المهندسين. كان المشاركون/ات في الاجتماع يعلمون بتحليق المخابرات فوق رؤوسهم، بعد الخطابات التي ألقاها علي وسليم خير بك في دمشق. كان هناك تدقيقاً على هويّات الداخلين للاجتماع، تتذكر.
بدا الخوف السائد وقد سحب الهواء من أجواءِ الجلسة، بعد إلقاء بيان للنقابة يتجاوز في حدّته بيان التجمع الوطني الديمقراطي، ونشوب جدال حول جواز مشاركة أعضاء النقابة في السياسة، عندما قرّرت أمل التقدّم للحديث على نحو مفاجئ للحضور. تقول إنّها وجّهت تحيةً لفرع النقابة وبيانه، ثم استعانتْ بمادةٍ في النظام الداخلي للنقابة، لتجادلَ بأنّه لا يمكن فصل العمل النقابي عن الدور الوطني السوري، فرأتْ الكثير منهم يقفون داعمين لموقفها، الداعي لعدم سحب مطالب النقابة، التي تُعتبر صدى لمطالب نظيرتها في دمشق. تتذكر أمل أنّ البعثيين كانوا أقليّة في ذاك الاجتماع وقُمعوا تقريباً، وكان عليهم تبرئة ساحتهم أمام الحكومة.
مع اعتقال كلّ الشخصيات النقابية والسياسية والثقافية الناشطة في الحراك الديمقراطي ثمانيات القرن الماضي، انتهت مرحلة كان سقفُ الحريّة فيها أعلى نسبياً، والقضاء بخير، فترة لن تختبرها الأجيال اللاحقة
رغم أنّ الأحداث التي شهدتها تلك الفترة قد ترسّخت في الوعي الجمعي السوري، على أنّه صراع دموي بين الأسد والإخوان، يتفق موفق، الذي كان منخرطاً في النشاط النقابي، عضواً في اللجنة السياسية للتجمّع الديمقراطي، ينسّق يومياً مع النقابات المهنيّة، مع ما وردَ في شهاداتِ شخصيّاتٍ أخرى ناشطة في ذاك العام الفاصل في تاريخ سوريا، مؤكّداً على أنّه لم يكن التعاطي حينها، انقسامياً على أساس تيار إسلامي أو ديمقراطي أو يساري، ولم يكن نفوذ الإخوان كبيراً فيها، بل كان الحراك اللا عنفي ذو صبغة وطنيّة ديمقراطيّة، شاركتْ فيه النقابات المهنية والقوى الديمقراطية والمثقفين، وإن كان بعض أطرافه إسلامياً، مشيراً إلى أنّ الشخصيات الفاعلة حينها، خاصة في المجال الحقوقي، كانت قد عاصرتْ الفترة الديمقراطية في الخمسينيات، وتتمتّع بوزنٍ اجتماعي كبير.
جوزيف ضاهر، المدرس الجامعي المتخصص في الاقتصاد السياسي، يؤكّد في حديث هاتفي مع حكاية ما انحكت، أنّه لم يكن للإخوان تاريخياً تأثيراً كبيراً على الحركة النقابيّة، بل كانت توجّهات النقابيين يسارية، أو مستقلة ديمقراطية، وقومية ناصرية.
ويتحدث الباحثون والمؤرخون عن نشوءِ نشاطٍ نقابيٍّ سوريٍ في عشرينيّاتِ وثلاثينيّاتِ القرن الماضي خلال الانتداب الفرنسي، الذي كان يعمل على الحدّ من نشاطها وتدخّلها في السياسة، ثم تبلورت الحركة النقابيّة في الخمسينيّات واستمرّت في ممارسةِ نشاطها على هذا النحو حتى نهاية السبعينيّاتِ ومطلع الثمانينيّاتِ، فترة تخلّلتها حلّ الرئيس جمال عبد الناصر للنقابات في زمن الوحدة.
ويشير ضاهر في ورقة بحثية أعدّها بعنوان "الاتحادات العمالية في سوريا تحت المجهر"، لمؤسّسة فريدريش إيبرت الألمانية، إلى أنّ دولة البعث الوليدة بقيادة حافظ الأسد أكدّت رسمياً في مؤتمر الاتحاد العام لنقاباتِ العمال في العام ١٩٧٢ على أنّ هدف النقابات "سياسي"، أي فرضت قيوداً صارمة علي أيّ دورٍ سياسيٍّ مستقلٍ قد تلعبها، ووصفتْ كلّ الحركات التي عبّرت عن مطالب اجتماعية واقتصادية بأنّها "هدامة"، مُعطّلة للمسار الاشتراكي.
حينما دخل نظام الأسد في أزمةٍ وجوديةٍ نهاية السبعينيات، بدا وأنّه يعرف كيف سيتعامل مع الصراع المسلّح مع الطليعة المقاتلة، وجماعة الإخوان المسلمين، وذلك عبر عنفٍ مضادٍ واعتقالاتٍ تعسفيّة ومجازر، فيما بدا مرتبكاً في التعامل مع المثقفين والنقابات المهنيّة، تتقدّمها نقابة المحامين، التي اختارت النضال المدني الديمقراطي، وقدّمت مطالب واضحة. وبعد أن حاول الأسد احتوائها بحواراتٍ خلبيّة، أسندها لرئيس حكومته الجديد عبد الرؤوف الكسم، الذي نجح في حثّ النقابيين على تأجيل إضراب، كان مقرّراً له أن يبدأ في ٣١ كانون الثاني/ ديسمبر ١٩٨٠، مدّة شهرين، متعهّداً بتلبيّةِ مطالبهم، بدا الأسد وقد حسم أمره، مع مضي النقابيين في إضرابهم في ٣١ أذار/ مارس ١٩٨٠، وأمر باعتقال العشرات منهم، وخوّل حكومة الكسم بحلّ النقابات، وهو ما حصل في ١٠ نيسان/ أبريل من ذاك العام.
وتشيرُ شهادات شخصيّات عاصرت الإضراب المذكور، إلى أنّ النقابات المهنية في حمص وحلب وحماة نفّذت الإضراب، فيما أثّرت العلاقات القويّة بين تجار دمشق والأسد على عدم تنفيذه كما يجب، بعد أن أعطاهم الأسد وعوداً مُحابية.
محاولاتُ النظام السيطرة على النقابات بطريقةٍ "ديمقراطية" عبر مرشحيه فشلت أيضاً حينها. يتذكر موفق ثلاث كتل تنافست في انتخاباتِ نقابة مهندسي حمص، هي الإسلامية والديمقراطية، والبعثية، كانت الأخيرة أضعفها، ونجاح خليط من ذوي الخلفيّات الإسلاميّة والديمقراطيّة.
إجهاض حراك النقابات وقمعها
ويعيدُ موفق، وهو من الحزب الشيوعي (المكتب السياسي بقيادة رياض الترك)، أهميّة الكلمة التي ألقاها علي، وزميله سليم خير بك، حينها إلى السياق، إذ جاءتْ في شهر مفصلي هو آذار/ مارس العام ١٩٨٠، الذي شهد أحداثاً كبرى في الحراك الديمقراطي والنقابي، كإصدار التجمّع الوطني الديمقراطي بياناً في ال ١٨ منه، يضم مطالب تمّهد للتغيير الديمقراطي في سوريا (منها رفع حالة الطوارئ وتحديث الدستور واخراج القوى العسكرية من المدن، والافراج عن المعتقلين أو تقديمهم لمحاكمات عادلة)، والإضراب المذكور، وخطاب حافظ الأسد التهديدي في الثامن من آذار/ مارس (يقابله ربّما خطاب الأسد الابن في ٣٠ آذار/مارس ٢٠١١)، ملاحظاً أنّ مطالب مرحلة النضال الديمقراطي تلك لم تكن سياسيّة فحسب، بل مرتبطة عموماً بحقوق الإنسان، وكان من الطبيعي أن تتبناها النقابات، موضحاً أنّه في حين كانتْ مطالبة المحامي برفع الأحكام العرفية، طبيعيّة حينها، باتتْ تهدّد قائلها بالإعدام لاحقاً .. ومع اعتقال كلّ الشخصيات النقابية والسياسية والثقافية الناشطة في ذاك الحراك الديمقراطي، انتهت مرحلة كان سقفُ الحريّة فيها أعلى نسبياً، والقضاء بخير، فترة لن تختبرها الأجيال اللاحقة.
يوضّح موفق الذي كان صديقاً وزميلاً لعلي في الجامعة، أنّ علي، ذو الميول اليسارية، المُولع بالسينما والشعر، كان ذو صلة بالحراك النقابي من نواح عدّة، لكونه مدرسّاً جامعياً في المعهد المتوسط للكهرباء بدمشق، ومرتبطاً بعلاقةٍ قويّة مع نقابة المهندسين وحراكها، وبصداقاتٍ مع شخصيّاتٍ من الوسط الثقافي والفني بعد انقلاب حافظ الأسد، وهكذا عندما تحرّكت النقابات المهنيّة في تلك الفترة، كان صوته إلى جانب آخرين، كزميله سليم خير بك، مسموعاً في اجتماعات النقابة في دمشق.
تُجادل الشخصيات النقابية، حتى ذات الخلفية الإسلامية منها، على أنّه كان بوسع الحراك المدني، والنقابي على نحوٍ خاص، مواصلة الصراع مع نظام الأسد، لولا النهج العنيف الذي اتخذته الطليعة المقاتلة
فيما تتذكّر أمل بأنّ علي، الذي لم يكن منتمياً لأيّ حزب، كان قريباً من التجمّع الوطني الديمقراطي حينها، واعتُقل بعد أيّام من إلقائه ذاك الخطاب، وذلك أمام باقي الطاقم التدريسي في حافلة نقل خاصة بهم، لجعله عبرة ربّما.
وأمل وعلي هما ابنا شخصيّة ذات ثقل اجتماعي، قُدّر لها أن تكون من الطائفة العلويّة، وهي حقيقة جرّت على علي غضباً ونقمة مضاعفتين من كبار شخصيّات النظام. كشأن باقي معتقلي النقابات من مختلف المحافظات، نُقل علي أيضاً إلى سجن الشيخ حسن، وظلّ معتقلاً فيه لسنتين، قبل أن يُنقل مجدّداً إلى سجن القلعة. عندما حاول والد علي زيارته في فرعٍ لأمن الدولة، قابله اللواء محمد ناصيف رئيس الفرع، وسأله عمّا إذا كان يعرف ما الذي قاله ابنه، فردّ الأب بأنّ ابنه على حق وهو فخور به، وأنّ عليهم هم مراجعة أنفسهم، ثم قابل علي، تتذكر أمل اليوم.
عندما زارت أمل شقيقها للمرّة الأولى في سجن القلعة، كان فرحان، شقيق زوجها، المعتقل السياسي الذي خسر ما مجموعه عقدين من الزمن في سجون الأسد، مسجوناً فيه أيضاً. كانت أمل تحمل في يدها كتباً وطبخة، مصطحبةً معها طفلها عروة... هناك التقى بعمّه وخاله للمرّة الأولى.
كان علي يرفضُ خلال الزيارات أن تتدخلَ العائلة لأجل إطلاق سراحه، رافضاً التوقيع على طلب استرحامٍ للنظام، رغم التهديد بنقله إلى سجن تدمر الرهيب، ومعاناته من ظروف عيشٍ سيئة في السجن، الذي كان يشهد صدامات عقائدية وإيديولوجية. مع ذلك أسرّ لعائلته بأنّه كوّن صداقات في المعتقل، نقابيين من حلب زاروه بعد الافراج عنه، وعاش في المعتقل لحظاتٍ إنسانيةٍ ظلّت راسخة في ذاكرته حتى وفاته، منها عندما جُهّزت مجموعة من "الحمويين" لتُنقل وينفّذ فيها حكم الاعدام، والتفتْ من بينهم إلى طفل في الثالثة عشر من عمره في المهجع، ثمّ ركض وعانقه وبكى.
في إحدى اللحظات السياسيّة التي كان الأسد الأب يريدُ الإيحاء بحدوث انفراجةٍ في أوضاع البلاد فيها، وتحديداً بعد خلافه مع شقيقه رفعت على السلطة، أُفرج عن علي بعد حوالي ٣ أعوام ونصف من الاعتقال، وذلك دون محاكمة كشأن غالبيّة معتقلي النقابات، وهو على موقفه المبدئي حتى النهاية، تؤكد أمل، مستدركةً بأنّ آثار التهديدات شديدة اللهجة التي سمعها قبيل إطلاق سراحه، والمُحذّرة من العودة لأيّ نشاط سياسي، كانت بادية عليه، لكنه مع ذلك عاد للعمل في مجال حقوق الإنسان لاحقاً، عبر الجمعية السورية لحقوق الإنسان، التي نشطتْ في التسعينيات وخلال ربيع دمشق.
النقاش الذي دار في ذروة الصدام النقابي مع النظام السوري في الثمانينيات، حول ما إذا كان يحق للنقابيين التدخل في الحياة السياسية، مستمر منذ بدايات القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا في مختلف دول العالم
من الجدير بذكره هنا، الضغوط التي قام بها اتحاد نقابات المحامين العرب على النظام، ليطلقَ سراح معتقلي النقابة، ما أسفر في النهاية عن إطلاق سراح آخر المحامين، نقيب المحامين في حلب، سليم عقيل وعبدالمجيد منجونة وثريا عبدالكريم، فيما ظلّ بعض معتقلي نقابة المهندسين حوالي إثني عشر عاماً في السجن، حتى مطلع التسعينيات.
وتُجادل الشخصيات النقابية، حتى ذات الخلفية الإسلامية منها، على أنّه كان بوسع الحراك المدني، والنقابي على نحوٍ خاص، مواصلة الصراع مع نظام الأسد، لولا النهج العنيف الذي اتخذته الطليعة المقاتلة، ورمي الأسد كلّ القوى المناهضة له بفضلها، في سلّة الإرهاب، نهج كرّره الأسد الابن خلال سنوات ثورة ٢٠١١.
النقاش الذي دار في ذروة الصدام النقابي مع النظام السوري في الثمانينيات، حول ما إذا كان يحق للنقابيين التدخل في الحياة السياسية، مستمر منذ بدايات القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا في مختلف دول العالم، يقول الأستاذ الجامعي جوزيف ضاهر، موضحاً أنّ النقابات لعبتْ دوراً أساسياً في المعركة ضدّ الديكتاتورية في البرازيل مثلاً، ولعبت دوراً في المعركة الديمقراطية في بولندا. ويرى أنّه من الطبيعي أن يكون لدى النقابات مطالبات ديمقراطيّة، لأنّه من المستحيل الفصل بينها وبين المطالب الاجتماعية، ولا يمكنها القيام بدورها بفعاليّةٍ دون مساحة من الحريّة، تتيح لها الدعوة للإضراب مثلاً، وإلا لانتفتْ ضرورة وجودها.
النقابات والثورة السورية ٢٠١١
عندما انطلقتْ الثورة السورية، لم تشهدْ سوريا أيّ حراك نقابي كالذي لعب دوراً مؤثّراً في دول أخرى أسقطت الثورات أنظمتها كمصر وتونس، مع غياب القرار المستقل فيها، ولحقيقة تحوّلها مع مرور السنوات إلى ألعوبةٍ تحرّكها أجهزة الأمن. ولم تتردّد صرخات يائسة رافضة لعنف النظام، أطلقها أعضاء النقابات (المحامين في حلب مثلاً) كثيراً، إذ سرعان ما قابلها النظام بالقمع، كشأن تعامله مع باقي فئات المجتمع الثائرة. ففي آذار/ مارس من العام ٢٠١٢، تحدثّت مثلاً وكالة الصحافة الفرنسية عن فضّ اعتصامٍ تضامني لمئات المحامين في القصر العدلي في حلب.
ويعتبر جوزيف ضاهر، المدرّس في جامعتي لوزان وفلورنسا، أنّ عدم اهتمام قادة المعارضة، من الائتلاف وقبله المجلس الوطني، أو حتى الأحزاب المعارضة ذات الخلفية اليساريّة، بالمسائل الاجتماعية والاقتصادية، واستقلال النقابات، رغم بعد المسألة التاريخي، أحد المشاكل الكثيرة التي عانت منها الثورة السورية. ويشير إلى أنّ هؤلاء لم يهتموا أيضاً بالاعتراض على تواجد ممثلي النظام في اتحاد النقابات العالمي، بل ركّزوا اهتمامهم على مؤسّسات الأمم المتحدة.
من الطبيعي أن يكون لدى النقابات مطالبات ديمقراطيّة، لأنّه من المستحيل الفصل بينها وبين المطالب الاجتماعية
وإلى جانب عدم الاستقرار الأمني والسياسي، وخارطة السيطرة المتبدلة بشكلٍ متكرّر، يُعيبُ ضاهر على الجمعيّات المهنيةّ المتشكّلة في مناطق المعارضة الخارجة عن سيطرة النظام، ضعف استقلاليتها، وقربها من مؤسّسات المعارضة (الخاضعة بدورها للحكومة التركية) أو الأجسام المعارضة المتشكّلة فيها، لافتاً إلى أنّ الوضع في مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا لا يبدو وردياً أكثر، كما أشار أيضاً في الورقة البحثية المذكورة آنفاً.
ويشي بيان بعنوان "الحكومة السورية المؤقتة تكرس سيطرتها على النقابات المهنية وتفقدها استقلاليتها في مناطق شمال غربي سوريا"، للشبكة السورية لحقوق الإنسان في نهاية شهر أيار/مايو الماضي، بوضع الجمعيات المهنية البديلة فيها.
ومن نافل القول، أنّ العمال/ات السوريون/ات في تركيا، الذين يعملون في ظروف تعيسة، يفتقدون إلى أيّ جهة ذو ثقل تدافع عن حقوقهم فيها، في ظلّ محاباة قوى المعارضة السورية المتواجدة في البلاد ل "الحليف التركي".
حراك السويداء وعودة النقابات
الظروفُ غير المواتية لأيّ حراك نقابي في ٢٠١١، قابلتها أخرى ملائمة في السويداء منذ نهاية العام الماضي، وفّرها حراك عابر لقطاعات المجتمع، بمن فيهم مهندسون/ات ومحامون/يات، نزلوا إلى ساحة الكرامة، وعدم تجرّؤ النظام على قمعها كما اعتاد.
وكان من اللافت منذ انطلاق الحراك رفع يافطات تدعو إلى استعادة النقابات والإشارة لكونها من الشعب وينبغي أن تعود إليه. ومن الصعوبة بمكان التحقّق من نسبة المعارضين بين أعضاء النقابات ككل، وعدد هؤلاء الذين لا يزالون مستكينين لنقاباتٍ منتخبة بديمقراطية البعث، أو الرماديين.
عماد مسعود، مهندس مدني ناشط في الحراك النقابي في السويداء، يتحدّث في اتصالٍ هاتفي عن انضمامهم للحراك بعد قرابة أسبوعين من انطلاقته، ثم تأسيسه وزملاء له من الحراك في الأثناء، ما يسمّى بالتجمع المهني في السويداء، الذي يضم أحد عشر جهة، منها النقابات المهنيّة، مع محاولتهم أن يكونوا جزءاً من التغيير، تغير واقع نقابات يسيطر عليها البعث والأمن، وتنخرها الشللية والفساد والمحسوبيات. وبدا مسعود متأسّفاً لحلول الصراعات الأيديولوجية البينية التاريخية، المتسرّبة للتجمّع المهني، دون أن يقود التجمّع الحراك ككل، أو تواصله مع النقابيين في مناطق سورية أخرى، على حدّ وصفه.
يستطيع عماد اليوم أن يتلمّس شدّاً وجذباً داخل النقابات، وتفاوت سيطرة البعث عليها، فالحزب يسيطر بقوة على نقابة المعلمين، فيما قبل باشتراطات قدّمها تجمع المهندسين (المشاركين في التظاهر)، وما زال يأمل بتمكنهم من فرض تنظيم انتخابات مستقلة في نقابة المهندسين، مع نهاية هذا العام، انتخابات يترشّح لها المعارضون، مع عدم استبعاد البعثيين، مؤكّداً أنّهم لا يرفضون فوز المرشحين البعثيين إن كان ذلك عن جدارة، ولكنهم لن يقبلوا بفرض فائزين.
عمّا ينوون فعله حال تكرار فرض الفائزين، يبدو واثقاً في قوّة الحراك السلمي وتماسكه وقدرته على الاعتراض حال حصول تدخل بعثي، مستشهداً بتدخل الحراك لمنع حدوث اجتماع كان من المقرّر أن يحضره أعضاء من فرع حزب البعث، داخل نقابة المهندسين الزراعيين.
ويطيب لعماد التفريق بين إلغاء انتخابات مجلس الشعب في السويداء مؤخراً وبين انتخابات النقابات التي يراها مؤسّسات مهنية.
وكشأن حراك السويداء، الذي اتخذ لنفسه خطاً متفرداً، رُفضت مقترحات لتشكيل نقابات ظلّ أو بديلة، أمر يفسّره المهندس عماد بوجود رماديين سينفرون من هكذا طروحات، قد تدخلهم في صراع مباشر مع النقابات، مجادلاً بأنّ محاولاتهم رفع سيطرة الأمن والبعث عن النقابات يلقى تجاوباً حتى بين النقابيين غير المعارضين، موضحاً أنّهم يريدون نقابات مهنيّة بعيدة عن الأيديولوجيات السياسية، لأحزاب عتيقة "تجتر نفسها"، معطلة الحراك، على أن يكون لأعضائها حريّة النشاط السياسي خارجها. وينفي حصول أيّ تواصل مع النقابات البديلة في المناطق الواقعة خارج عن سيطرة النظام.
رغم مرور ١٠ أشهر من النزول للشارع، يبدو الحراك مصمّماً على عدم العودة إلى ما قبل الانتفاضة، حيث تشكّلت في الأثناء هيئة عامة للحراك، على أن يتم انتخاب هيئة سياسيّة له، فيما يمني النقابيون أنفسهم كما يبدو بالعودة إلى ما كان عليه الوضع في العام ١٩٨٠ على الأقل، حيث كان لهم كلمتهم، وكان بوسع المرء أن يرفع صوته في اجتماعاتها، وينتخب قياداته بحريّة. إلى أيّ حد سيتمكنون من تحقيق ذلك، يظل ذلك معلقاً في الهواء كشأن مصير القضيّة السورية ككل.