حملتْ السنوات العشر الماضية لنا أفلاماً روائية عن القضيّة السوريّة، لكنها قُدِّمت غالباً عبر بوابةِ اللجوء ورحلة الوصول إلى أوروبا، فيما غاب عنها في المقابل الوقوف عند الجلادين والجهات الطاردة للسوريين/ات من وطنهم. يعكسُ هذا الغياب توجهاً سياسياً عاماً يتعاطى مع القضيّة السورية على أنّها أزمة لجوء، لا أهميّة فيها للمسؤولين عن هذا الترحيل القسري، الذي جاء نتيجة قمع النظام لانتفاضةٍ شعبيّة.
المخرج الفرنسي جوناثان ميليت، يقدّم فيلماً )أثر الأشباح) محمّلاً بأسئلة تؤرق طيفاً واسعاً من السوريين/ات، عن معنى المحاسبة بعد سنواتٍ من التنكيل بهم، يحمل جرعةً عاليّةً من الشجن بطريقةٍ حسّاسةٍ تتجنّب المبالغة، وينقل أسئلة وأحلام ومخاوف ورغبات السوريين/ات، وخاصة ما يتعلّق بالعدالة، بطريقةٍ يُمكن التماهي معها وتبنيها.
ميليت الذي يؤكد في مقابلات رافقت العرض الأوّل للفيلم في قسم "نظرة ما" من مهرجان كان، مدى قربه من السوريين/ات خلال سنوات الثورة داخل سوريا، وفي فرنسا، ليصنعَ فيلماً يتجاوز هذا التصوّر النمطي السائد في الإعلام والخطاب السياسي، مذكِّراً بمسؤولية النظام عن المقتلة، التي تجعل السوريون/ات يقارعون صدى انتهاكات ارتكبها ضدّهم حتى بعد انتقالهم إلى أوروبا.
كان ميليت قد قرّر بدايةً أن يصنع فيلماً وثائقياً، لكن ما أرّقه كان إيجاد الوسيلة الأنسب لتوثيق التجارب التي عايشتها هذه المجموعة بطريقةٍ عادلةٍ وإنسانيّةٍ. هنا اختار عدم وضع شهادات اللاجئين/ات أمام الكاميرا، تجنّباً لتعرضيهم/ن لأيّ أذى أو إساءة. فيما بعد، شدَّ انتباهه ما سمعه عن مجموعةٍ سرّيّة في أوروبا تتقفّى أثر سجانيها، فجاءته فكرة العمل الدرامي المُستوحى من القصة الواقعيّة، واستعان بأدواتِ السرد الروائي، واضعاً مشاهديه في مكانِ بطل فيلمه حميد، الذي يلعب الممثل الفرنسي التونسي أدم بيسا دوره.
من مدينة ستراسبورغ، نتابع تقصّي حميد ومجموعة من السوريين، في العديد من الأماكن، حقيقة هويّة طالب جامعي، يلعب دوره الممثل الفلسطيني المُقيم في هولندا توفيق برهوم، إذ يشتبهون بأنّه كان معذّبه (حميد) في المعتقل. يكتشف حميد أنI الشخص المشتبه به يمتلك أسماء وهويّات متعدّدة يتحرّك بها في أوروبا.
لا نشاهد هذه المجموعة السريّة، التي كرّست جهودها لملاحقة مجرمي الحرب السوريين الواصلين كلاجئين إلى أوروبا، يجتمع أفرادها خلال مجريات الفيلم مختبئين خلف لعبة فيديو، وهم يتخاطبون صوتياً عبرها مع حميد الذي يسعى بكلِّ ما أوتي من عزم على كشف هويّة معتقله. وترمز لعبة الفيديو بما تضم من قتالٍ وحربٍ وجنود، إلى ما عايشته سوريا من معارك، دفع الشعب السوري تكلفتها.
ما يميّز عمل صنّاع الفيلم هاهنا، ابتعاده عن عرض مشاهد العنف المباشر، بما في ذلك لقطاتِ تعذيب تعرّض له حميد، واعتماده في المقابل على الغوص في مشاعر الشخصيّة التي تنقل لنا هذا الوجع. في لقطاتٍ قريبة ومركّزة، يحمل وجه الممثل أدم بيسا ألم وعذابات قاساها حميد في سجن صيدنايا. كما ينقل العمل هذه المعاناة عبر الصوت الذي تحمله تسجيلات لمعتقلين سابقين، لترصدَ حجم الرعب الذي يختبره من يمرّ بهذه التجربة المهولة.
يحاولُ المخرج بنجاحٍ تقديم جوانب مختلفة لشخصيّة بطل فيلمه حميد، فمع تلمسنا سعيه بثباتٍ إلى كشف الحقيقة، نشعر بضعفه وضياعه الذي يصوّره ميليت على هيئة أشباح تطارده. كما يقترح العنوان، فإنّ حميد هو فريسة أشباحه التي تمنعه من عيش حياة إنسانيّة طبيعيّة يجد فيها الراحة بعد كلّ ما قاساه.
لا يقدّم العمل المعتقل حميد كبطل ولا كضحيّة، بل يُؤنسن ألمه بطريقةٍ عادلة وكريمة تبتعد عن المبالغة والتنميط التي طالت في حالات الشخصيات الدراميّة السورية لسنوات
لا يقدّم العمل حميد كبطل ولا كضحيّة، بل يُؤنسن ألمه بطريقةٍ عادلة وكريمة تبتعد عن المبالغة والتنميط التي طالت في حالات الشخصيات الدراميّة السورية لسنوات. كذلك، رغم أنّ حبكة الفيلم تعرض للمطاردة بين المعتقل وجلاده، لكنه ليس من ذاك النوع الذي نراه في أفلام الجاسوسيّة، إذ يتصف بالهدوء والسلاسة التي تبتعد عن المبالغة والمطاردة البوليسية الهادفة إلى شدّ المشاهد/ة. يسمح هذا، برصد حزن وتعب حميد، الذي تُشكّل خسارته لزوجته وابنته في الحرب كارثةً أخرى، تُضاعف معاناته.
يقف المخرج أيضاً عند هول الصدمة التي يرزح تحت وطأتها المهجرون/ات، التي تُضاف لتعقيدات الحياة في المنفى. وتأتي حوارات حميد مع والدته في اتصالاتِ الفيديو، مرآة تعكس ليس غربته فحسب، بل غربة عدد كبير من السوريين/ات الموجودين في منفى قسري.
رغم أنّ ممثلين غير سوريين يلعبان دور البطولة في الفيلم، لكن المخرج أحسن الاختيار بعد اختباراتِ أداءٍ لفترة طويلة كما صرّح. فإلى جانب أداء آدم بيسا، الذي سبق له وأن فاز بجائزة أفضل ممثل في قسم "نظرة ما" في مهرجان كان، المفعم بمزيجٍ من المشاعر الإنسانيّة التي ينجح بإيصالها للجمهور، يبرز توفيق برهوم بأداء معتدل دون مبالغة في شيطنة السجان. ورغم حواراته النادرة إلّا أنّ برهوم يجسّد بمهارةٍ عالية هذا الالتباس بين شخصيّته في الحاضر كطالب جامعي يعيش قصة حب، وبين الماضي الذي كان فيه يقوم بأعمال وحشيةّ. ويتبدى حسن الاختيار أيضاً في مشاهد أخرى، كذلك الذي يشاهد فيه حميد سجانه وهو يعانق حبيبته، فيما تمنعه أشباحه من عيشِ حياةٍ مشابهة.
من اللحظات الجميلة في الفيلم هي تلك التي نرى حميد يغوص فيها في الإجراءات الإداريّة التي تشكّل تحدّياً للاجئين/ات، ويعرض أحد الموظفين عليه العمل في مجاله كمدرِّس، ليجيبه: "هل ترى أنني أستطيع مع ما أعايشه أن أقوم بهذه المهنة". هنا تظهر براعة ميليت، وشريكته في كتابة السيناريو فلورنس روشات، في كتابة حوار إنساني يعكس معاناة اللاجئين/ات، الذي يحاول الخطاب اليميني تنميطهم ككسالى واتكاليين.
أخيراً، تأتي بوادر الإعجاب المُتبادل بين حميد ولاجئة سورية في فرنسا، والتي تؤدّي دورها الفنانة حلا رجب، كمساحة للأمل تشدّ الجمهور.
أصداء إيجابية للفيلم
وكان هذا الفيلم الروائي الطويل الأول لميليت، قد حقّق أصداء إيجابية لدى الجمهور، عند عرضه في مهرجان كان، في شهر أيار/ يونيو الماضي، وكتب عنه النقاد مراجعات مادحة.
وحصل الفيلم ،الفرنسي-الألماني-البلجيكي الإنتاج، على جائزة مؤسّسة فيزو لأفضل سيناريو فيلم روائي بمهرجان أنجرس الأوروبي.
وكان ميليت قد أخرج سابقاً عدّة أفلام قصيرة ووثائقية منها فيلم "ودائماً سوف نسير"، الذي رُشّح لجائزة سيزار، التي تمنحها أكاديمية الفنون والتقنيات السينمائية في فرنسا، لعام 2018.
منظمة العفو الدولية تدعم "أثر الأشباح"
وكان من اللافت دعم وإشادة منظّمة العفو الدولية بالفيلم في مقال على صفحتها، اعتبرت فيه أنّه يعكس ما قاساه الشعب السوري من ويلات، كالتعذيب في السجون والقتل.
وأضافت المنظمة، أنّ دعمهم للفيلم "هو دعم لوصول الآلاف من ضحايا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها قوات بشار الأسد إلى العدالة".
وكانت المنظمة قد نشرت في العام 2017 تحقيقاً يتقصى العنف والجرائم بحق المعتقلين في سجن صيدنايا.