(هذه المقالة أعدّت بالشراكة والتعاون بين "منظمة العدالة من أجل الحياة" و"سوريا ما انحكت")
"نحن نستخرج المياه من الأرض ثم نعيدها إلى الأرض، فلماذا يجب أن تكون هذه مشكلة؟ ما زلنا نستخدم الطاقة الشمسية منذ ثلاث سنوات ولم يحدث شيء".
هذا ما يقوله أبو جابر (أراد التعريف عن نفسه بهذا الاسم، 54 عام) وهو مزارع من ريف دير الزور الشرقي في شمال شرق سورية بعد أن استبدل في السنوات القليلة الماضية، عددٌ متزايدٌ من المزارعين محرّكات الديزل القديمة بألواح الطاقة الشمسية في إطار ما سُمّي بـ "طفرة الطاقة الشمسية المفاجئة في سوريا".
ويأتي هذا التحوّل بعد أن دمّرت الحرب في سوريا نصف البنية التحتية للبلاد، بما في ذلك البنية التحتية للطاقة والري في المناطق الريفية. حيث تقلصت الأراضي الزراعية المروية في سوريا بشكل كبير بسبب تدمير محطات وقنوات ضخ المياه، انقطاع التزويد الكهربائي، وارتفاع أسعار الوقود. وفوق ذلك، جعلت موجات الجفاف الشديدة والمتكرّرة الزراعة البعلية عديمة الفائدة في أجزاء كبيرة من شمال شرق سوريا. أفضت هذه التغييرات إلى تدمير سبل العيش، وارتفاع معدلات الفقر المدقع، والنزوح وقذفت بالمنطقة إلى أزمةٍ إنسانيةٍ حادة.
ولمواجهة ما سبق وجد المزارعون في دير الزور وأجزاء أخرى من شمال شرق سوريا أنّ استخدام الطاقة الشمسية في الري هو الحل الأنسب لمواجهةِ التحديات الثلاث المتعلّقة بالنزاع إلى جانب تحدّي الجفاف، حيث تضخ منظومات الطاقة الشمسية المياه دون تكاليف الديزل وكلّ التكاليف التشغيلية الأخرى. هذا التحوّل نحو الطاقة المتجدّدة مدفوع بعوامل السوق حيث يتشكّل قوامه من عدد كبير من الاستثمارات الصغيرة التي تقوم بها الأسر الريفية في شمال شرق سوريا.
يعطي أبو جابر تفاصيل أكثر عن تلك الاستثمارات بالقول "أنا بعت سيارتي واستثمرت ثمنها في شراء منظومة الطاقة، جيراني استدانوا مبلغ 10 آلاف دولار من أقاربهم في الخارج ويسدّدوا جزء من الدين في كلّ موسم، البعض أحوالهم أفضل واستثمروا من مدخراتهم لكن بالمجمل كلّها استثمارات صغيرة".
التحدي الذي يفرضه التحوّل نحو الطاقة الشمسية
يبدو أنّ هذا الحل ليس مُستدامًا، حيث هناك خطر من أن تُسبّب الطاقة الرخيصة التي تنتجها ألواح الطاقة الشمسية مزيداً من الضغط على مصادر المياه الجوفية الهشّة في المنطقة، خاصة إذا لم تكن مرتبطة بسياسة فعالة لإدارة المياه وتحوّل في أساليب الري. يقول مزارع محلي فضّل عدم ذكر أسمه (38 عاما) من بلدة رويشد في ريف دير الزور: كلّ ما يبقينا أحياء هو هذه الآبار، لكن يوماً ما ستنفد المياه من رويشد، بعضنا متأكد من ذلك، نأمل فقط ألا يأتي ذلك اليوم بسرعة".
تُصنّف المنطقة المستهدفة في شمال شرق سوريا على أنها المنطقة الأكثر عرضة لخطر الجفاف في البلاد، وهي تعاني منه منذ أكثر من عشر سنوات على الأقل قبل الحرب. فبين عامي 2007 و 2009 مثلاً "تضرر أكثر من مليون شخص في محافظات الحسكة والرقة ودير الزور مما تسبب في عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والمشاكل الصحية وانعدام الأمن الغذائي والهجرة" وفقا لتقرير للأمم المتحدة عام 2010. في الواقع، توجد قائمة طويلة من الدراسات الغربية التي تربط بين تغيّر المناخ واندلاع الصراع في سوريا، حتى صُنّفت الحرب السورية على أنها أوّل "حروب المناخ" في العالم.
هناك خطر من أن تُسبّب الطاقة الرخيصة التي تنتجها ألواح الطاقة الشمسية مزيداً من الضغط على مصادر المياه الجوفية الهشّة في المنطقة، خاصة إذا لم تكن مرتبطة بسياسة فعالة لإدارة المياه وتحوّل في أساليب الري.
وفي شمال شرق سوريا حيث اهتمام هذه الدراسة، يمكننا التفريق بين منطقتين مناخيتين وجغرافيتين رئيسيتين في شمال شرق سوريا هما: المنطقة الزراعية في الجزء العلوي بما في ذلك معظم محافظتي الحسكة والرقة، حيث تتراوح معدلات هطول الأمطار بين 200 إلى 600 ملم سنوياً وتتوفّر فيها بعض مصادر المياه السطحية. أما المنطقة الثانية، حيث ينصب تركيز هذا المقال عليها، فهي المصنّفة كمنطقة شبه قاحلة حيث معدّل هطول الأمطار هناك أقل من 200 ملم سنوياً وهي تضم معظم محافظة دير الزور. الزراعة البعلية هناك غير مُجدية ويعتمد المزارعون بشكلٍ كامل على المياه الجوفية للري. توضّح الخارطة التالية امتدادات المنطقتين المناخيتين:
وعليه، فإنّ الاستخدام المُفرط للطاقة الشمسية في استخراج المياه الجوفية، قد يكون له عواقب كارثية، خاصة أنّ استخدام الطاقة الشمسية يجعل استخراج المياه الجوفية عديم التكلفة تقريباً للمزارعين، وهو ما يمكّن المزارعين من زراعة المزيد من المحاصيل الصيفية أو توسيع الأراضي المروية. وهو ما يحصل حقا، فمنذ بدء الحرب السورية، ارتفع عدد الآبار في أبو خشب على سبيل المثال من 280 بئراً في عام 2010 إلى 890 بئراً في العام الماضي حسب رئيس اتحاد الفلاحين في دير الزور محمد الحسين، وذلك بسبب سقوط القيود التي كانت مفروضة من قبل الدولة سابقاً.
تحديث منقوص
بحسب الحسين، إنّ ما يقرب من 55٪ من الأراضي الزراعية المروية في دير الزور تعتمد على المياه الجوفية. طريقة الري التقليدية هي الري بالغمر، وهي طريقة غير فعالة وتتسبّب في هدر كبير للمياه. وبحسب الحسين أيضًا، فإنّ منطقتي أبو خشب رويشد الواقعتان في ريف دير الزور من المناطق الرائدة في التحوّل نحو الطاقة الشمسية. تقع كلتا المنطقتين بعيداً عن مصادر المياه السطحية، ولفترةٍ طويلة كانتا تعتمدان على محرّكات الديزل لاستخراج المياه الجوفية من الآبار الخاصة. في الوقت نفسه، يواجه المزارعون تحدياً كبيراً لتوفير الديزل بأسعار معقولة لتشغيل هذه الآبار. تعرض الخريطة التالية موقع المنطقتين المستهدفتين في هذه الدراسة أبو خشب والرويشد.
حتى الآن تحوّل ما بين 30 إلى 40٪ من المزارعين في منطقتي أبو خشب ورويشد في ريف دير الزور الشرقي إلى الطاقة الشمسية، وفقا لأسعدلأشمخ (ريف دير الزور، 33 عاماً) الذي يعمل في منظمة غير حكومية محلية تدعم الزراعة في المنطقة.
الاستخدام المُفرط للطاقة الشمسية في استخراج المياه الجوفية، قد يكون له عواقب كارثية، خاصة أنّ استخدام الطاقة الشمسية يجعل استخراج المياه الجوفية عديم التكلفة تقريباً للمزارعين.
وفي ظلّ النمو السريع في استطاعات منظومات الطاقة الشمسية في مقابل انخفاض تكلفة شرائها، فإنّ سرعة الاستخراج قد تفوق سرعة تجدّد المياه الجوفية. يقول أسعد: "يلمس المزارعون تدهور المياه الجوفية عندما لا توفر آبارهم نفس الكمية أو النوعية من المياه عاماً بعد عام. لكن معظمهم يرفضون الاعتراف بأنه إلى جانب كلّ المشاكل التي يواجهونها فوق الأرض، لا يزال لديهم المزيد منها تحت الأرض". يؤكد رئيس اتحاد الفلاحين (الحسين) أيضا، ذلك بالقول "سابقاً كانت معظم الآبار تعمل شتاءً وتتوقف في الصيف. كانت الآبار تأخذ وقتاً لترتاح وتجدّد مياهها، حالياً من يستخدم الطاقة الشمسية يسقي طوال السنة، وغالباً ما يبقي مستخدمو الطاقة الشمسية محرّكات الديزل القديمة في مكانها لتعويض نقص الطاقة الشمسية المُحتمل في الشتاء وكلّ هذه ممارسات غير مستدامة". تظهر صور الأقمار الصناعية التالية جانباً من مزارع أبو خشب من الصيف الماضي (2024) حيث يمكننا ملاحظة أنّ الأراضي الزراعية الخضراء الوحيدة خلال هذا الفصل هي تلك التي يظهر بجوارها ألواح طاقة شمسية.
صحيح أن التحوّل إلى الطاقة الشمسية بات ظاهرة عالمية كما تظهر العديد من الأدبيات، ويأتي ذلك ضمن إطار سياسات الحدّ من الاحتباس الحراري والتغيّر المناخي، إلا أنّ تلك التحولات غالباً ما تأتي ضمن أطر قانونية، مؤسّسية وسياساتية تدير وتوجّه التحوّل الطاقي، وذلك خلافاً للحال في شمال وشرق سوريا حيث المؤسّسات العامة غائبة عن لعب هذا الدور.
قد يسعى المزارعون إلى الحصول على فوائد اقتصادية أكبر ولو على حساب تهديد استدامة الموارد الطبيعية، لكن يجب على السلطات العامة التدخل لحماية تلك الموارد. وفي حالة شمال وشرق سوريا، تركز السلطة الحاكمة لـ "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا "بشكل أساسي على توفير الأمن وبعض الخدمات الأساسية دون تدخلات واضحة في خدمة التعافي الاقتصادية في المنطقة" كما أخبرنا أبو جابر الذي يتابع قائلًا أنّ "عمليات تحديث الزراعة في منطقتنا تقتصر على استبدال الديزل بالطاقة الشمسية، ولا يتم الاستثمار في جوانب أخرى من الزراعة مثل نوع المحاصيل وطرق الري لأنها مكلفة وتتطلب خبرة ... لا يمكن للمزارعين بمفردهم القيام بذلك".
إنجاز تحويل جذري في النظم الزراعية، بات شرطاً لضمان استدامة العيش على خطّ المواجهة مع صحراء بادية الشام الآخذة في التوسّع، وهو يتطلب اللجوء إلى مقاربات غير تقليدية.
تتمتّع السلطات الزراعية المحلية بالحدّ الأدنى من الوجود والتدخل في هذه المنطقة بسبب العديد من القضايا، بما في ذلك الافتقار إلى الشرعية السياسية والقدرات الإدارية والموارد. يقول الحسين، رئيس اتحاد الفلاحين: "مديرية الزراعة غير قادرة على قيادة التحوّل الجاري، ودعمها للفلاحين محدود وغير فعال، ولا توجد خطط زراعية سنوية... حتى أنّ المديرية ليس لديها أرقام دقيقة حول مساحة الأراضي المزروعة كل عام". يشير هذا الاقتباس إلى الفراغ المؤسّسي والسياساتي الذي يظهر هنا كعائق رئيسي أمام تعظيم فوائد التحوّل نحو الري بالطاقة الشمسية والتخفيف من آثاره البيئية المُحتملة.
إطار نظري لتغيير تحويلي!
في منطقة هشّة بيئياً، متأثرة بالحرب وتفتقد إلى مؤسّسات حكم تحظى بالاعتراف كما في شمال شرق سوريا، يبدو أنّ إنجاز تحويل جذري في النظم الزراعية، بات شرطاً لضمان استدامة العيش على خطّ المواجهة مع صحراء بادية الشام الآخذة في التوسّع، وهو يتطلب اللجوء إلى مقاربات غير تقليدية. حول ذلك يقول أسعد "الناس يشعرون بالمشكلة لكن ليس لديهم رؤية حول كيفية التعامل معها، هم مضطرون للاستمرار في الزراعة بالشكل الحالي ليطعموا أطفالهم ومواشيهم، بات الأمر أشبه بسقوط ينتظر لحظة الارتطام بالأرض".
أحد أكثر الأطر النظرية ملائمة لحالتنا هو ما يمكن ترجمته بمقاربة الصراع التحويلية (Coflict Transformation Approach)، وهي مقاربة تعتمد على نهج تكاملي لتحليل ودعم التحوّلات الزراعية المستدامة، والتي ترى في الصراع فرصة لإحداث تغيّرات جذرية في النظم الزراعية القائمة. ومن هذا المنظور، فإنّ تعافي الزراعة في مرحلة ما بعد الصراع ليست عملية تهدف إلى استعادة الوضع الذي كان قائماً قبله، بل هي عملية تحويلية تهدف لتغييرات أكثر جذرية في النظام الزراعي، والذي يشمل بدوره كلّ العناصر المادية، المعرفية والاجتماعية التي تجعل الزراعة ممكنة. تنظر المقاربة إلى المزارعين على أنّهم الجهات الفاعلة الرئيسية في سياق ما بعد الصراع حيث يساهمون في الانتعاش الزراعي أكثر من الدولة والقطاع الخاص كما حدث في عدّة بلدان نزاع سابقة.
أخيراً، في غياب مؤسّسات عامة رسمية، تقع على عاتق المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية التي تتدخل بالفعل في المنطقة، مسؤولية الجمع بين أصحاب المصلحة بهدف تمكينهم من تبني إطار سياساتي للتحوّل نحو الطاقة الشمسية في الزراعة. فالفجوة التي يتركها غياب أو ضعف المؤسّسات العامة يمكن تعويضه بدور أكبر لجمعيات واتحادات الفلاحين وهم أصحاب المصلحة الأكبر في تحويل نظمهم الزراعية الحالية إلى أشكال أكثر استدامة.