قبل يومين من حفلهم نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠٢٤، بدأ المعتقل السياسي السابق في سجن صيدنايا، أسعد شلاش، وبجانبه رفاقه، المعتقلون السابقون أيضًا، هيثم القطريب وكسرى كوردي وإبراهيم بيرقدار، في قاعة من مسرح هاو البرليني، يتحدّث معنا وهو مشغول بتحويل أنبوب مياه بلاستيكي إلى ناي، وهي عملية يُهيئ لك بأنه فعلها آلاف المرات سابقاً، إذ كان يفتح بمشرط في يده، وبتأن، فوهات فيه. هناك سكينة طاغية على حديثهم وحركة جسدهم، تشير ربّما إلى سنوات طويلة قضوها في المعتقل، حيث لا محل للعجلة، وحيث كان الصبر والإصرار مفتاحين قادرين على تحويل الظلم والظلام إلى كلماتٍ وألحان.
بعد مضي التحضير وفق ما هو مخطّط له، يظهر قلقٌ (صحيّ ربما!) على وجه الأستاذ المساعد في الدراسات العربية بجامعة ديفيدسن، والباحث السوري إيلاف بدر الدين، وهو الذي بدأ منذ سنوات رحلة التنقيب عن أغنية سجنية مُفترضة في سوريا، وكتب بحثًا ذا صلة يفترض أن يجد طريقه للنور قريبًا.
وبوسع المرء هنا مشاهدة آلات موسيقية متناثرة في القاعة، أُعيد صناعتها وفق طريقة سجن صيدنايا، هنا عود "القصعة/الإناء"، وهناك عود "الخبز المجفّف".
"المقاومة بالقوة الناعمة"
"استعادة الموسيقى التي عزفتموها في السجن جميل، لكن ألا يعيدكم انشغالكم بها بطريقة ما إلى السجن؟"
سؤالي هذا أوقظ المعلم أسعد من انكبابه على تصنيع الناي، موضحاً: "درست في معهد الموسيقى قبل اعتقالي، واعتُقلت بعد شهرٍ من تخرجي. كان الوقت الوفير في السجن فرصة لأقوّي قدراتي، لكن لم يكن هناك مراجع. أعتبر أنّ الموسيقى عمومًا والغناء يساهمان في الحفاظ على التوازن. أما بعد الافراج عني، فبقيت علاقتي قوية مع الموسيقى، كشأن أفراد عائلتي"، قبل أن يستدرك "لكنها بالتأكيد تجعلني أستعيد ذكريات، فيها من الألم ولكن الجمال أيضاً (...) المتعة.. تذكّرك بأنّ الألم لم يحطّمك، بل استطعت استغلاله في صنع شيءٍ جميل. لطالما أسميتها المقاومة بالقوة الناعمة".
كِسرى، الذي قضى ثماني سنوات في المعتقل، وتعلّم العزف بمساعدة أسعد، يجد أنّ تجربة الاعتقال، غيّرت علاقته بالموسيقى، ويمضي في شرح المراحل التي يمرّ بها المُعتقل، في رحلة بحثه عن التوازن، وملء وقت الفراغ الذي يخلقه الاعتقال، واستكشاف كلّ واحد منهم مختلف مجالات الفن والمعرفة، التشكيل واللغات والموسيقى... بدأ العشرات منهم بتعلّم الموسيقى، ولم يواصل سوى ستة منهم فحسب.
"تجد توازنك ويصبح لديك عالمك الخاص في السجن، الذي تجد نفسك عن طريقه"، يقول، مشيراً إلى مصطلح وضعه الكاتب ياسين الحاج صالح هو "الاستحباس"، الركون إلى السجن والتكيّف معه. رغم اتساع خيارات الانشغال بمجالات أخرى بعد الافراج عنه، وجد كسرى نفسه مرتبطًا بالموسيقى، يتذكر بين الفينة والأخرى كلّما عزف، المعتقل، أين وكيف تعلّم الموسيقى.
أما هيثم قطريب، وهو مُدرّس غناء من مدينة السلمية، كان قد اعتقل في العام ١٩٨٢ ولمدّة عشرة أعوام، فيقول إنّه لا يتذكّر السجن أبداً بعد الافراج عنه، ولا يرى أحلامًا عن السجن، مكان يصفه ب "أكثر مكان احتقرته (..) هناك شيء ما احترق منا داخله ولا يمكن أن يعوّض". ومضى يتحدّث عن تعلّمه الموسيقى قبل اعتقاله، ثم نسيانه كلّ ما تعلّمه في السجن، كان وقتها في جناح مختلف عن ذاك الذي كان الموسيقيون يقطنونه. ثمّ يتذكّر كيف باشر التعلّم من جديد، وخاصة أصول الصولفيج، مستعيناً براديو كان معه، يتابع عبره كلّ البرامج الموسيقية، "بعد سبعة أشهر، نظمت لهم حفلة، أغان من ألحاني"، يقول ثم يضيف: "بعد الافراج عني، ابتعدت عن الموسيقى مدّة عام، ثم عدت للعمل في مجال الموسيقى، أعلّم الطلاب. كنت أول أستاذ في السلمية يخرّج طلاب إلى المعهد العالي للموسيقى".
يسرد إيلاف في بحثه كيف كان بدر زكريا يحوّل مواقف مصيرية إلى فكاهية، كضحكه بصوت عال على ضرب جلاد رأسه ورأس باقي المعتقلين بالحائط في غرفة التحقيق، وخروج نغمات آهات مختلفة منهم، متصوّرًا أن شخصًا يعزف برأسهم البيانو، ما جعله يتعرّض للضرب مجدّدًا
فيما نتحدّث، غادر أسعد شلاش إلى الغرفة المجاورة، وبتنا نسمعه، يجرّب الناي ويتأكّد من جودته.
يتضح مدى صعوبة عصر الذاكرة واستحضار تفاصيل الجانب الموسيقي من حياتهم في المعتقل، عند سؤالهم كيف عايشوا موت ابن الديكتاتور، باسل الأسد في حادث سيارة في العام ١٩٩٤ داخل المعتقل وفيما إذا توقفوا عن عزف الموسيقى، في وقتٍ كان النظام يفرض الحزن عليه على الشعب في الخارج. يتذكر كسرى كم كانوا مرعوبين حينها، ولم يكن هناك للموسيقى مكان في تلك الأيّام، التي خشوا فيها من تبعاتٍ انتقامية من إدارة السجن عليهم، لأسباب قد لا تكون مفهومة. إبراهيم بيرقدار يتذكّر ضرب الفارس عدنان قصار حينها، رغم أنه كان معتقلًا مثلهم، ولم يتسبّب بالتأكيد بموت باسل، كما لم يرتكب ذنبًا يومًا بتفوّقه عليه في الفروسية، كي يقضي ٢١ عامًا وراء القضبان.
"سمفونية العواء"
بالحديث عمّا ورد في البحث عن "سمفونية العواء"، بدا وكأنّ ذاكرتهم لا تسعفهم، لتذكّر تفاصيل ما فعله صديقهم المسرحي بدر زكريا، لمرّة واحدة، حينما نفّس عن ألمه كما يبدو، بالعواء من تحت باب المعتقل، لينضم إليه الآخرون رويداً رويداً، ويثيروا خوف السجانين. في سياق حديثه عن الممارسات الموسيقية في المعتقل كنوعٍ من ممارسات النفس والمقاومة، يسرد إيلاف في بحثه كيف كان بدر زكريا يحوّل مواقف مصيرية إلى فكاهية، كضحكه بصوت عال على ضرب جلاد رأسه ورأس باقي المعتقلين بالحائط في غرفة التحقيق، وخروج نغمات آهات مختلفة منهم، متصوّرًا أن شخصًا يعزف برأسهم البيانو، ما جعله يتعرّض للضرب مجدّدًا.
عن أجمل ذكرياتهم الموسيقية في السجن، يتذكّر كسرى كيف كان التدرّب على الموسيقى مزعجًا للمعتقلين الآخرين، وكيف كان يذهب إلى نهاية الجناح لكي يتجنّب ذلك، حتى جاء ذاك اليوم، وأبدى له صديقهم بدر زكريا إعجابه بعزفه، ذكرى بقيت عالقة في ذهنه حتى اليوم. إبراهيم يتذكر أيضًا كم كان التدريب مزعجًا لباقي المعتقلين، وكيف اختير هو من بين المبتدئين، بعد عام من التدريب، للمشاركة في حفل. يقول "غنينا أغاني مثل ليلة مبارح وشو قولك، كان هذه المرة الأولى التي أحس بها بوجودي". يتذكر أيضاً حفلة جماعية تأبينية، شارك فيها هو وأسعد وآخرين، يوم توفي "أمير البزق" محمد عبدالكريم، غنوا فيها "رقة حسنك وسمارك".
ويصنّف إيلاف هذا الحدث تحت بند "تأبينات"، في بحثه الذي مكنّني من الاطلاع على نسخة منه، بحث بدأه بمنحة من مؤسّسة اتجاهات، ليواصل العمل عليه في جامعة ماربورغ الألمانية، ثم بدعم من مؤسّسات أخرى، كمؤسسة أمم.
ألحان مغمّسة بالخوف
لكن الذكريات المرتبطة بالموسيقى لم تكن وردية دومًا، كانت ألحاناً مغمّسة بالخوف، تجربة مرتبطة بالحرمان والعقاب، يفهم المرء منهم. يتذكر إبراهيم بيرقدار، وهو من مدينة حمص، أمضى نحو تسع سنوات في المعتقل، احتفالهم بعيد ميلاد ابنة إحدى أصدقائهم. كان صديقهم الرقاوي ذو الصوت الجهوري الجميل يغنّي، على أنغام عوده عندما "دخل أرذل مساعد انضباط علينا فجأة، فسكتنا، وشاهد العود في حضني، سألني هل أنت الذي تغني؟ فقلت نعم، فضلت ألا ننزل نحن الاثنين إلى الزنزانة. أنزلني إلى الزنزانة الواقعة أربع طوابق تحت الأرض. بقيت هناك شهرًا وخمسة أيام. كانت رائحتي لا تطاق، أمر لا يوصف. الفروة التي كنت ألبسها باتت مهترئة بالكامل، من الرطوبة العالية، وكأنّ ضبعاً قد أكلها. لا يردون عليك مهما طرقت الباب. حسان عزو صديقنا، طرق الباب مراراً دون رد، فمات هناك". يقول إنّ "السجانين كانوا يتضايقون للغاية عند سماعهم عزفنا الموسيقى ولسان حالهم، هؤلاء مسجونون وسعداء، كيف؟ لا يريدون أن تكون إنساناً سوياً".
كان السجانون يتضايقون للغاية عند سماعهم عزفنا الموسيقى ولسان حالهم، هؤلاء مسجونون وسعداء، كيف؟ لا يريدون أن تكون إنساناً سوياً".
مع ذلك كان لزيارات الأهل والفساد المستشري داخل وخارج السجن، دوراً في تحسين ظروفهم موسيقيًا، إذ يشير إبراهيم إلى أنّ الفساد سمح بتهريب الكثير من "الممنوعات"، منها أوتار عود حقيقية كانوا يشترونها من السجانين، فيما كان الأهل يجلبون معهم بعض الأوتار خلال الزيارات.
تطوّر صناعة الآلات الموسيقية... و"حفل تاريخي"
يتذكر إبراهيم كيف تطوّرت صناعة الآلات الموسيقية في السجن، "أول من صنع الآلات أسعد، صنع عود القصعة في فرع فلسطين (...) عندما انتقلنا إلى صيدنايا كنا نستغل وجود صناديق الباذنجان والبندورة، ونستخدم البلور في حفها، ونتعذب جدًا في ذلك، ونستخدم خيوط الجوارب لصناعة الأوتار، حتى وصول الأوتار الحقيقية عبر الزيارات وشرائها من الرقباء. كانت هناك تجارب في أجنحة أخرى، أعواد تصنع من الكرتون، ثم تطوّرت التقنيات، وباتت تُصنع أعواد متقنة، يقصون الخشب وينقعونه في الماء ويقوّسونها، كان هناك مهندسين خبراء في التصنيع". يتذكر أنه عندما خرج من الزنزانة تحت الأرض وعاد للجناح، مكسور العود والجناح، وعدهم أحدهم "ولا يهمك برهوم، اليوم سيكون هناك عود جاهز لك"، يقول إبراهيم مبتسمًا.
في حفل المعتقلين المرتقب، سمعناهم يعزفون ويغنون تسع سجنيات، ألفوا لحن أحدها بأنفسهم، فيما وضع كلمات بعضها في المعتقل، الشاعر فرج بيرقدار.
جاء الحفل في إطار فعالية بعنوان "نحو فهم أعمق للسجون"، نظمها مسرح هاو وعدد من المؤسّسات الحقوقية، ضمّت أيضاً جلسة حوارية أدارتها بنته شيلر (من مؤسسة هاينريش بول الألمانية)، شارك فيها الكاتب ياسين الحاج صالح، ولين معلوف من مكتب المبعوث الأممي إلى سوريا، والحقوقية جمانة سيف.
انسجام لافت في العزف والغناء بين أعضاء الفرقة، يشعر به مشاهد/ة الحفل، رغم تفرّقهم عن بعضهم البعض، بعد الإفراج عنهم قبل قرابة ثلاثة عقود، وعدم قضائهم سوى أيام قليلة سوية قبل الحفل، الذي وصفته ممثلة عن المسرح الألماني بأنّه تاريخي، لأنّه الأوّل على الإطلاق للموسيقيين بعد الإفراج عنهم، والأوّل في برلين.
رفع حسان عبدالرحمن، وهو موسيقي من دمشق مقيم في فرنسا، تعلّم الموسيقى قليلاً قبل اعتقاله وتابع التعلّم داخله، بيده آلة موسيقية، ليعرّف الجمهور بماهية عود يحاكي ذاك الذي كانوا يصنعونه من الورق المقوّى وصناديق الفواكه، والتي تقوّى بدورها بخبز منقوع ممزوج ببعض السكر والمربى. في وقت لاحق، خلال ندوة أقامها منتدى تفاكر للحوار والثقافة ، تذكّر حسن كيف أنّ شخصاً من جمهور حفل له، أخبره بعد مرور سنوات طويلة، أنهم "أكلوا" عوده في سجن صيدنايا بعد الإفراج عن حسن ورفاقه، موضّحاً أنّه وعند حدوث استعصاء في السجن بعد سنوات، مطلع الألفية الثالثة، قُطعت الامدادات الغذائية عن السجن، واضطروا لتفكيك الخبز اليابس في العود بالماء وتناوله.
عند حدوث استعصاء في السجن بعد سنوات، مطلع الألفية الثالثة، قُطعت الامدادات الغذائية عن السجن، واضطروا لتفكيك الخبز اليابس في العود بالماء وتناوله.
توسّط العازفين على المنصّة، عدنان حسن، وهو طبيبٌ وحاصلٌ على إجازة في الأدب الإنكليزي مقيم في فرنسا، قضى ١٢ عامًا و١٦ يومًا من حياته في معتقلات النظام، التي طوّر داخلها مهاراته السابقة في العزف على العود.
عرّف أسعد شلاش الجمهور بدوره بآلات بدائية صنعها، ذاك الناي الذي صنعه خلال حديثه معنا، وعود "القصعة"، الإناء الذي ركّب عليه أوتار مصنوعة من الخيوط المنتزعة من الجوارب، وعود مستطيل الشكل يحاكي واحدًا صنعوه في صيدنايا من صناديق الفواكه، عزف عليه وغنى مع رفاقه أغنية "عمي يا بياع الورد" التراثية.
وعرّف الجمهور أيضاً بما يسمّى طقس "الصبحيات"، وهي أغاني، معظمها من"الفيروزيات"، كان يعزفها للمعتقلين، كي يبدأوا نهارهم بألطف طريقة ممكنة، وبطقس "التأبينات"، متحدّثًا عن أغنية غنوها في المعتقل عن ضابط معتقل، أَفرج عنه النظام كي يتوفى خارجه.
فيما غنى كسرى كوردي مع حسن وضيف الفرقة، المعتقل السابق، الفنان خضر عبدالكريم، أغنية "يك مومك" الكوردية التراثية التي كانت تُغنّى أيضاً في المعتقل. غنى المعتقلون أيضاً أغنية "عتب" التي لحنوها جماعيًا وكتب كلماتها الشاعر فرج بيرقدار، الذي يشير البحث إلى مشاركته في كتابة ثمانية "سجنيات". ويوضّح الباحث إيلاف أنّ هذه الأغنية هي الوحيدة من بين تلك المستعادة، التي تمّ توثيقها وإعادة إنتاجها.
خلال الحفل، أعلن أسعد شلاش عن تشكيل تجمّع أسموه "أوتار وراء القضبان"، ليكون وجهة لكلّ من قاوم قساوة الاعتقال عبر الفن والموسيقى، ومحاولة إحياء تلك التجارب، على حدّ توصيفه. "أوتار وراء القضبان"، هي أيضًا عنوان رواية كتبها أسعد عن تجربتهم الموسيقية في المعتقل.
بعد انتهاء الفعالية، غادر رفاق المعتقل مسرح هاو، تحت مطر خفيف نحو فندق قريب يقيمون فيه. بدا مشهدهم مجتمعين وكأنه مُقتطع من سنواتٍ طويلة قُدّر لهم البقاء فيها سوية، يتشاركون الأكل والمشرب والمصير.
أغنية سجنية أم أغنية سياسية؟
في أمسية اليوم التالي، تحوّلت ندوة منتدى "تفاكر"،(يمكن مشاهدتها هنا )، إلى مساحة عامة للنقاش حول وجود "أغنية سجنية" سورية في الأساس. بمقاربة لا تعتمد التمسّك بنتائج ما خلص إليه في بحثه، خاض الباحث إيلاف نقاشاً مفتوحاً ليس مع بعض المشاركين في دراسته الموجودين على المنصّة فحسب، بل العديد من المعتقلين/ات السابقين/ات المتواجدين كجمهور، حول ما إذا كان هناك أغنية سجنية في المقام الأول.
وأوضح إيلاف، فيما يخص تسمية أغاني المسلسلات بأغاني سجنية، أنه كان يشير إلى أن أداء إبراهيم بيرقدار، أغنية "يامو"، التي يؤديها دريد لحام في المسلسل، يشي بمدى تأثر المعتقل بأي منتج ثقافي كان قد شاهده في الفترة السابقة لاعتقاله. وبين أن هناك بالطبع إرهاقًا ناجمًا عن التراوما السابقة لدى المعتقلين، لكنه كان حريصًا دومًا على وجود طبيبة نفسية مرافقة، لتقليله قدر الإمكان. وحال الإرهاق الذي شعر به المعتقلون دون تأديتهم أي أغاني سجنية في الأمسية الثانية.
وجادل أحد المساهمين بأنّ التسمية الأصح ربما هي أغنية سياسية، إن لم تكن كذلك، هل سنسمي أيّ أغنية يردّدها معتقل جنائي أيضاً بأغنية سجنية؟. ودعا أيضًا إلى التمهل في تسمية أغان وردت في مسلسلات الثنائي دريد لحام ونهاد قلعي بأغان سجنية، لا سيما وأنّها كانت معدّة ومصوّرة بطريقة احترافية لتخدم العمل فحسب.
وصنّف إيلاف في بحثه الأغاني التي ردّدها المعتقلون في تلك الفترة إلى ثلاثة أنماط هي، السجنيات التامة التي أُلفت ولُحنت في المعتقل، والسجنيات المعدّلة، وهي أغان أُديت في الخارج قبل الدخول للمعتقل، والسجنيات الموسيقية التي لا تضم كلمات. خلال بحثه، تمكن إيلاف من إحصاء ٣٤ أغنية واستعادة ١٤ منها. يتمنى اليوم أن تُسجل الأغاني الأربعة عشرة على الأقل.
يغطي إيلاف الأغنية السجنية في صيدنايا بين عامي ١٩٨٧ (عام افتتاحه) و١٩٩٦، أي فترة مختلفة، بشعة بالتأكيد، لكنها مختلفة عن تلك التي أطلقت فيها منظمة العفو الدولية في العام ٢٠١٧ على المعتقل بأنّه مسلخ بشري. ويقول إنّه أجرى قرابة ١٠٠ ساعة من المقابلات مع معتقلين منتمين لحزب العمل الشيوعي، الناشطين في السبعينيات والثمانينيات. وكانت قراءته مقالاً للكاتب والمعتقل السابق مالك داغستاني في موقع الجمهورية، دافعًا له للبحث أكثر في هذا المجال الغائب عن رادار البحث.
ويشير في البحث إلى معلمين ثلاثة في صيدنايا هم أسعد شلاش وسمير عبدو (أبو الندى) وهيثم قطريب، وحالات تنافسية طريفة بين أسعد وأبو الندى، الملقب بشيخ الكار.
ويحقّب إيلاف في بحثه مراحل انتشار الموسيقى السجنية، بالبدايات، حين كان المعلّم أسعد شلاش يمرّر يديه على قطعة خشب في فرع فلسطين ليحافظ على مرونة أصابعه، ثم مرحلة اختمار ونضوج في نهاية الثمانينيات، في سجن صيدنايا، الذي شهد صناعة الآلات وتطوّرها، وفروع أخرى كفرع فلسطين، ومرحلة التراجع والتوقف، وإن كان ليس كليًا، مطلع التسعينيات، لظروف مختلفة منها حالات الإفراج عن الموسيقيين ونقلهم، وتدمير آلاتهم، وعزلهم عن مقتنياتهم الشخصية.
يقدّم إيلاف في بحثه لتجارب موسيقى سجنية في أوروبا ودول المنطقة العربية، ويتوقف عند أسباب غياب وتغييب الأغنية السجنية، وصناعة الآلات الموسيقية السجنية في الحالة السورية. ويعتبر أنّه ما كان لهذا البحث ليجد النور لولا تواجده والمعتقلين في المنفى، نظرًا لاستحالة تنفيذه في الداخل السوري.
وظلّت كيفية التعامل مع هذه الظاهرة الموسيقية واستعادتها، وأثرها السلبي المُحتمل على المعتقلين، نقطة توقف عندها جميع المتحدثين ومقدّمي المداخلات خلال فعاليتي برلين. بالمثل، هل يخاطر المرء عند الاحتفاء بهذه الظاهرة الموسيقية، واللحظات السعيدة تلك، بالتقليل من معاناة المعتقلين/ات حينها.
ويأمل إيلاف أن يكون هذا البحث منطلقًا لأبحاث أخرى قادمة عن موضوعة الأغنية السجنية. شخصيًا، ينوي هو البدء ببحث مقابل، عن الأغنية السجنية النسائية، إلى جانب ما أسماها جولة أمريكا، يقيم فيها المعتقلون حفلًا كالذي جرى في برلين، بالإضافة إلى مشروع متحف سجني للموسيقى، يضم الآلات التي صُنعت في السجن.