الخيال وقد تحقّق... عن يوم سقوط الأسد

شهادة من دمشق


في ساحة الرئيس في جرمانا كان رأس حافظ الأسد قد أُسقط ورُمي على يمين الساحة، وصعد الشباب إلى أكثر من صورة لبشار، ومزّقوها بأيديهم وأقدامهم. عمار ديوب يأخذنا معه في هذا المقال العاطفي في جولة في بلدة جرمانا ومدينة دمشق، يصف فيها كيف عايش لحظات سقوط الأسد التاريخية.

12 كانون الأول 2024

عمار ديوب

كاتب سوري مقيم في دمشق، يكتب في عدد من الصحف العربية منها الحياة والعربي الجديد.

كان ضرباً من الخيال، وقد بدأ يتحقق تدريجياً. مع تحرير حلب وحماة ومباشرة المعارك في حمص، اعتقدت أنّ دمشق لن تسقط بسهولة، وستتدخل الدول لفرض الانتقال السياسي، لمنع الفوضى، التي قد تنتقل إلى خارج سوريا. لم يخطر بالبال أنّ المعارك والسيطرة ستتسارع بوتيرة صاروخية إلى كلّ من درعا والقنيطرة والسويداء. في مساء السبت، 8 كانون الأول/ ديسمبر، وبعد ثلاثة أيام من دخول حلب بدأت الأخبار العاجلة تنهمر علينا، بأنّ البلدات الملاصقة بدمشق بدأت تتحرّر، وهذا كان يجعلني أتسمّر أمام موبايلي وأنسى تناول الطعام وأتأخر في النوم، أنا الحريص على مواعيد محدّدة للاستيقاظ والنوم والأكل. مع تتالي الساعات، دخلوا إلى داريا،  المتاخمة لمطار المزّة وقطع عسكرية لطالما أدمت داريا قصفًا وقنصًا لسنوات، ثم دخلوا المعضمية واشتعلت المظاهرات في الغوطة الشرقية.

حول التطورات الأخيرة في سوريا

09 كانون الأول 2024
إذا كان تحرير حلب وحماة مخطّطاً لهما، فهل كان الإستمرار حتى دمشق نتيجة تخطيط مسبق أم نتائج غير متوقّعة لعملية محدودة وجريئة؟

مساء السبت حطّم الشباب المتوتّر تمثال حافظ الأسد في ساحة الرئيس في جرمانا، البلدة التي أقطن بها. قرابة الرابعة والنصف مساء، وبمجرّد معرفتي بالأمر ارتديت ملابسي، وسألت جاري إن كان يقبل أن أترك لديه جروي الصغير، مشمش. قال إنه سيرافقني هو كذلك. نزلت درجات البناء بأقصى سرعة، وانتظرت لأكثر من خمس دقائق عند ناصية الشارع. كنت أشعر بتسارع شديد في الزمن، وقمت بالاتصال مستعجلاً إياه. نزل أخيراً كانت خطواتي واسعة، وكان يهرول خلفي للحاق بي. وصلنا للساحة، كان هناك تجمّع كبير من الشباب، وكان رأس حافظ الأسد قد أُسقط ورُمي على الجهة اليمينية للساحة، وصعد الشباب إلى أكثر من صورة لبشار، ومزّقوها بأيديهم وأقدامهم، وكانت أصواتهم: "سوريا لينا وما هي لبيت الأسد".

انتابني مزيج من مشاعر السعادة الغامرة مع شيء من الخوف والتوتّر. جرمانا ليست بلدتي، ولم أر أحداً من أصدقائي أو معارفي، وبالتالي، لم أندمج في الحراك، ورحت أراقب ما يحدث بدقة. كان بوسعك مشاهدة المئات من الناس الواقفين على الأرصفة، وعلامات الفرح المشوب بالخوف والترقب على محياهم، يراقبون حدثًا غير مسبوق، في هذه البلدة.

مع مرور الوقت، أحسست بأن الخوف من كلّ ما يخصّ النظام والقمع، قد بدأ خلف هؤلاء الناس، مع ورود معلومات تؤكّد انسحاب المفارز الأمنية والشرطة، وبالتالي، كان الناس يحتفلون أيضًا بتحرّرهم من الأسر.

بداية دخول الفصائل إلى محيط دمشق كان يعني أنّ النظام أصبح في طور السقوط لا محالة، ولكن تأخير سقوطه منذ 2013 وإلى الأن، كان يجعلني غير قادر على الركون لهذه القناعة.

الأخبار المتسارعة عن خروج المدن الجنوبية والقنيطرة كانت كافية للتأكيد بأنني أمام سيناريو خيالي تمامًا، تجاوز أقصى توقعاتي :الأسد في طريقه إلى مغادرة سوريا للمرة الأخيرة ربما، لإحدى الدول.

بالصور.. ساحة العاصي في حماة.. أيام من الحرية

09 كانون الأول 2024
عاد أهالي مدينة حماة إلى ساحة العاصي، تلك الساحة التي كان لهم فيها أيام من الحلم والحرية، أيام من القهر والظلم.. عادت اليوم لأهلها وسكانها وأهازيجها وصوتها المبحوح بالحرية.

كنت أعيش في حالة خوف مستمرة منذ العام 2011. لم أغادر البلاد، وكنت قلقاً إزاء احتمالات التدخل الخارجي ودحر قوات الفصائل قبل حماة، وضياع فرصة التغيير في سوريا، التي بدونها ستتضاعف مؤشرات التقسيم والاقتتال الطائفي والفقر وسواها. ما كنت أخشاه حصل في العام 2013، مع العسكرة الواسعة، ودخول أميركا وتحالفها الدولي لمحاربة الإرهاب في العام 2014 ودخول روسيا الحرب في العام 2015 لاستعادة البلدات لصالح النظام وبالتنسيق مع تركيا وإيران. بداية دخول الفصائل إلى محيط دمشق كان يعني أنّ النظام أصبح في طور السقوط لا محالة، ولكن تأخير سقوطه منذ 2013 وإلى الأن، كان يجعلني غير قادر على الركون لهذه القناعة، خائفًا من ألا يسقط وينجو بنفسه هذه المرّة أيضاً، بدعمٍ إقليمي أو دولي، أو يتحالف مع هذه الدولة أو يبيع معلومات استخبارية مهمة عن التنظيمات الجهادية، أو يقع حدث ما، يؤخر سقوطه.

رغم خوفي الشديد، كنت أكتب مقالات للصحف دون أيّ مهادنة مع النظام. رغم إيماني بأنّ رحيله وحده سيفتح الباب للتغيير العميق في سوريا، لكنني كنت أصيغ نصوصي بعبارات غير مستفزة للأجهزة الأمنية، كي لا أخاطر بالتعرض للاعتقال والموت مجانًا. كنت أحذف الرسائل بيني وبين الأصدقاء في برامج المراسلة على مواقع التواصل الاجتماعي أو على الواتسآب، وأطلب من الآخرين فعل ذلك، خشية وقوع الموبايل في أيدي الأجهزة الأمنية.

حينما كنت أكتب المنشورات التي تضم نقداً جذرياً وبصياغات مباشرة كان أصدقاء كثر في الداخل والخارج يبعثون رسائل لي لحذفها، معتبرين أنّ عليّ التمهل كي لا أُعتقل؛ وكان هذا يرعبني لبعض الوقت، ولكن أعود للكتابة. عشت على هذا الحال منذ العام 2011 وإلى لحظة سقوط النظام في فجر يوم السبت 8 ديسمبر/كانون الأول 2024.

بعد ساعة من السقوط، تلقيت اتصالًا هاتفيًا من صديقي يخبرني بأنّ لديَّ دقائق فقط لأنزل ونذهب سوية إلى ساحة الأمويين، لا أعرف بالضبط كيف ارتديت ملابسي، فقد كنت نصف نائم. أرسلت لجاري، كي أضع "مشمش" عنده، ولم يكن نائماً، لم يكن أحدٌ في سوريا نائماً، فقد أخذني النوم قرابة الثالثة، وها أنا أستيقظ قرابة السادسة. لم يغادر الظلام بعد، وضعت مشمش، وكنت أقفز نزولًا على الدرج. أمام منزلي التقيت صديقي، فركضنا نحو السيارات، صرخت "خلصنا يا شباب، الحرية لسوريا".

ونحن في أعلى درجات الفرح، فإذ بأحد الشباب ينقل لنا أنّ إسرائيل تقدمت في القنيطرة واحتلت جبل الشيخ. كان أمرًا محزنًا، كاد أن يقتل الفرح بداخلي، لكنني فكرت، أن سقوط الطاغية سيساعد على استرجاع الأرض، والمهم الآن هو الانتهاء من هذا الكابوس.

ركبنا السيارات التي كانت ممتلئة وبالكاد وجدنا مكانًا لنا فيها، ونحن نستمع لأغاني الساروت وأغاني الثورة في 2011 و2012، ونتحدث عن السقوط الذي تأخر، شاتمين الرئيس وأبيه، على ما فعلاه بالبلد الذي سلموه للدول الخارجية، جالبًا الاحتلالات، فقط كي يبقى في السلطة إلى الأبد.

كانت معنا ثلاث سيارات، اثنتان قادمتان من السويداء والثالثة من دمشق. كان معنا شباب مطلوبين للنظام منذ العام 2011، ولم يزوروا دمشق مذاك، رغم إقامتهم في مكان لا يبعد أكثر من 100 كيلو متر من المدينة. أنا كذلك، لم أذهب لمدينتي حمص منذ العام 2012، ولم أر أولاد أخي، وقد صاروا في سن الحادية عشرة والتاسعة والرابعة. كانت السيارات تتقاطر خلف بعضها من جرمانا، فباب توما، فشارع بغداد، وشوارع أخرى، حتى وصلنا أخيرًا إلى ساحة الأمويين. كنا من أوائل الداخلين إليها. كانت الشمس قد بدأت تطل برأسها. كان الفرح والضحك والتقاط الصور وإطلاق الرصاص في الهواء يتزايد. كانت المجموعات البشرية تتزايد بشكل تدريجي، ولكن ليس بنسبة كبيرة، فلم تمتلئ الساحة ولم تكن هناك كلمة عامة، وبدأت تأتي السيارات التي تقل المقاتلين، من السويداء ودرعا والغوطة الغربية. تقريباً، ثلاثة أو أكثر من كلّ منطقة، يطلقون المزيد من الرصاص في الجو ابتهاجًا بسقوط الطاغية وحكمه العائلي. كنا ندور وندور ونتصوّر ونبثّ مباشرة، ونرسل إشارات النصر، ونغني "سوريا لينا لا هي لبيت الأسد"، "تحيا سورية ويسقط الأسد"، وأصحّح لها "تحيا سوريا وسقط الأسد".

معتقلون سوريون يفردون موسيقاهم المنسية في برلين

06 كانون الأول 2024
عودٌ مصنوع من الخبز المجفّف، وثان من صناديق البندورة وثالث من الكرتون... فيما الأوتار مصنوعة من خيوط الجوارب، نايٌ مصنوع من أنبوب مياه بلاستيكي.. هذا ليس فكاهة أو مشهد من...

ونحن في أعلى درجات الفرح، فإذ بأحد الشباب ينقل لنا أنّ إسرائيل تقدمت في القنيطرة واحتلت جبل الشيخ. كان أمرًا محزنًا، كاد أن يقتل الفرح بداخلي، لكنني فكرت، أن سقوط الطاغية سيساعد على استرجاع الأرض، والمهم الآن هو الانتهاء من هذا الكابوس.

استقرّ في ذهني أننا أمام مشكلات كبرى، وقد ظهرت فوراً، إذ بدأنا نشاهد مظاهر للسرقة من المباني العسكرية المحيطة بالساحة، من دار الأوبرا، واحتلال إسرائيل مناطق جديدة. وحينما قررنا المغادرة قرابة العاشرة صباحًا، وجدنا أنّ أحدهم قد سرق الكثير من الأشياء ومبلغ مليوني ليرة سورية، من سيارة أحد الأصدقاء، أمر كان في غاية الإزعاج لنا.

ثم، أُخبرنا، أنّ المعتقلين سيُطلق سراحهم في ساحة العباسيين، فذهبنا إلى هناك فورًا، أملًا في أن نشهد هذا الحدث العظيم، وانتظرنا قرابة نصف ساعة، قبل أن تصل الأخبار بأنّه أُطلق سراحهم من الفروع الأمنية وسجن صيدنايا بشكل عشوائي، ولم نر أحد منهم. وحينها صعدنا السيارات في طريق العودة إلى جرمانا؛ في يوم من السعادة الخالصة.

غضبت صديقتي، التي لولا وجودها في دمشق منذ العام 2012، لكانت صعوبات بقائي ستتضاعف مليون مرة، وهي الكاتبة السياسية اليسارية رانيا مصطفى. رغم مرور عدّة أيام ما زالت تنظر لي بغضب، فكيف لم أخبرها لنذهب سوية إلى ساحة الأمويين، التي لطالما اشتهى السوريون/ات الوصول إليها منذ 2011، وسقط مئات الشهداء منعاً لذلك. أشعر بأنني "خنتها"، رغم أنّ الأمر لم يكن إلّا محض صدفة وبسبب التسرّع، لكونها لحظاتي الأخيرة تحت حكم العائلة.

مقالات متعلقة

بالصور: حلب من دون الأسد.. فرح وقلق وترقّب

03 كانون الأول 2024
بعد خروج قوات النظام السوري من مدينة حلب بعد بدء معركة "ردع العدوان" التي تقودها فصائل سورية معارضة إلى جانب "هيئة تحرير الشام"، جالت كاميرا عمر علوان في المدينة، في...
الوطنيّة "الممكنة": هل كانت هزيمة الثورة السوريّة محتومة؟

23 آذار 2021
"إنّ تلك الوقائع معروفة ويمكن التحقّق منها بسهولة عبر الأرشيف الصحفي، لكن قراءة تلك الوقائع ووضعها في سياق قصة متكاملة، أو ما نسميه فعل "السرد"، هو ما يبقى مثار جدل...
الثورة والصراع على السرد

18 آذار 2021
ضمن مقالته في ملف الذكرى العاشرة للثورة السوريّة يكتب معتز الخطيب عن سرديات الثورة السوريّة المختلفة ويصنفها في فئات مختلفة ذاكرًا أهمية هذه السرديّات ونقاط الاختلاف فيما بينها.
أسئلة التغيير المتنامي في السرديات السوريّة

12 كانون الثاني 2021
ما هو التغيير الذي حصل ويحصل في السرديّات السوريّة بعد نصف قرن من التبدّل العميق الذي أصاب المجتمع السوري منذ بداية زمن الديكتاتوريّة العسكريّة حتى الحرب الأخيرة والتهجير؟ وهل ثمّة...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد