"كنا ننتظر هذا اليوم بفارغ الصبر، أن يسقط هذا النظام المجرم، ونقول أتى الفرج. جاء أحبتنا. خرج أحبتنا. نريد أن نفرح بخروج كل المعتقلين والغائبين، لكن للأسف فرحتنا لم تكتمل لأسباب كثيرة"، تقول فدوى محمود، شريكة المعارض السوري عبدالعزيز الخير ووالدة ماهر طحان المغيبين منذ العام ٢٠١٢، في رسالة فيديو نشرتها في الحادي عشر من كانون الأول/ديسمبر، وتمضي في الشكوى من فوضى تسبب بها الأهالي في المعتقلات واتلافهم الوثائق، أمر يؤذيهم جميعًا، قد تستطيع تفهمها لأن الجميع يسعى وراء معرفة مصير أحبائه، لكن ما لا تستطيع تفهمه، تدمير ناشري المواد المتعلقة بالمعتقلين على وسائل التواصل، قلوبهم أكثر، "لأننا لسنا مادة للتصوير والإعلام، وتكسبوا شهرة على حساب قضيتنا، أرحمونا !".
تحرير معتقل صيدنايا وغيرها من المعتقلات، فيما كان النظام السوري ينهار، صدم السوريين/ات، وعلى نحو خاص ذوي المعتقلين/ات، إذ لم تضم إلا قلّة من أخفاهم خلال العقود الماضية، خرجوا وهم يعانون من وضع صحي كارثي، فيما ظلت مصائر البقية معلقة في الهواء، أو ربما في الأوراق الرسمية التي لحقت بها الكثير من الأضرار، وتناثرت في أرجائه. مع مرور الساعات والأيام، وُجهت أصابع الاتهام إلى العديد من الجهات الدولية والحقوقية، بالمسؤولية عن غياب أي إدارة لملف المعتقلين/ات أو حماية الوثائق التي تحمل ربما خبرًا عن مصيرهم. ما الذي سار على منحى خاطىء؟
عبر التواصل مع العديد من هذه الجهات ذات الصلة، لعدة أيام، نحاول هنا فهم، لا تفهّم ما جرى، في الساعات والأيام الأولى، بعد سقوط النظام، الحاسمة للكشف عن مصير المعتقلين/ات والمخفيين/ات قسرًا في معتقل صيدنايا، ومصيرهم المعلق بما تبقى من وثائق، باتت موزعة بين عدد لا نهائي من الجهات.
"تحرير الجيران"
قبل غروب شمس السابع من ديسمبر/ كانون أوّل ، اقتربت مجموعة من بقايا مقاتلي المعارضة السابقين من مناطق عسال الورد ورنكوس وتلفيتا من سجن صيدنايا لاستكشاف حجم التحصينات حوله، كما يقول دياب سرية، المعتقل السابق ومدير رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا لسوريا ما انحكت".
وعندما تجاوزت الساعة الثانية عشرة ليلًا، بدأوا بمحاولة اقتحام السجن، وهم يركبون عدّة دراجات نارية، حاملين أسلحة رشاشة خفيفة، وسيارة بيك آب، مزودة برشاش "دوشكا". كان هذا قبل أن تصل قوات "ردع العدوان"، التي كانت قد بدأت بتمشيط مدينة حمص من قوات النظام، وفي وقت كان مناطق جنوب سوريا تنتفض ضد النظام، وفق قول دياب، الذي يتحدر من المنطقة نفسها، في حديث هاتفي.
ويوضّح دياب أنّه لم تحدث أيّة مواجهة مسلحة حقيقية بين الطرفين، فقط كان تبادلًا لإطلاق النار لم يصب فيه أحد، تخلّله اقتراب مسلحي المعارضة من المفرزة الأمنية الموجودة عند باب المعتقل، وتذكير العناصر الموجودين فيها بعدم جدوى ما يفعلونه، وتخويفهم بالتبعات المميتة، لمواصلتهم المقاومة، مع احتمال وصول مقاتلي "هيئة تحرير الشام"، التي يتزعمها الجولاني، ليتفق الجانبان على فتح طريق لعناصر السجن كي يغادروا.
كان الأهالي من مناطق مجاورة كالتل ومنين، الذين سمعوا بأنباء بدء العملية، قد بدؤوا بالتوافد إلى المكان. يوضّح دياب أنّ خوفًا داهمًا سيطر على ثلّة المقاتلين الذين دخلوا المعتقل للإفراج عن المعتقلين، من أن يكون النظام قد أعدّ سيناريوهات مضادة، كتجميع النظام قواته في الساحل للقيام بهجوم مضاد، أو قصف النظام أو حلفائه الروس معتقل صيدنايا من الجو، ما جعل القيام بعدّ المعتقلين المُفرج عنهم مثلًا أمرًا غير وارد في تلك اللحظات.
وعمّا أُشيع عن عمليات تدمير ممنهج للأدلة، يوضّح دياب، أنّ لصوصًا، من "الشبيحة" المعروفين، في بلدة مجاورة لصيدنايا (نتحفظ على ذكر اسمها لتجنّب أيّ عمليات انتقامية)، دخلوا إلى المعتقل بنيّة السرقة أو "التعفيش"، واعتقد الناس المتواجدون في المعتقل بأنّهم من القوات المُقتحمة أو "هيئة تحرير الشام"، لحملهم أسلحة بما فيها القنابل، قادمين بسيارات ملطّخة بالطين. أخذ هؤلاء أجهزة كومبيوتر محمول وأجهزة مرتبطة بكاميرات المراقبة. إلا أنّ إشعالهم لحريق (أطفأه الأهالي) وتمزيقهم الأوراق جعل شخصًا من الأهالي يشكّ في أمرهم، ويسألهم عن هويتهم، ويدقق في كونهم من "الهيئة"، فهربوا. في الأثناء سلم أحدهم نفسه للسلطات الجديدة ويجري البحث عن الآخرين، يؤكد.
الحفاظ على الوثائق في المعتقل، كان هدفًا لزميليه من الرابطة، كانا في المعتقل منذ الثانية الأولى كما سنوضّح لاحقًا، لكنهما قالا له "عن أي أوراق تتحدث؟ إن جلبت الجيش الأمريكي بعينه، لن يستطيع منع الأهالي من الوصول إلى الوثائق. خلال الأيام الثلاث الأولى، تواجد حوالي ٤٠ ألف شخص كل يوم في المكان".
أحمد يازجي، عضو مجلس إدارة الخوذ البيضاء، يوضّح في حديث هاتفي من سوريا، مع سوريا ما انحكت، أنّه رغم كونهم ليسوا معنيين بالتعامل مع مراكز الاعتقال، التي يراها من وظيفة السلطة، لكنهم استجابوا لنداءات الأهالي عن احتمال وجود زنازين غير مُكتشفة في صيدنايا.
مستبقًا أي سؤال عن سبب تأخرهم ليوم كامل قبل الوصول إلى معتقل صيدنايا، يوضّح أنه "كان هناك إغلاق (اختناق) مروري عند تحويلة حمص، استغرق تجاوزها ثمان ساعات. لم يكن الطريق آمناً أيضاً، استُشهد أحد متطوعينا غدرًا. لا يتعلّق ذهاب المرء من إدلب إلى دمشق بضغط زر، بل يتطلب تنسيقًا لوجستيًا، مع فرقنا المنتشرة في الكثير من المواقع. كنا قد انتشلنا حينها ٣٠٠ جثة في أرياف إدلب وحلب وحماة".
يتحدث أحمد عن ذاك اليوم وهو يجد نفسه معنيًا بالأمر من الناحية الشخصية:"أنا تكلمت مع البعض من أهلي. عشرة من أقاربي كانوا معتقلين في صيدنايا، خرج أربعة منهم واستشهد ستة منهم تحت التعذيب، الأربعة خرجوا، مصابين بإعاقات، أحدهم مبتورة قدمه، أحدهم قُلعت عينه بالمفك، أحدهم مصاب بشلل تام".
مشتكيًا من الفوضى الهائلة ومحاولات تخريب المتعمّدة جزئيًا والتي طالت كاميرات المراقبة، يوضّح أنّ "عدد الأهالي المتواجدين في المكان تجاوز عشرات الآلاف، ملأت السجن كله ومحيطه. وبدأت الشائعات تنتشر. بدأ الأهالي بالعبث بمقتنيات المعتقلين الخاصة، وبالوثائق وتسبّبوا بضرر كبير بها. نتفهم مشاعرهم، لكن ما جرى ألحق ضررًا هائلًا بالأدلة، التي كان بوسعها كشف مصير أبنائهم"، لكنه يستدرك" لا نحملهم الذنب، بل من فتح السجن وسمح بدخولهم بهذه الطريقة العشوائية".
محاولًا توضيح بنيّة المعتقل، والعدد الهائل الذي توافد إليه، يقول دياب إنّ "باب المعتقل صغير كباب أي غرفة، يسمح بمرور شخص واحد. تخيّل أن ثلاثين ألف شخص يريدون المرور منه. توجّب عليهم تحطيم جدران الطابق الأرضي بأكمله ليسمحوا لهذا الحشد كله بالدخول. لو سقط أحدهم لدُهس دون أن يلاحظ أحد وجوده. لم تكن هناك قوة في الأرض قادرة على جمع الأرشيف المتناثر على الأرض. وذهبت صرخات زميلي المتواجدين في المكان للحفاظ على الوثائق سدى. لم يسمعهم أحد حتى. مؤلم ما جرى".
فيما إذا كانوا قد فكروا في التنسيق مع مؤسسات حقوقية سورية أخرى قبل فتح المعتقل، يجادل دياب بأنّهم كانوا شأن الجميع مصدومين ممّا يجري، معتقدين أنّ العملية ستتوقف في حلب وقد تصل إلى حماة ربما، لكن عندما سيطرت "إدارة العمليات" على حمص، بات واضحًا أن الأمر انتهى، فبدأوا بتجهيز فريق، وكانوا يهدفون إلى التنسيق مع من يريد اقتحام معتقل صيدنايا، وهو ما جرى في النهاية، ، على حد وصفه.
موضحًا صعوبة التنسيق في تلك الظروف، يقول أن الأولوية كانت لاخراج المعتقلين قبل عودة محتملة للنظام، "كان هناك خوف من أن يغلق النظام عليهم الباب من الخارج ويهاجمهم. خوف جعل العناصر المقتحمة تنسى حتى جلب مفتاحين، بوسع المرء عبرهما فتح السجن كلّه (عدا المنفردات التي لها مفاتيح منفصلة). كنا قد أرشدناهم إلى مكان وجودها، في غرفة مناوبات المساعدين. ما عقد الوضع هو توافد الأهالي المبكّر للمعتقل. لم أكن أتصور البتة أن يأتوا مع إطلاقات النار الأولى. لكن ما جرى أن الأهالي لم يكترثوا بالاحتفالات بسقوط بالنظام وجاءوا لمعرفة مصير أولادهم".
بدأ الأهالي بالعبث بمقتنيات المعتقلين الخاصة، وبالوثائق وتسبّبوا بضرر كبير بها. نتفهم مشاعرهم، لكن ما جرى ألحق ضررًا هائلًا بالأدلة، التي كان بوسعها كشف مصير أبنائهم"، لكنه يستدرك" لا نحملهم الذنب، بل من فتح السجن وسمح بدخولهم بهذه الطريقة العشوائية.
وجود العدد الهائل من الناس في المعتقل أعاق عمليات تفقده، عند وصول خمسة من فرقهم وفريقي دعم، مصطحبين فني كهربائي يعرف كلّ مداخل ومخارج السجن وطرق الصرف الصحي، لكونه من قام بتوصيل الكاميرات يومًا. يشرح يازجي، ويشير إلى أنهم نجحوا في منع بعض الناس بصعوبة من هدم السجن بأكمله بجرافات وآلات حفر جلبوها. "كانت هناك محاولات، لا يمكن التحقق فيما إذا كانت متعمدة أم لا، لتدمير الأدلة وتدمير السجن كرمز، كمسلخ بشري. الآن تم تجاوز هذه المرحلة".
نور الخطيب، مديرة توثيق الانتهاكات في الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقول لسوريا ما انحكت، أنه لم يكن لديهم أيّ تواصل مُسبق مع من حرّروا معتقلي سجن صيدنايا، وعندما وصل باحثهم الميداني لاحقًا إليه، كان المعتقل مكتظًا بشكلٍ هائل، ولم يستطع الدخول إليه إلا بعد مرور ساعات، "الظروف الميدانية كانت تفرض نفسها علينا. وجود الأهالي والإعلاميين، حوّل السجن إلى مزار. قال باحثنا أنه لم يكن يتخيّل قدرته على انتزاع السجلات من أيدي الأهالي والقول إنه يريد الحفاظ عليها. كان من المفهوم أنّ الأهالي يريدون معرفة فيما إذا كانوا أولادهم معتقلين هناك أم لا".
الصليب الأحمر.. علامات استفهام؟!
الكثير من علامات الاستفهام وُضعت منذ اليوم الأوّل حول أسباب غياب أيّ دور فعّال للجنة الدولية للصليب الأحمر، التي ظلّت متواجدة طوال سنوات الثورة في دمشق، وزيارة وفدها الرسمي المعتقل في اليوم الثالث من تحريره. متحدّثةً مع سوريا ما انحكت من دمشق، لا تشعر المتحدّثة باسم اللجنة، سهير الزاقوت، بأنهم قد قصّروا في أداء واجباتهم في ظلّ "تطور الأحداث السريع للغاية في وضع فوضوي عارم... الحدث وقع في ٨ ديسمبر، كنا في يوم ١٠ ديسمبر في المعتقل، (رغم) الظروف التي لا تُخفى على أحد، لم يأخذ تنسيق الزيارة منا أكثر من ٢٤ ساعة"، وترى أنّ الأهم من الوصول إلى صيدنايا كان إيصالهم شاحنات محمّلة بالأدوية إلى المواساة والمجتهد، وهما المستشفيان اللذان استقبلا أكبر عدد ممكن من معتقلي صيدنايا.
ردًا على جملة من الاستفسارات عمّا إذا كانوا تواجدوا على الدوام في معتقل صيدنايا منذ فتحه وساعدوا العائلات في البحث عن المفقودين، توضّح الزاقوت أنّ "طريقة عملنا تختلف. تنظيم دخول العائلات مثلًا ليس من عملنا"، "ليس لدينا إحصائيات عن المفرج عنهم. هذا ليس دورنا. هذه المعلومات موجودة في الوثائق"، وأنه "لا يوجد هناك عدد دقيق للمعتقلين/ات في سوريا، كلّ الأرقام الصادرة عن المنظمات السورية والدولية تقريبية. ما أستطيع تأكيده والحديث عنه، هو وجود ٣٥ ألف طلب مفقود خلال سنوات (الأزمة)"، متحدثة عن "مجهود مستمر على مدار سنوات الأزمة. عملنا في مراكز الاحتجاز يعتمد على موافقة السلطات في الدولة المضيفة لنا".
وترى أنّه "نقوم بكلّ ما وسعنا فعله. لكن البحث عن مفقودين يأخذ وقتًا. لا نريد رفع سقف توقعات الناس، بأنه مع فتح معتقل صيدنايا ستحصل العائلات على معلومات فورًا. سينبغي على السلطات التحقّق من المعلومات وإعطائنا إجابات لنوصلها للعائلات".
وعن عدد الحالات التي استطاعوا إيجاد مفقودين فيها في سنوات "الأزمة"، كما تحب أن تُسمّي، لم تستطع ذكر أيّ رقم، متحدثةً عن فتح خطين ساخنين للرد على الاستفسارات من المعتقلين وذويهم، واستقبالهم ٣٠٠ طلب، حتى تاريخ إجراء المكالمة.
لو سقط أحدهم لدُهس دون أن يلاحظ أحد وجوده. لم تكن هناك قوة في الأرض قادرة على جمع الأرشيف المتناثر على الأرض.
ماذا عن الأمم المتحدة؟
من يطرق باب المؤسسات والآليات الأممية والدولية المعنية بشؤون المفقودين والعدالة، مستفسّرًا عن استجابتهم الأولية لمساعدة ذوي المعتقلين/ات بعد فتح المعتقلات بُعيد سقوط النظام، يسمع الكثير من التأكيدات على إجرائهم اتصالات وتنسيقهم مع منظمات متواجدة على الأرض، لكن دون أن يكون لديهم، فرق على الأرض، أو يلعبوا أي دور فعال.
ربما كان الاستقبال الغاضب لشابة سورية لمبعوث الأممي الخاص إلى سوريا غير بيدرسن، خلال زيارته معتقل صيدنايا بعد قرابة أسبوع من تحريره، متسائلة "بعد شو جيتو؟"، معبرًّا عن مدى الإحباط وخيبة الأمل التي يشعر بها أهالي المعتقلين/ات حيال دورها الخجول.
في ردود على أسئلة حكاية ما انحكت عبر البريد الإلكتروني عمّا إذا كان لديها أي نشاط في معتقل صيدنايا في اليومين الأولين، أوضح رئيس الآلية الدولية المحايدة والمستقلة التابعة للأمم المتحدة في سوريا "IIIM"، روبرت بيتيت، أنهم لا يملكون أيّ فرق على الأرض، لأنّ حكومة الأسد لم تكن تعترف بشرعيتهم، وكانت رافضة لوجودهم، ومع ذلك حاولوا بانتظام التواصل معهم طالبين التعاون دون جدوى، وأنهم قدّموا مؤخرًا طلبًا جديدًا إلى سلطات تصريف الأعمال طالبين فيه التعاون والوصول إلى سوريا.
وبين أنه " تقوم الآلية بجمع المعلومات بشكل شخصي وعن بُعد حسب الظروف، طالما أننا قادرون على القيام بذلك بشكل آمن ومأمون، دون مخاطر على مصادرنا. نجمع من المناطق التي حصلنا فيها على إذن من السلطات للقيام بأنشطتنا"، إجابة تجعل من المشكوك فيه توجّه محققّي الآلية إلى صيدنايا، حتى حال وجودهم في دمشق، نظرًا إلى مخاطر الموقف الأمني في اليوم الأول من سقوط النظام.
وعمّا إذا كان لدى هيئات ووكالات الأمم المتحدة الأخرى التي يتعاونون معها محققين وجامعي أدلة في سوريا في هذين اليومين، أو حاولوا التنسيق معها في دمشق، قال إنّ لجنة التحقيق الخاصة بسوريا لم تكن تملك كشأن "الآلية" أي وصول إلى سوريا، ولم يكن لديها فرق على الأرض، وأنهم يحاولون في الأثناء الوصول إليها بأسرع وقت ممكن.
وأشار إلى أنهم ينسّقون مع مختلف مؤسسات ولجان الأمم المتحدة، مثل "لجنة التحقيق" و"المؤسسة المستقلة المعنية بشؤون المفقودين في سوريا"، التي شكلتها الأمم المتحدة "حديثًا"، في إشارة إلى صيف العام ٢٠٢٣، والتي لا تمتلك أي فرق لها على الأرض أيضًا.
رغم تشكيلها منذ أكثر من عام، كانت المؤسّسة المستقلة دون رئيس/ة. في التاسع عشر من ديسمبر/ كانون الأوّل، وبعد عشرة أيام من سقوط النظام، عيّن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، كارلا كوانتانا، رئيسة للمؤسسة.
وعمّا فعلوه للتجاوب مع التطورات على الأرض، ساق بيتيت، مجموعة من الجهات التي وجه فريقه للتنسيق والتواصل معها، منهم "أفراد مرتبطين سابقًا مع النظام السوري"، منذ الحادي عشر من ديسمبر، أي بعد ثلاثة أيام من سقوط النظام، في وقت ما زال فيه الوضع متقلبًا، على حدّ وصفه، لافتًا إلى إصدارهم في التاسع من ديسمبر/ كانون أوّل دليلًا للحفاظ على المواد الوثائقية والرقمية، التي يأملون أن يفيد العديد من الجهات التي لا تملك الخبرة الكافية، التي يرون أنها تصل إلى أماكن حسّاسة، وأنهم على استعداد لتلقي وحفظ المواد.
ما عقد الوضع هو توافد الأهالي المبكّر للمعتقل. لم أكن أتصور البتة أن يأتوا مع إطلاقات النار الأولى. لكن ما جرى أن الأهالي لم يكترثوا بالاحتفالات بسقوط بالنظام وجاءوا لمعرفة مصير أولادهم.
وأكد بيتيت أنّ الصور الملتقطة للأدلة التالفة جزئيًا في صيدنايا وغيرها تبقى ذات فائدة، حتى لو لم تكن في حالة ممتازة، وستعطي عند إضافتها ودمجها مع المواد الأخرى التي تم جمعها صورة أكمل للأحداث، موضحًا أنّ ضياع الوثائق لا يعني انسداد أفق تحقيق العدالة في سوريا، وأنه "لا تزال شهادة الشهود حاسمة في إجراءات العدالة، كما يتضح من القضايا البارزة الأخيرة مثل محاكمات كوبلنز في ألمانيا وقضية الدباغ في فرنسا".
اللجنة الدولية لشؤون المفقودين، ومقرها لاهاي، أكدت من جانبها في ردودها على أسئلة سوريا ما انحكت، عبر البريد الإلكتروني في ١٨ من كانون أوّل/ ديسمبر، التي توحي أنّ لديهم القليل من التفاصيل لتقديمه، عدم وجود أي فريق لديهم على الأرض في سوريا عند سقوط النظام وحتى تاريخه، وأنهم في طور التخطيط لعملية الانتشار، وينسقون عن قرب مع رابطة معتقلي صيدنايا ومؤسسات أخرى على الأرض.
وعما إذا كانوا يساعدون الآن عائلات المختفين/ات، أشارت إلى أنّ إيجادهم والتحقيق بشأنهم هي "مسؤولية الدولة"، وأنّهم انخرطوا منذ العام ٢٠١٧ في أنشطة واسعة النطاق لإرساء الأساس لمساعدة الحكومة المستقبلية في العثور على العدد الهائل من المفقودين/ات، بما في ذلك جمع البيانات من عائلات المفقودين بهدف إجراء عمليات تحديد هوية على نطاق واسع استنادًا إلى الاختبارات الجينية.
وأوضحت أنهم تلقوا حتى الآن تقارير من حوالي ثمانين ألف عائلة، أبلغت عن حوالي ثلاثين ألف شخص مفقود، وأنه يتم جمع هذه البيانات مباشرة من عائلات المفقودين إما عن طريق اللجنة الدولية لشؤون المفقودين أو شبكة المنظمات السورية الشريكة.
من خذل عوائل المعتقلين/ات؟
المنظمات الحقوقية السورية، نالت هي الأخرى نصيبها من اللوم أيضًا، إذ اُعتبر أنها خذلت السوريين/ات حينما حانت ساعة الحقيقة، رغم تراكم الخبرات لديها لأربعة عشرة عامًا، والدعم الدولي الذي قُدّم لها.
محمد العبدالله، من المركز السوري للعدالة والمساءلة، يرى أنّ إلقاء اللوم على المنظمات ليس منصفًا، هم ربما الجهة الخطأ للومها، مشيرًا إلى وجود رابطة معتقلي صيدنايا في اليوم الأول وفريق مركزهم في اليوم التالي، وتركيزهم على جمع الوثائق، "لم يتوقع أحد سقوط النظام بهذه الطريقة وبهذه السرعة. الحديث عن الاستعداد؟ قبل يومين من سقوط النظام لم يكن الموضوع وارداً. حتى حال افتراضنا أن المنظمات كانت موجودة في لبنان وستصل خلال ساعة إلى المكان، لن يغير ذلك من نتائج البحث شيئًا". يجادل بأنّ "الوضع كان فوضوياً بفعل تواجد جمهور كبير، ولاعبي وسائل التواصل الاجتماعي ونشرهم أخبار زائفة عن وجود أدلة عن تواجد معتقلين تحت الأرض، هذا تَلاعب كثيرًا بمشاعر ذوي المعتقلين/ات".
يرى العبدالله أنّ "عملية البحث عن المفقودين من وجهة نظرنا، هي عملية طويلة تستغرق وقتًا، وتعتمد على الأدلة، الوثائق، لذلك نطالب بتسليمنا الوثائق، التي تساعد على تتبع المعتقل/ة من مكان الاعتقال حتى الوصول مثلًا لمحكمة ميدانية أو نقله إلى سجن آخر، وفيما إذا كانت هناك معلومات عن وجوده أم لا على قيد الحياة. تتبّع الأشخاص المفقودين في الوثائق أهم من وجود المنظمات على الأرض لحظة فتح الأبواب"، ويعيد "الفوضى والعشوائية"، إلى "عدم وجود قوائم معتقلين/ات. هناك قوائم لا يملكها أحد. كانت هذه مشكلتنا في الأساس في مقاربة الأمم المتحدة سابقاً، التي كانت تطلب منا قوائم. فالقوائم الموجودة عند المنظمات ليست بالضرورة مطابقة للموجودة داخل السجون، والتي كانت مسؤولية الدولة السورية، ولم تكن ملتزمة بها".
كانت هناك محاولات، لا يمكن التحقق فيما إذا كانت متعمدة أم لا، لتدمير الأدلة وتدمير السجن كرمز، كمسلخ بشري.
بدورها، تقول مديرة توثيق الانتهاكات في الشبكة السورية لحقوق الإنسان نور الخطيب: "بدأت عملية ردع العدوان في ٢٧ تشرين الثاني/نوفمبر. كان سجن حلب هو أول سجن يتم تحريره. حينها قدمنا بعض التوصيات، عبر باحثينا الميدانيين، للقادة الميدانيين لإدارة العمليات العسكرية، متعلّقة بالإفراج عن المعتقلين وتحديد من هم معتقلون سياسيون وآخرون جنائيون، والحفاظ على السجلات وعدم المساس بها. لكن الأوضاع الميدانية على الأرض كانت خارج إرادة المقاتلين والمنظمات فيما يبدو، هذا ليس تبريراً، بل الواقع".
تعتبر الخطيب أن جانبًا من الفوضى الحاصلة، كان مدروسة، لأن أي مسار عدالة سيشمل كل الضحايا، وليس النظام فحسب. ولا تستطيع الخطيب أن ترى أين هي مواطن تقصيرهم، موضحةً أنه كان من الأفضل تشكيل لجنة خاصة بالسجون، تميّز بين المعتقلين الجنائيين والسياسيين، ترافقها منظمات إغاثية وحقوقية تحصي من خرج، ما يسهّل على الأهالي في البحث عن أولادهم. ".تبييض السجون والافراج عن مرتكبي الجرائم، بينهم مجرمي حرب، كارثة. حكينا الكثير، عن ضرورة عدم تحطيم الأبواب، ظنّ بعض المعتقلون بأن السجانين قادمين لإعدامهم، لكن عندما لا يكون هناك تعاون من الأطراف الأخرى، ما الذي بوسعنا فعله، من أرسلناهم هم باحثين ميدانيين مدنيين، لا يمتلكون أي سلطة".
مشيرة إلى المخاطر التي أقدموا عليها، تقول أنهم لو مضوا في العمل بطريقة مهنية فحسب، لكان من واجبهم عدم ارسال باحثيهم الميدانيين إلى أماكن خطرة، لأنهم يتحملون مسؤولية ما قد يتعرّضون له هناك. مع ذلك، تقول أنها تتفهم غضب الأهالي وإلقاء اللوم عليهم، مع عدم معرفة مصير المعتقلين/ات بعد افراغ المعتقلات، وتشعر معهم، لا سيما وأنها تبحث أيضًا عن ثلاثة من أقاربها المختفين قسرًا.
وتتفق مع العبدالله على أنّ عمليات البحث ستستغرق وقتًا طويلًا وتشير إلى أنه "نرد كل يوم على ٣٠٠ إلى ٤٠٠ طلب بالبحث في عدة قواعد بيانات قديمة، وما يصلنا من الأفرع من وثائق. كثيرًا ما لا تصل إلى نتيجة. قليلة هي الحالات التي استطعنا إيصال نتيجة أولية للأهل. أعتقد أننا في معركة وقت، الجميع متلهف للحصول على معلومات، وفي نفس الوقت لا تستطيع تقديم المعلومات بطريقة اعتباطية. لا تستطيع القول ببساطة لعائلة بإنّ ابنها متوفى، عليك جمع أدلة تقدّمها للعائلة، يمكنهم لاحقًا عبرها البناء عليه في مسار محاسبة ما. حجم البيانات التي بات لدينا هائل وبحاجة إلى أشهر طويلة من المعالجة، سنقاطعها مع قواعد بيانات أخرى كنا قد حصلنا عليها سابقًا".
الصور الملتقطة للأدلة التالفة جزئيًا في صيدنايا وغيرها تبقى ذات فائدة، حتى لو لم تكن في حالة ممتازة، وستعطي عند إضافتها ودمجها مع المواد الأخرى التي تم جمعها صورة أكمل للأحداث.
وبالحديث عن ضرورة عدم التسرّع في تحديد مصير المختفين قسرًا ، تعلّق "الخطيب" على إعلان مدير منظمتها، فضل عبدالغني، المثير للجدل في لقاء تلفزيوني عن كون غالب المختفين قسريًا من قبل النظام هم مقتولون، وترى أنّ دافعه كان التخفيف عن الأهالي الذين كانوا يبحثون في سجن بعد الآخر وينامون في الشارع، حتى من كان قد أُخبر بأن ابنه قد قُتل قبل أعوام، متأثرين بكم كبير من الأنباء الزائفة عن وجود سراديب وأقبية لم تُفتح أبوابها، معتبرة أنه لم يقصد من الإعلان طي الملف، بل على العكس فتح باب البحث عن مصيرهم، عبر البحث في المقابر الجماعية بطريقة مهنية من قبل مختصين.
محمد العبدالله، من المركز السوري للعدالة والمساءلة، يعتبر مثل هكذا إعلان متسرعًّا، ملاحظًا أنّ المعيار الأوّل في البحث عن مفقودين/ات، هو اعتبارهم جميعًا أحياء حتى يُثبت العكس.
الخطيب والعبدالله يقران بضعف مزمن يشوب التنسيق بين المنظمات الحقوقية السورية، استمر حتى خلال سقوط النظام، فيما يتعلّق بجمع وبمشاركة الوثائق، وينفيان ردًا على سؤالي، تنسيقهم مع بعضهم البعض، بشأن الأفرع أو المناطق التي يبحثون عن وثائق فيها. وتعيد الخطيب من الشبكة السورية ذلك إلى حجم المهام الهائل المُلقى على عاتقهم هذه الفترة.
العبدالله، يشير إلى تنسيق حالي حاصل بين مركزهم وبين رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا، من ناحية العمل على مراكز اعتقال مختلفة، وأنّ هناك تعهدًا من الطرفين بجمع الوثائق ووضعها مع بعضها، وإلى وجود تصوّر لإطلاق دعوة عامة، لنوع من التنسيق حول هذه الوثائق، ومحاولة تحليلها، لأنّ "حجمها أكبر بكثير من قدرة أية منظمة بمفردها، هدفها التحليل للوصول للمفقودين/ات".
هل ولمن ستُعاد الوثائق؟
فيما كان السوريون/ات ما زالوا يعبّرون عن فرحتهم في الساحات بسقوط نظام الأسد، ودموع أهالي المعتقلين/ات لم تنقطع، بدأ سعي محموم بين "جامعي أدلة" من منظّمات حقوقية سورية ودولية وصحفيين/ات وكل من ذو صلة أو لا علاقة له بالشأن الحقوقي، لجمع ما تراكم من وثائق لدى النظام السوري لعقود في معتقل صيدنايا وغيرها من أفرع النظام الأمنية. وفي حين تسعى بعض هذه الجهات الحقوقية للحفاظ عليها من التلف، واستخدامها لاحقًا في محاكمة الجناة، ارتبط وضع اليد عليها عند بعض الجهات الأخرى، بتحويلها إلى "رصيد" حقوقي، سيدر حتمًا المال مستقبلًا عليهم من الجهات المانحة.
جانب من الفوضى الحاصلة، كان مدروسة، لأن أي مسار عدالة سيشمل كل الضحايا، وليس النظام فحسب.
هبة الزيادين، الباحثة في منظمة هيومان رايتس ووتش، التي زارت سوريا بعد سقوط النظام، قالت لبرنامج "الديمقراطية الآن!" الأمريكي في ١٩ ديسمبر/كانون الأول، أن حماية الوثائق ينبغي أن تكون من أولويات الحكومة الانتقالية، ليس بسبب جهود العدالة والمحاسبة، بل لأن آلاف العائلات يبحثون ويستحقون إجابات بشأن أحبائهم، ولا يملكون أي فكرة عما تفعله هذه الحكومة حيال الأمر.
وتعتبر أن على الحكومة المؤقتة رفع الوعي بشأن العبث بالأدلة، وحول استعادة الوثائق بدون "سلسلة الحيازة"، لأنه عند أخذ هذه الوثائق بدون توثيق "من وكيف ومن أين" تم أخذها، لن تصمد في المحكمة، وهو ما أكدوا عليه للحكومة المؤقتة، داعين الهيئات الأممية للوصول للمكان بأسرع طريقة ممكنة. ويتضمن دليل "المؤسسة المستقلة المعنية بشؤون المفقودين في سوريا" بشأن حفظ الأدلة ما يُسمى "استمارة تتبع الأدلة"، التي تتيح حفظ الأدلة بطريقة قانونية، تجعلها قابلة للاستخدام لاحقًا.
وتقول الزيادين أنهم شهدوا البعض من تعزيز الأمن على مراكز الاحتجاز، لكن ليس هناك جهود منسقة الآن للحفاظ على هذه الوثائق، مؤكدة أن هذه الوثائق ملك للشعب السوري وينبغي أن تظل معهم، وينبغي أن يكونوا في طليعة من يقومون بهذه الجهود، وإن كان بمساعدة الأمم المتحدة وغيرها من اللاعبين الدوليين.
مدير رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا، دياب سرية ، يشتكي من عدم تعاون بعض المنظمات الحقوقية السورية، فيما يخصّ مشاركة الوثائق التي أخذوها، التي يريدونها، للنظر في إمكانية العثور على معلومات عن المعتقلين/ات فيها. ويرى أنّ الكثير من المنظّمات والناشطين والصحفيين (الأجانب) أخذوا كمًا كبيرًا من الوثائق، التي ليس من حقّ أحد الاحتفاظ بها، للاستفادة ماديًا منها لاحقًا، عبر تقديم أنفسهم للجهات الداعمة، كمحلّلين لهذه البيانات، أو نشر كتب عنها ك "تسريبات من المخابرات السورية".
ويشير إلى أنّ أرشيف معتقل صيدنايا من الضخامة بمكان، ما يجعل جمعه في ظلّ هذه الظروف صعبًا للغاية، إذ يضم كلّ ما جرى في معتقل صيدنايا منذ العام ١٩٨٧، ولا يتضمن فقط بيانات مهمة، بل أيضًا أوامر روتينية لا قيمة لها، وأنّ الأمر ليس وكأنك ستجد أسماء المعتقلين والبيانات المهمة فورًا، مخمنًا أن يستغرق فرزها ومعرفة النقص الموجود بينها حوالي عام، لذا إن لم يكن هناك تعاون من قبل المنظمات الحقوقية فهم أمام مشكلة. ويقترح دياب أن يتم الضغط على المموّلين ليمتنعوا عن دعم أيّ مشاريع متعلّقة بهذه الوثائق، ليدفعوا المحتفظين بالوثائق إلى إعادتها لأنها في النهاية "تاريخ بلد".
بسؤال الصليب الأحمر عن كمية الوثائق التي أعلنوا عن جمعها في معتقل صيدنايا. في بيان رسمي لهم، تقول المتحدثة باسم اللجنة، سهير الزاقوت أنه "قمنا بجمع ما أمكننا جمعه، وتأكدنا من وجودها في غرف مغلقة، قبل مغادرة المكان"، معتبرة أنّ "الحفاظ عليها من واجب السلطة المسيطرة على الأرض. اللجنة لا تحتفظ بوثائق المعتقلين". بسؤالها عن الجهة التي سلموها الوثائق، قالت أن من "الصعب للغاية تحديد الجهة. هناك الكثير من الجهات العاملة على الأرض". يقول دياب، أن الوضع كان فوضويًا في المعتقل، وهكذا بات كلّ من يحمل قطعة سلاح بمثابة "مسؤول" هناك.
بعد أيام من الفوضى، لاحظ جامعو الوثائق على الأرض أنّ إدارة العمليات العسكرية بدأت بوضع حراسة على الوثائق وباتت تطلب الحصول على ترخيص مؤقت للتصوير فقط، من قيادة شرطة دمشق، كما توضح الشبكة السورية لحقوق الإنسان والمركز السوري للعدالة والمساءلة لسوريا ما انحكت.
وفتح استحواذ المؤسسات الحقوقية والصحفيين/ات وحتى صانعي المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي على أجزاء من إرث أكثر من خمسين عام من الديكتاتورية، باب النقاش حول الظروف التي ستعيدها إلى الدولة السورية المستقبلية.
محقّق جرائم الحرب بيلي ويلي، من منظمة سيجا، وفريقه من جامعي الوثائق على الأراضي السورية جمعوا قبل سقوط النظام ما يقارب ١.٣ مليون وثيقة، وهربوها إلى خارج سوريا، وخزنوها في مكان ما في أوروبا. يشبّه ويلي، في مقابلة مع صنداي تايمز، الوضع الحالي في سوريا، بألمانيا العام ١٩٤٥ وعراق العام ٢٠٠٣ وربما وسط وشرق أوروبا مطلع التسعينيات، حيث يسابق جامعو الوثائق العاملين معه في سوريا الزمن لجمع ما أمكن. مع تساقط المناطق تحت سيطرة المعارضة وظّف عشر جامعي وثائق آخرين في سوريا، لينضموا إلى ٤٣ موظفًا يعملون مسبقًا هناك. مع ذلك يقدر ما جمعوه حتى الآن بأنه قطرة من محيط، يضم مئة مليون صفحة، ستحتاج بنية ضخمة، لشيء أكبر من نورنمبرغ.
وضمن هذا السياق، أوضحت مدير الإدارة والعلاقات الخارجية في سيجا، نيرما جيلاسيك، في حديث مع سوريا ما انحكت" أنهم يعملون عادة مع سلطات إنفاذ القانون وليس بشكل مباشر مع الضحايا، ويجمعون ويحتفظون بالوثائق حاليًا داخل سوريا، منوّهة إلى أنهم لا يستطيعون العمل في المناطق التي تسيطر عليها "هيئة تحرير الشام"، كمعتقل صيدنايا، لكونها مصنّفة كمجموعة إرهابية، بل يعملون في مناطق تسيطر عليها مجموعات مسلحة أخرى.
عملية البحث عن المفقودين من وجهة نظرنا، هي عملية طويلة تستغرق وقتًا، وتعتمد على الأدلة، الوثائق.
فيما إذا كانوا سيسلمون جميع الوثائق، بما فيها تلك التي أخرجوها من سوريا منذ العام ٢٠١١، قالت إن ذلك يعتمد على انتخاب السوريين/ات حكومة، إذ أن الحكومة الحالية هي حكومة تصريف أعمال، ولا تضم حتى جسمًا مهتمًا بتأمين هذه الوثائق الموجودة في الأرجاء الآن، لكي نتحدث عن استقبال وثائق أخرى الآن، معتبرة أنّ "السؤال سابق لأوانه تحديد لمن ومتى سيسلمونها".
من تجربتها الشخصية في البوسنة، تقول إنّ الحرب جرت في التسعينيات، وما زالت بعض الأمهات يدفنن عظمة من عظام أطفالهن، لأنهن لا يستطعن إيجاد بقية الرفات، موضّحةً أن الكشف عن مصير المفقودين/ات، " مثير للإحباط ولا يتطلب عمل منظمة واحدة فقط، أو مؤسسة، أو حتى الأمم المتحدة وحدها، بل اجتماع كلّ هذه المجموعات والفاعلين، والنظر في كيفية تنفيذ ذلك بأسرع وقت ممكن. لا يمكن لسيجا فعل كل شيء ولا يمكن لأي أحد فعل كل شيء. ما يمكننا فعله حفظها كي لا تُؤخذ، ومن ثم سيقرّر السوريون ماهية آليات العدالة الانتقالية وطرق إيجاد المفقودين، هذا ليس قرارنا".
الشبكة السورية لحقوق الإنسان تؤكد أيضًا بحسب نور الخطيب أنّ "الوثائق ليست ملكًا للشبكة. حتى تصبح الصورة أوضح، سيُعاد تسليمها للحكومة الجديدة، أو المؤسسة التي ستتولى مهمة البحث عن المفقودين".
أما محمد العبدالله من المركز السوري للعدالة والمسائلة فيعتبر أن "الوثائق هي في عهدتنا للشعب السوري، سنسلمها لأي حكومة منتخبة لاحقًا لتلعب هذا الدور. لدينا فريقان من عشرة أشخاص في دمشق يعملون على التوثيق، يقولون لنا بإنّ هذه الوثائق أكبر من قدرة أي جهة، أن تصوّرها وتشحنها، هناك أرشيف لخمسين عام من العمل الورقي. هناك مباني مليئة بالأوراق، لا يستطيع أحد إخراجها، أو حمايتها". ويوضح: "إن أنشئت مرحلة انتقالية، يشرف عليها مؤسسة، أو مجموعة، أو وزارة عدل، أو طرف ذو مصداقية ومعايير تقنية، يمكن أن يستفيد من الأوراق، سنشاركها على الفور معها. حاليًا ينحصر دورنا في حفظ هذه الوثائق وأرشفتها، والبدء بتحليلها. نأمل أن يتم تشكيل لجنة وطنية للبحث عن المفقودين، بإدارة وزارة العدل. في حال عدم توافر ذلك، سنقوم نحن بالبدء بتحليلها".
ويحذر العبدالله من نشر مثل هذه الوثائق على الإنترنت، مذكرًا كيف أدى ذلك في العراق سابقًا، إلى عمليات تصفية واسعة، لأنّها كانت تتضمن معلومات عن مخبرين ووشاة، لذا لا ينشرها مركزهم عادة "بهدف حماية الضحايا من ناحية، وألا تتسبب بأعمال عنف، وألا تنبه المتهمين بأنهم باتوا معروفين، وسيحاكمون إن وصلوا إلى دولة أوروبية مثلًا".
دياب سرية من رابطة معتقلي صيدنايا يبدو متشككًا حيال احتمال إعادة الأفراد والمؤسسات الصغيرة هذه الوثائق، مهما كانت وعودها وردية.
بسماع هذه الجهات، يستطيع المرء أن يخلص إلى أن تضافر عوامل وظروف عدة جعل ما تكشّف أمام أعيينا على الشاشات أمرًا لا مفر منه، عل أبرزها: منع محققي آليات الأمم المتحدة من التواجد في سوريا، تحت حكم الأسد، وبطء تحركها منذ سقوط النظام، وتصرف اللجنة الدولية للصليب الأحمر "بمهنية"، وتحرير معتقل صيدنايا من قبل مجموعة صغيرة من المقاتلين المحليين السابقين، المرتبكين من احتمال هجوم مباغت للنظام، والتنسيق شبه المعدوم بين المنظمات الحقوقية السورية، التي فاقت متطلبات متابعة هذا الانهيار السريع للنظام قدراتها، والأهم : تحوّل المعتقل بسرعة فائقة إلى محج لعشرات الآلاف من أهالي المعتقلين، لكن أيضًا المتلصصين، واللصوص، و ومستغلي وسائل التواصل الاجتماعي، الذين تغذوا وما زالوا على دماء السوريين/ات ومعاناتهم.
في ظلّ هذه المأساة الوطنية الجامعة التي يعيشها السوريون/ات، تتوالي دعوات المنظمات الحقوقية والدولية في الأثناء لعدم المس بالمقابر الجماعية أيضًا، التي قد تحمل جزئيًا إجابات، لم يجدها الأهالي في مراكز الاعتقال، وقد لا تتوافر في الكم الهائل من الوثائق المتراكمة لدى المنظمات أو المكدسة في الأفرع الأمنية، أو التي ما زالت جزئيًا منثورة على الأرض، وسط غياب واضح لجهود منسقة من حكومة تصريف الأعمال الحالية للحفاظ عليها بشكل محكم. في ٢٢ كانون الأول/ديسمبر، تحدث أحمد الشرع، زعيم هيئة تحرير الشام، عن "وجود الكثير من اللجان التخصصية،تقوم على البحث بالأدلة الجنائية، وبالاستعانة ببعض الخبرات الدولية، والبحث عن الأدلة الجنائية، للنظر في حال المفقودين". ومن غير المعروف عن أي لجان يتحدث الشرع، ومتى شُكلت.
"جمعت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين أكثر من ٧٠٠ عينة مرجعية من الحمض النووي من عائلات المفقودين. ستساعد نتائج هذه الفحوصات في جهود تحديد الهوية حالما تبدأ عمليات الاستعادة المنهجية في سوريا، كما تلقينا بيانات مجهولة المصدر تتعلّق بمواقع ما يقارب 70 موقعاً مقابر جماعية وسرية"، تقول اللجنة الدولية لشؤون المفقودين لسوريا ما انحكت.