فهم التهديدات التي تواجه سوريا الديمقراطية والتقدمية اليوم

على الطبقات الشعبية السورية أن تنظّم صفوفها لتحقيق التطلعات الأولية للثورة السورية


هل نموذج الانقلاب المصري محتمل في سوريا؟ وهل النظام القديم وبقاياه يشكلان التهديد الرئيسي لسوريا؟ أم أن التهديد الأساسي اليوم يتمثّل في سعي "هيئة تحرير الشام" والقوى الإقليمية والدولية الداعمة لها لفرض استبداد جديد؟ هذا ما يجيب عليه الباحث القدير الدكتور جوزيف ضاهر في هذا المقال الموسّع، من خلال تحليل التهديد الذي تمثله بقايا النظام القديم أولًا، ومن ثم تحليل سياسة "هيئة تحرير الشام" لتعزيز سلطتها على سوريا الجديدة.

04 كانون الثاني 2025

جوزيف ضاهر

ناشط سياسي، له منشورات بالعربية والفرنسية والانكليزية. يدوّن في SyriaFreedomForever (سوريا حرية للأبد). نال درجة الدكتوراة من كلية الدراسات الآسيوية والمشرقية (سواس) بلندن. ركزت رسالته على المادية التاريخية وحزب الله. يعيش د. ضاهر في سويسرا، حيث يدرس في جامعة لوزان.

1. النظام القديم، ما هي طبيعته؟ ما هو التهديد الذي يواجه مستقبل سوريا؟

كان سقوط نظام بشار الأسد نتيجة تراكم النضالات التي خاضتها الجماهير السورية منذ الانتفاضة الشعبية في أذار/مارس 2011. وكان الهجوم العسكري الذي قادته مجموعات المعارضة المسلحة في تشرين الثاني/نوفمبر 2024 بمثابة الضربة النهائية لنظام الأسد، الذي انهار سريعًا في كانون الأول/ ديسمبر 2024.

منذ سقوط الأسد، تُثار العديد من الأسئلة حول مستقبل سوريا، وخاصة فيما يتعلق بماهية التهديدات الرئيسية التي تواجه تأسيس مجتمع ديمقراطي.

ركز العديد من المعلقين والمثقفين والناشطين الليبراليين والديمقراطيين على "الفلول" أو بقايا النظام القديم، وخاصة في القطاعين الأمني ​​والعسكري، باعتبارهم التهديد الرئيسي اليوم للبلاد. وغالبًا ما يتم ذكر سيناريو مصر في هذا السياق، المتعلق بالانقلاب الذي قاده السيسي ضدّ الرئيس محمد مرسي، عضو جماعة الإخوان المسلمين، في تموز/يوليو 2013.

من ناحية أخرى، تتجنب بعض قطاعات المعلّقين والديمقراطيين انتقاد الإدارة الحالية التي تقودها هيئة تحرير الشام أو لا ينتقدونها بشكلٍ كبير، بل تمنح "الهيئة" عمومًا أوراق اعتماد لإدارة المرحلة الانتقالية.

تسعى هذه المقالة إلى دراسة التهديدات الرئيسية لمستقبل سوريا الديمقراطي والتقدمي، والعدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع السوريين في البلاد.

يحلّل المقال أولًا التهديد الذي تمثله بقايا النظام القديم، ثم يدرس سياسة هيئة تحرير الشام لتعزيز سلطتها على سوريا الجديدة.

(2): ما هي طبيعة نظام الأسد؟

الأجهزة الأمنيّة ودورها في مفاصل الحياة في سوريا

11 كانون الثاني 2022
ازدادت وحشيّة هذه الأجهزة وتغلغلها في كافة مفاصل الحياة اليوميّة للسوريين في الفترة التي تلت استلام عائلة الأسد الحكم في سوريا، عقب انقلاب حافظ الأسد عام 1970، حيث لعبت دورًا...

أسّست عائلة الأسد نظامًا استبداديًا وميراثيًا مطلقًا في سوريا، قائم على امتلاك الدولة من قبل مجموعة صغيرة من الأفراد المرتبطين بروابط عائلية وقبلية وطائفية وزبائنية، يُرمز إليها بالقصر الجمهوري، بقيادة بشّار الأسد وعائلته.  وكان الحرس البريتوري (قوة عسكرية ولاءها للحكام، لا للدولة)، ممثلًا في الفرقة الرابعة بقيادة بقيادة ماهر الأسد، يهيمن على القوات المسلّحة والوسائل الاقتصادية وأدوات الإدارة. وقد طوّر النظام السوري نوعًا من رأسمالية المحاسيب التي تهيمن عليها مجموعة صغيرة من رجال الأعمال الذين يعتمدون بشكل كامل على القصر الجمهوري (بشّار الأسد وأسماء الأسد وماهر الأسد)، الذين استغلوا موقعهم المُهيمن الذي ضمنه لهم القصر الرئاسي لجمع ثروات كبيرة. وبعبارة أخرى، فإنّ مراكز القوّة (السياسية والعسكرية والاقتصادية) داخل النظام السوري كانت متركّزة في عائلة واحدة وزمرتها، الأسد، على غرار ليبيا في عهد معمر القذافي، أو صدام حسين في العراق، أو ممالك الخليج. وهذا ما دفع النظام إلى استخدام كلّ العنف المتاح له لحماية حكمه.

أسس حافظ الأسد الدولة الميراثية الحديثة بعد وصوله إلى السلطة في العام 1970. وبنى الأسد بصبرٍ دولةً استطاع فيها تأمين السلطة بوسائل مختلفة مثل الطائفية والجهوية والقبلية والزبائنية، يديرها عبر شبكات سلطة ومحسوبية غير رسمية. ترافق ذلك مع القمع العنيف ضدّ أيّ شكل من أشكال المعارضة. لقد سمحت تلك الأدوات للنظام بدمج أو رفع أو سحق الجماعات المنتمية إلى مختلف الإثنيات والطوائف الدينية، ما تُرجم على المستوى المحلي من خلال التعاون بين مختلف الجهات الفاعلة الخاضعة لسطوة النظام، بما في ذلك مسؤولي الدولة أو حزب البعث، وضبّاط المخابرات، وأعضاء بارزين في المجتمع الأهلي (رجال دين، وشخصيات قبائل، ورجال أعمال، وما إلى ذلك) في إدارة كلّ منطقة على حدة. كما فتح وصول الأسد للسلطة، المجال لبداية اللبرلة الاقتصادية، في تناقضٍ مع السياسات الراديكالية التي سبق اعتمادها في الستينات.

بنى الأسد بصبرٍ دولةً استطاع فيها تأمين السلطة بوسائل مختلفة مثل الطائفية والجهوية والقبلية والزبائنية، يديرها عبر شبكات سلطة ومحسوبية غير رسمية.

وفي العام 2000، أدى وصول بشّار الأسد إلى السلطة إلى تعزيز هائل في الطبيعة الميراثية للدولة، مع إعطاء وزن متزايد بشكل خاص للمحاسيب الرأسماليين. هذا فيما أدت السياسات النيوليبرالية المتسارعة التي تبنّاها النظام إلى تحوّل تدريجي في القاعدة الاجتماعية للنظام، والتي كانت تعود في أصولها إلى الفلاحين والموظفين الحكوميين وبعض قطاعات البرجوازية، إلى ائتلاف جديد يقع في قلبه الرأسماليون المحاسيب، تحالف الاقتصاد الريعي مع سماسرة السلطة (بقيادة آل مخلوف وهي عائلة أم بشار الأسد) والنظام الداعم للطبقة البرجوازية والمتوسّطة العليا. تزامن هذا التحوّل مع إضعاف مؤسسات الدولة الأكثر اجتماعية كنقابات العمال والفلاحين والشبكات الراعية لهم، مع استمالة الفئات التجارية والطبقات المتوسطة العليا عوضًا عنهم. لكن ذلك سبّب اختلالًا مع قاعدة الدعم السابقة. بشكل أعم، جعل تنامي الطبيعة الميراثية للدولة وإضعاف جهاز حزب البعث والمؤسسات التقليدية (هيمنة جماعات المصلحة) العلاقات الزبائنية والقبلية والطائفية أكثر أهمية من ذي قبل، الأمر الذي ألقى بظلاله على المجتمع ككل.

بعد اندلاع الانتفاضة في العام 2011، اعتمد قمع النظام وسياساته إلى حدٍّ كبير على قاعدة دعمه الرئيسية، القديمة والجديدة: الرأسماليون المحاسيب، والأجهزة الأمنية، والمؤسسات الدينية العليا المرتبطة بالدولة. وفي الوقت نفسه، استفاد من شبكات المحسوبية القائمة على شبكات الرعاية من روابط طائفية وزبائنية وقبلية بهدف التعبئة على المستوى الشعبي. وخلال الحرب، كان للمكوّن الزبائني والعلوي الطائفي للنظام أن حماه من أيّ انشقاقاتٍ كبرى، فيما لعبت علاقات المحسوبية أدواراً أساسية في ربط مصالح الجماعات الاجتماعية المُتباينة بمصالح النظام.

الميليشيات ورأسمالية المحاسيب تعيق عملية إعادة إعمار سوريا

21 أيلول 2017
الحديث عن إعادة الإعمار في سورية اليوم بات مكثفا، الأمر الذي يطرح أسئلة تنوس بين السياسي والاقتصادي، أسئلة تتعلق بما إذا كان هذا الحديث يعني تعويم نظام الأسد مجددا، وعن...

لقد أظهرت القاعدة الشعبية للنظام طبيعة الدولة والطريقة التي تتواصل بها النخبة الحاكمة مع بقيّة المجتمع، أو على وجه التحديد (في هذه الحالة) مع قاعدتها الشعبية، من خلال مزيج من الأشكال الحديثة والعتيقة من العلاقات الاجتماعية، وليس من خلال مجتمع مدني كبير ومتماسك. كان على النظام الاعتماد بشكل أساسي على السلطات القهرية التابعة له، بما في ذلك الإجراءات القمعية وبثّ الرعب في النفوس، ولكن ليس ذلك فقط. فقد أمكن للنظام أن يعتمد على السلبية أو على الأقل خمول المعارضة لدى شرائح كثيرة من موظفي الحكومة المدينيين، وبصفة عامة الطبقات المتوسّطة في المدينتين الكبريين دمشق وحلب، رغم أنّ ضواحي المدينتين مثلت بؤرًا ثورية هامة في كثير من الأحيان. لقد كان هذا جزءًا من الهيمنة السلبية التي تمكن من فرضها النظام.

علاوة على ذلك، أثبتت هذه الحالة أنّ القاعدة الشعبية للنظام لم تقتصر على القطاعات والمجموعات المنتمية إلى العلويين و/أو الأقليات الدينية، رغم أهمية الأخيرة في صفوف مؤيديه. بل شملت تلك القاعدة أيضًا شخصيات ومجموعات من مختلف الطوائف والإثنيات ممّن تعهدوا بدعمهم للنظام. وبشكل أعم، كانت هناك شرائح كبيرة ضمن القاعدة الشعبية للنظام جرت تعبئتها من خلال الروابط الطائفية والقبلية والزبائنية، وأخذت تعمل بشكل متزايد كوكلاء لقمع النظام.

لكن هذه المرونة جاءت بتكلفة عالية، بالإضافة إلى زيادة التبعية لدول وجهات أجنبية. فخصائص وميول النظام الحالية تضخمت، وسلطة الرأسماليين المحاسيب تنامت إلى حدٍّ بعيد، فيما أخذت قطاعات واسعة من البرجوازية السورية تغادر البلاد وتسحب دعمها السياسي والمالي للنظام. أجبر ذلك النظام على الاستشراس أكثر فأكثر لتحصيل الإيرادات المطلوبة بشكل متزايد. وفي الوقت نفسه جرى تعزيز الخصائص الزبائنية والطائفية والقبلية للنظام. لقد تعزّزت هوية النظام الطائفية العلوية، خاصة في المؤسّسات السيادية مثل الجيش، وإلى درجة أقلّ في إدارات الدولة، وهي قضيّة سيتوجب على قيادة الأسد التعامل معها بعد انتهاء الحرب واستلام البلد الممزّق. كما جرى أيضاً تعميق ومأسسة الممارسات الإقصائية القمعية. ولكن في الوقت نفسه، كانت مشاعر الإحباط تتزايد بين السكان العلويين في السنوات القليلة الماضية بسبب الإفقار المستمر للمجتمع والابتزاز الذي تمارسه ميليشيات النظام ضدهم أيضًا.

بعد اندلاع الانتفاضة في العام 2011، اعتمد قمع النظام وسياساته إلى حدٍّ كبير على قاعدة دعمه الرئيسية، القديمة والجديدة: الرأسماليون المحاسيب، والأجهزة الأمنية، والمؤسسات الدينية العليا المرتبطة بالدولة.

بشكل عام، هذا ما يجعل النظر إلى النظام كنظام علوي فقط، دون الانتباه إلى "علونة" بعض المؤسسات، ولا سيما الجهاز القمعي المسلّح، قاصراً عن استيعاب ديناميات السلطة ومنظومة الحكم. علاوة على ذلك، لا يقوم النظام على خدمة المصالح السياسية والاجتماعية-الاقتصادية للسكان العلويين ككلّ، بل بالعكس. إنّ عدد القتلى الهائل في صفوف الجيش والميليشيات الأخرى يضم الكثير من العلويين. كما أدى انعدام الأمن وتفاقم الصعوبات الاقتصادية إلى توتّرات وأذكى عداوات ضدّ مسؤولي النظام في صفوف السكان العلويين.[1]

أظهر سقوط النظام هشاشته الهيكلية، عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، وانهار مثل بيت من ورق. وليس هذا مفاجئًا لأنّه بدا واضحًا أنّ الجنود لن يقاتلوا في صفوف نظام الأسد، بالنظر إلى رواتبهم القليلة وظروفهم الهشّة. وقد فضلوا الفرار أو عدم القتال بدلًا من الدفاع عن نظام لا يكنون له سوى تعاطفًا ضئيلًا جدًا، خاصة وأنّ الكثيرين منهم مجنّدون قسرًا.‏

كما أضعفت إسرائيل حليفي النظام الرئيسيين الآخرين، حزب الله اللبناني وإيران بشكل كبير منذ أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. فقد اغتالت تل أبيب قيادة حزب الله، بمن فيها حسن نصر الله، وأهلكت كوادره بهجمات أجهزة الاستدعاء (البيجرات)، وقصفت قواته في لبنان. ومن المؤكّد أنّ "حزب الله" يواجه الآن أكبر تحدٍّ منذ تأسيسه. كما وجّهت إسرائيل سلسلة من الضربات ضدّ إيران، وكشفت نقاط ضعفها، وصعّدت من وتيرة قصفها للمواقع الإيرانية ومواقع حزب الله في سوريا في الأشهر القليلة الماضية.‏

مع انشغال داعميها الرئيسيين في شؤونهم الخاصة وإضعافهم، كانت ديكتاتورية الأسد في وضع ضعيف. وبسبب كلّ نقاط ضعفها الهيكلية، ونقص الدعم من السكان الذين تحكمهم، وعدم موثوقية قواتها، ومن دون دعم دولي وإقليمي، تبيّن أنها غير قادرة على الصمود أمام تقدّم المتمردين، وانهارت بسرعة سيطرتها في المدينة تلو الأخرى كما يتداعى بيت من ورق.‏

وفي هذا السياق، يمكننا القول إنّ هياكل السلطة المرتبطة بالقصر الجمهوري قد ماتت سياسيًا. فقد غادرت عائلة الأسد البلاد، ولم يعد للفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد أي وجود كوحدة عسكرية منظّمة، وما تبقى من شبكات السلطة الرئيسية، سواء كانت رأسمالية المحاسب أو دينية أو قبلية، إلخ... أصبحت غير ذات أهمية وتقلّصت إلى عدد صغير من الأفراد بلا سلطة. وفي الوقت نفسه، غيّر بعض زعماء القبائل والقادة الدينيين والغرف الاقتصادية ولاءهم للسلطات الحاكمة الجديدة، وهو ما يرمز إليه تبنيهم للعلم السوري الجديد.

(2): عودة النظام القديم؟

بناء على ذلك، هل نموذج الانقلاب المصري محتمل في سوريا؟ هل النظام القديم وبقاياه يشكلان التهديد الرئيسي لسوريا؟ أعتقد أنّ هذا تحليل إشكالي. هناك سببان رئيسيان مترابطان: الاختلاف في طبيعة النظام والتهديد لا يمكن اختزاله في الأفراد بل في هياكل السلطة.

نظام الأسد ما زال يتكئ على شظايا البرجوازية السنية

02 كانون الثاني 2018
استمر التعاون بين النظام وشظايا البرجوازية السنية والأجيال الجديدة من رجال الأعمال. لقد كان العنصر الأساسي وما يزال هو الولاء، ما عنى اتخاذ تدابير عقابية بحق غير الموالين. إذن، لا...

وعلى النقيض من سوريا، لم يكن السقوط الأولي للديكتاتور حسني مبارك يعني نهاية النظام المصري. ففي حالة مصر، كان النظام السياسي أقرب إلى شكل من أشكال النظام المراثي الجديد، بمعنى آخر، لم يتم توحيده بعد حول عائلة معينة أو مجموعة صغيرة. وكانت المحسوبية والمحاباة حاضرة في النظام المصري من خلال عائلة مبارك، ولا تزال حاضرة اليوم مع النظام الحالي برئاسة السيسي. كان النظام الجمهوري الاستبدادي المؤسسي يتمتّع بدرجة أكبر أو أقل من استقلال الدولة عن الحكّام، الذين كانوا عرضة للاستبدال. والواقع أنّ القوات المسلّحة في الدولة المصرية تشكل المؤسسة المركزية للحكم السياسي والسلطة. ولا تملك أيّ عائلة الدولة إلى الحدّ الذي يسمح لها بصنع ما يريده أعضاؤها، كما هي الحال في النظام السوري في ظل عائلة الأسد. أما الدولة المصرية فهي تهيمن عليها القيادة العسكرية العليا. وهذا يفسّر لماذا انتهى الأمر بالجيش إلى التخلّص من مبارك وحاشيته من أجل حماية النظام في عام 2011. وتم إخراج جمال مبارك ورفاقه من الائتلاف الحاكم، وتمّ إضعاف شبكات الحزب الحاكم السابق، الحزب الوطني الديمقراطي، كما تمّ إضعاف سلطة وزارة الداخلية في علاقتها بالقوّات المسلحة.

وعلى نحو مماثل، لم يعنِ وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة بانتخاب مرسي رئيساً في عام 2012، نهاية النظام المصري الذي تقوده القيادة العسكرية العليا. فضلًا عن ذلك، حاول مرسي والإخوان في البداية تشكيل تحالف مباشر مع الجيش منذ الأيّام الأولى للانتفاضة في عام 2011، وهم يدركون جيدًا ثقله السياسي ودوره القمعي على مدى عقود من الزمان. ومنذ الأيّام الأولى للثورة، عمل الإخوان كحصن ضدّ الانتقادات والاحتجاجات ضدّ الجيش حتى بعد الإطاحة بمرسي في يوليو/تموز 2013. وقبل ذلك، أدانوا أولئك الذين يحتجون ضدّ الجيش باعتبارهم معادين للثورة وينشرون الفتنة. واستمر دستور ديسمبر/كانون الأول 2012 الذي روّج له الإخوان المسلمون في حماية ميزانية الجيش من تحكّم البرلمان وضمان سلطة القوّات المسلحة. وعارض مرسي والإخوان، بل وقمعوا حتى التعبئة الشعبية والطبقة العاملة في مصر ودافعوا عن الجيش. في الواقع، عيّن الرئيس الأسبق محمد مرسي الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي رئيسًا للجيش وهو يعلم تمامًا أنه قام بسجن وتعذيب المتظاهرين.

وعلى الرغم من جهود الإخوان المسلمين للتعاون مع الجيش، فقد أطاحوا بمرسي وقمعوا حركة الإخوان المسلمين وجميع أشكال المعارضة، بما في ذلك اليساريين والديمقراطيين. وفي النهاية، كان الجيش والإخوان يمثلان أجنحة مختلفة من الطبقة الرأسمالية، مع داعمين إقليميين مختلفين، ولم يتمكنوا من إيجاد تسوية. وقرّر الجيش الأكثر قوّة في النهاية تأكيد حكمه الدكتاتوري المباشر على حساب الجميع في مصر. لقد خلق السيسي النظام الأكثر قمعًا الذي شهدته مصر منذ عقود، وهو نظام نيوليبرالي دكتاتوري، نفذ بوحشيّة النطاق الكامل لتوصيات التقشف الصادرة عن صندوق النقد الدولي، مما أدى إلى إفقار هائل وتضخم هائل.

في هذا السياق، لم يتم في أيّ وقت من الأوقات، وحتى اليوم، الإطاحة بمركز السلطة في مصر، بل على العكس تمامًا. وفي حالة سوريا كما شرحنا أعلاه، لم تعد هياكل القوى المرتبطة بالقصر الجمهوري موجودة، وبالتالي فإن المقارنات مع السيناريو المصري ليست مفيدة.

ومع ذلك، فإنّ أفراد النظام السابق، وخاصة من الميليشيات والأجهزة الأمنية والفرقة الرابعة، يمكن أن يمثلوا تهديدًا لاستقرار سوريا. ولديهم مصلحة في تغذية الازدهار الطائفي، وخاصة في المناطق الساحلية، حيث يتمركزون إلى حدٍّ كبير منذ سقوط نظام الأسد، وإلى حدٍّ أقل في حمص. وقد انعكس هذا في الهجمات ضدّ قوات هيئة تحرير الشام بالقرب من مدينة طرطوس الساحلية، والتي أسفرت عن مقتل 14 منهم وإصابة 10 آخرين، في 25 ديسمبر/كانون الأول. ورداً على ذلك، شنّت قوات الهيئة غارات "لملاحقة بقايا ميليشيات الأسد". وعلى نحو مماثل، لدى إيران مصلحة أيضًا في خلق حالة من عدم الاستقرار من خلال التوتّرات الطائفية باستخدام أفراد مرتبطين بشبكاتها في البلاد.

وقد تمّ بالفعل حشد بعض بقايا النظام السابق في أحدث التحرّكات في حمص والمناطق الساحلية في أعقاب مقطع فيديو تمّ تداوله على شبكات التواصل الاجتماعي يظهر تخريب مزار علوي في حلب، والذي حدث قبل أسابيع قليلة من نشره. ولكن لا ينبغي لنا أن ننظر إلى هذه المظاهرات باعتبارها مجرّد مظاهرات تحركها إيران أو بقايا النظام القديم من الخارج، فهناك مخاوف بين قطاعات من السكان العلويين من الجهة الحاكمة الجديدة، هيئة تحرير الشام، ودعوات للانتقام بعد سقوط نظام الأسد.

إنّ دورة سياسية جديدة تسمح بالمشاركة الواسعة من أسفل الطبقات الشعبية في اتخاذ القرار ومعالجة مختلف القضايا الديمقراطية والاجتماعية، وحدها القادرة على استعادة الاستقرار على المدى الطويل.

ولهذا السبب، لا بدّ من الانتباه إلى الزيادة في الحوادث، التي كانت حتى الآن معزولة أو على الأقل غير منهجية، ذات طبيعة طائفية منذ سقوط النظام، وخاصة عمليات الإعدام والاغتيال في ديناميكية الانتقام. وكانت هذه هي الحال ضدّ الأفراد الذين تورّطوا في جرائم مع النظام السابق، حيث تختلط الأسباب السياسية والطائفية للانتقام في كثير من الأحيان، وخاصة ضدّ العلويين. لقد مزّقت جرائم نظام الأسد المجتمع السوري، مخلّفة وراءها إرثًا من الفظائع والمعاناة على نطاق واسع. وفي هذا السياق، من الضروري وضع إجراءات منسّقة للاستجابة للاحتياجات الفورية للضحايا وإنشاء آليات لإطار شامل وطويل الأمد للعدالة الانتقالية. إنّ معالجة إرث الوحشية المنهجية لنظام الأسد أمر ضروري لخلق مسار مستدام وسلمي. يمكن للعدالة الانتقالية أن تلعب دورًا حاسمًا ضدّ أعمال الانتقام وزيادة التوترات الطائفية.

وبالإضافة إلى عملية تشجيع العدالة الانتقالية ومعاقبة جميع الأفراد المتورطين في جرائم الحرب، سواء من النظام القديم أو من جماعات المعارضة المسلحة الأخرى، فإنّ دورة سياسية جديدة تسمح بالمشاركة الواسعة من أسفل الطبقات الشعبية في اتخاذ القرار ومعالجة مختلف القضايا الديمقراطية والاجتماعية، وحدها القادرة على استعادة الاستقرار على المدى الطويل.

خاتمة الجزء الأوّل

إنّ بقايا النظام القديم، وخاصّة من الأجهزة الأمنية والعسكرية، تشكّل تهديداً لاستقرار سوريا على المدى القريب كما ذكرنا آنفاً. ولابدّ من إيقافهم ومحاكمتهم على جرائمهم.

ومع ذلك، ورغم عدم التقليل من شأن المكافآت التي تمثلها هذه المجموعات من الأفراد، فإنّها لا تشكل تهديداً في شكل العودة إلى السلطة وإعادة فرض الدكتاتورية. فهي لا تملك الوسائل السياسية والعسكرية والاقتصادية لتحقيق مثل هذا الهدف. ومن المهم أن نفهم طبيعة نظام الأسد والفرق بينه وبين السيناريو المصري. ففي حين أنّ النظام القديم في سوريا ميّت هيكليًا، وهو ما ينعكس في اختفاء القصر الجمهوري وشبكاته، فإنّ مراكز القوة داخل القيادة العسكرية العليا في مصر ظلّت في السلطة، على الرغم من سقوط مبارك في عام 2011 وحكم مرسي بين يوليو/تموز 2012 ويوليو/تموز 2013.

ومن المهم أن نفهم طبيعة نظام الأسد والفرق بينه وبين السيناريو المصري. ففي حين أنّ النظام القديم في سوريا ميّت هيكليًا، وهو ما ينعكس في اختفاء القصر الجمهوري وشبكاته، فإنّ مراكز القوة داخل القيادة العسكرية العليا في مصر ظلّت في السلطة، على الرغم من سقوط مبارك في عام 2011 وحكم مرسي بين يوليو/تموز 2012 ويوليو/تموز 2013.

إنّ فهم هذه الديناميكيات مهم أيضاً للتحذير من اتهامات الفلول التي يقودها بعض المعلّقين ووسائل الإعلام القريبة من الجهة الحاكمة الجديدة، هيئة تحرير الشام، ضدّ أيّ شخص ينتقدها أو يتظاهر ضدها. وهذه وسيلة لتشويه سمعة الأفراد والجماعات ومطالبهم السياسية. وعلى نحو مماثل، أثيرت اتهامات الفلول ضدّ مظاهرة من أجل دولة ديمقراطية وعلمانية في دمشق قبل بضعة أسابيع، لأنّ العديد من الأفراد اتُهموا، في بعض الأحيان ظلمًا، بأنهم من أنصار النظام القديم. وبصرف النظر عن وجود العديد من الأفراد المؤيدين المحتملين للنظام السابق بين آلاف المتظاهرين وأكثر، فإنّ الهدف الحقيقي كان تشويه سمعة المظاهرة والمطالب المرتبطة بها. فضلًا عن ذلك، هناك استعداد لوصف بعض القضايا مثل العلمانية والاشتراكية بأنّها مرتبطة بالنظام القديم و/أو مستوردة من الغرب لتشويه سمعتهم.

في الواقع، يرتبط هذا بالجزء الثاني من المقال. مرّة أخرى، إذا كانت مجموعات من أفراد النظام القديم تشكّل تهديدًا لاستقرار البلاد، فإن التهديد الكبير لسوريا الديمقراطية والتقدّمية يكمن في تعزيز سلطة هيئة تحرير الشام وفروعها من الجيش الوطني السوري، بدعم من تركيا وقطر.

2- تعزيز حكم هيئة تحرير الشام، أو تهديد لسوريا الديمقراطية والتقدمية المستقبلية

لقد جلب الدور القيادي لهيئة تحرير الشام في الهجوم العسكري الذي أدى إلى سقوط الأسد شعبية هائلة للمنظّمة وزعيمها أحمد الشرع. لقد استفادوا منذ ذلك الحين من شكل من أشكال الشرعية "الثورية"، والتي يتم استخدامها لتعزيز حكمهم سياسيًا وعسكريًا في المناطق الخاضعة لسيطرة الهيئة.

ورغم أنّ الهيئة تطوّرت سياسيًا وأيديولوجيًا، وتخلّت عن أهدافها الجهادية العابرة للحدود الوطنية لتصبح طرفًا فاعلًا يسعى إلى العمل ضمن الإطار الوطني السوري، فإنّ هذا لا يعني أنّها أصبحت طرفًا فاعلًا يدعم المجتمع الديمقراطي ويعزّز المساواة والعدالة الاجتماعية، بل على العكس تمامًا.

ومن هذا المنظور، من المهم تحليل الكيفية التي تسعى بها هيئة تحرير الشام إلى تعزيز سلطتها على المجتمع وإقامة نظام استبدادي جديد.

هيئة تحرير الشام، تعزيز السلطة

بعد سقوط النظام، التقى أحمد الشرع في البداية برئيس الوزراء السابق محمد الجلالي لتنسيق انتقال السلطة، قبل أن يعيّن محمد البشير رئيسًا للحكومة الانتقالية المسؤولة عن إدارة الشؤون الجارية. وكان البشير قد ترأس في السابق حكومة الإنقاذ، وسيظل في منصبه على أيّ حال حتى الأوّل من مارس/آذار 2025. وتتكون الحكومة الجديدة من أفراد من صفوف هيئة تحرير الشام أو مقرّبين منها فقط.

هل تغيّر الجولاني وجماعته حقاً؟

17 كانون الأول 2024
ثمّة قلق وترقب يصاحب الفرح الذي يعم الشارع السوري بسقوط نظام الأسد، خاصة وأنّ تصريحات أبي محمد الجولاني، المعروف الآن باسمه الحقيقي أحمد الشرع، تتسم بالغموض فيما يتعلق بنظام الحكم...

عيّن أحمد الشرع وزراء جدد وشخصيات أمنية ومحافظين لمختلف المناطق التابعة للهيئة أو الجماعات المسلحة التابعة للجيش الوطني السوري. على سبيل المثال، تمّ تعيين أنس خطاب (المعروف أيضاً باسم أبو أحمد حدود) رئيساً لأجهزة الاستخبارات. وهو عضو مؤسّس في جبهة النصرة وكان المرجع الأمني ​​الأوّل للجماعة الجهادية. واعتباراً من عام 2017، كان يحكم الشؤون الداخلية والسياسة الأمنية للهيئة. وبعد تعيينه، أعلن عن إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية تحت سلطته.

وبالمثل، فإنّ إنشاء الجيش السوري الجديد يتم على يد أحمد الشرع وحلفائه في السلطة. وقد عيّنوا قادة هيئة تحرير الشام من الضباط الأعلى رتبة، مثل وزير الدفاع الجديد والقائد الأعلى لهيئة تحرير الشام منذ فترة طويلة، مرهف أبو قصرة، الذي تمّ تعيينه جنرالاً.

وفي عملية إعادة تشكيل الجيش السوري، تسعى حكومة هيئة تحرير الشام أيضًا إلى تعزيز سيطرتها وهيمنتها على الجماعات المسلحة المتشرذمة في البلاد من خلال تبرير إجراءاتها وهذه العملية بمنع أيّ طرف آخر من حمل الأسلحة خارج سيطرة الدولة، وأنّ وزارتي الدفاع والداخلية السوريتين هما الطرفان الوحيدان المسموح لهما بحيازة الأسلحة. ورغم أنّ توحيد كلّ الجماعات المسلحة في جيش سوري جديد لا يلقى معارضة في حدِّ ذاته، إلا أنّ هناك معارضة من قطاعات كبيرة من المجتمع الدرزي في السويداء والأكراد في شمال شرق البلاد، دون وجود بعض الضمانات، مثل اللامركزية وعملية انتقال ديمقراطية حقيقية.

وفي إحدى مقابلاته الأخيرة، صرّح أحمد الشرع أيضاً أنّ تنظيم الانتخابات المقبلة قد يستغرق أربع سنوات، وصياغة دستور جديد قد يستغرق ثلاث سنوات. وفي الوقت نفسه، تمّ الحديث عن تنظيم "مؤتمر الحوار الوطني السوري" في 4 و5 يناير/كانون الثاني 2025، والذي من المفترض سيجمع 1200 شخصية ,ولكن تم تأجيله في النهاية إلى موعد غير معروف حتى الآن. ولكن لم يتم تقديم أيّ معلومات عن كيفية اختيار هذه الشخصيات، باستثناء أنّ كلّ محافظة ستمثلها ما بين 70 و100 شخصية، مع الأخذ بعين الاعتبار جميع الشرائح من مختلف الطبقات الاجتماعية والعلمية مع ممثلين عن الشباب والنساء.

وأطلق محامون سوريون مؤخرًا عريضة للمطالبة بإجراء انتخابات نقابية حرّة إثر تعيين السلطات الجديدة مجلس نقابة غير منتخب.

وبرغم أنّ هيئة تحرير الشام باتت الفاعل العسكري والسياسي الرئيس في سوريا اليوم، لا تزال تُعتبر على نطاق واسع على الصعيد الدولي منظمة إرهابية. وبرغم التغيّر الحاصل في تعامل العواصم الإقليمية والدولية، قد يستغرق رفع العقوبات بعض الوقت، إذ أنّ الحكومات تطالب بضمانات من الماسك الجديد بالسلطة.

تسعى هيئة تحرير الشام إلى تعزيز قوّتها مع تنفيذ انتقال متحكّم فيه من خلال السعي أيضًا إلى تهدئة المخاوف الأجنبية، وإقامة اتصالات مع القوى الإقليمية والدولية، والاعتراف بها كقوّة شرعية يمكن التفاوض معها. تتمثل إحدى العقبات أمام هذا التطبيع في حقيقة أنّ الهيئة لا تزال تعتبر منظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة وتركيا والأمم المتحدة، بينما لا تزال سوريا خاضعة للعقوبات. علاوة على ذلك، كجزء من قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2025، وقع الرئيس الأمريكي جو بايدن في 23 كانون الأول /ديسمبر على تمديد تطبيق قانون قيصر حتى 31 كانون الأول/ديسمبر 2029، على الرغم من سقوط نظام الأسد. ينصّ هذا النص، الذي وقع عليه الرئيس السابق دونالد ترامب قبل خمس سنوات، على فرض عقوبات على جميع الجهات الفاعلة (بما في ذلك الأجانب) التي تساعد النظام السوري في الحصول على الموارد أو التقنيات التي تعزّز أنشطته العسكرية أو تساهم في إعادة إعمار سوريا.

ولكن العناصر المؤيدة لتغيير توجّهات العواصم الإقليمية والدولية حيال هيئة تحرير الشام أصبحت واضحة بالفعل. ومن الواضح أنّ أنقرة هي الداعم السياسي والعسكري الرئيسي لسوريا الجديدة، في حين ستلعب قطر دورًا رئيسيًا كركيزة اقتصادية. وفي الوقت نفسه، يعمل الشرع على بناء علاقات مع دول عربية أخرى، إقليمية ودولية. على سبيل المثال، التقى زعيم هيئة تحرير الشام بوفد سعودي في دمشق وأشاد بخطط التنمية الطموحة للمملكة، في إشارة إلى مشروع رؤية 2030، وأعرب عن تفاؤله بشأن التعاون المستقبلي بين دمشق والرياض. وبالنسبة للمملكة، وغيرها من دول الخليج، فإن تطوّر العلاقات مع القادة السوريين الجدد سيعتمد على قدرتهم على معالجة مخاوفهم بشأن الطبيعة السياسية للبلاد ومنع سوريا من أن تصبح مصدرًا آخر لعدم الاستقرار الإقليمي. و زار وفد سوري المملكة، يضم وزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس أجهزة المخابرات.

وحتى على مستوى القوى الغربية، فإنّ التغيير في الاتجاه ملحوظ، بما في ذلك من جانب الولايات المتحدة. فقد قالت رئيسة قسم الشرق الأوسط في الدبلوماسية الأميركية، باربرا ليف، بعد لقائها بأحمد الشرع في دمشق في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2024، إنهما عقدا "اجتماعًا جيدًا ومثمرًا ومفصّلًا للغاية" حول مستقبل الانتقال السياسي في هذا البلد. كما وصفت أحمد الشرع بأنه "رجل عملي"، وأعلنت أنّ واشنطن سحبت مكافأة العشرة ملايين دولار التي كانت مقرّرة على رأسه منذ عام 2013 لدوره في جبهة النصرة.

وقد تؤدي التصريحات الأخيرة التي أدلى بها الشرع حول حل هيئة تحرير الشام أيضا إلى حلّ بعض هذه المشاكل.

ولكن إسرائيل لا تزال تشكل تهديدًا لاستقرار سوريا، وهي لا ترغب بشكل خاص في رؤية عملية التحوّل الديمقراطي. فبعد الإطاحة بنظام الأسد، الذي ضمن لإسرائيل الاستقرار على حدودها، وسّع جيش الاحتلال الإسرائيلي احتلاله للأراضي السورية بغزو الجزء السوري من جبل الشيخ في مرتفعات الجولان ونفذ أكثر من 480 غارة على بطاريات مضادة للطائرات ومطارات عسكرية ومواقع إنتاج أسلحة وطائرات مقاتلة وصواريخ. كما ضربت السفن الصاروخية المنشآت البحرية السورية في ميناء البيضا وميناء اللاذقية حيث كانت 15 سفينة بحرية سورية راسية. وتهدف هذه الغارات إلى تدمير القدرات العسكرية السورية لمنع استخدامها ضدّ إسرائيل. كما أنها تزرع رسالة مفادها أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي يمكن أن يتسبّب في عدم الاستقرار السياسي في أيّ وقت، إذا تبنت الحكومة المستقبلية موقفًا عدائيًا لا يخدم مصالح إسرائيل.

 النيو ليبرالية الإسلامية

الربيع العربي، العلمانيّة والإسلام (السياسي) والديمقراطيّة والمسألة الكرديّة

25 كانون الثاني 2022
أعلنت كلّ من منظمة "تيار وطن" ومجموعة "نواة سورية" اندماجهما، وأصدرتا بيانًا تضمّن الرؤية السياسيّة المشتركة لهما. وقد أثارت بعض النقاط الواردة في الرؤية المشتركة، انتقادات قويّة دفعت المكتب الإعلامي...

يبدو مستقبل سوريا بعد سقوط  الأسد مفعمًا بالتحديات، وبخاصة ما يتعلّق بتقويم اقتصادها وإعادة إعمارها. قُدِّر الناتج المحلي الإجمالي لسوريا، في العام 2023، بـ 17.5 مليار دولار أمريكي، مقابل 60 مليار دولار أمريكي قبل العام 2011، حسب تقديرات الحكومة السابقة. من جانبه، قدّر البنك العالمي في مايو/ أيار العام 2024، في تقريره نصف السنوي عن الوضع الاقتصادي في سوريا، الناتج المحلي الإجمالي للبلد في العام 2023 بنحو 6.2 مليار دولار، استنادًا إلى بيانات شبكة NTL ،(Night-time Ligh)، هذا النظام الذي يتتبع النشاط الاقتصادي باستخدام صور الأقمار الصناعية للأضواء الليلية.

لا تزال العقوبات المفروضة على سوريا عقبة أمام تقويم اقتصاد البلد، وأمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المستقبل القريب. وبرغم أنّ هيئة تحرير الشام باتت الفاعل العسكري والسياسي الرئيس في سوريا اليوم، لا تزال تُعتبر على نطاق واسع على الصعيد الدولي منظمة إرهابية. وبرغم التغيّر الحاصل في تعامل العواصم الإقليمية والدولية، قد يستغرق رفع العقوبات بعض الوقت، إذ أنّ الحكومات تطالب بضمانات من الماسك الجديد بالسلطة.

إن عدم وجود وضع اقتصادي آمن ومستقر في سوريا، يشكل عقبة في وجه تحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي على حدٍّ سواء. فقد ظلّ الاستثمار الأجنبي المباشر محدودًا، ومركّزًا بنحو أساسي على إيران وروسيا منذ العام 2011. قد تكون دول الخليج مهتمة بالاستثمار في البلد لإنماء نفوذها، لكن دور هيئة تحرير الشام الراهن قد يكون عائقًا، حيث تنظر إليها دول عديدة بالمنطقة نظرة سلبية.

فعلى سبيل المثال، صرح المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي، أنور قرقاش، بأن "طبيعة القوى الجديدة في السلطة وعلاقاتها بالإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة مؤشرات باعثة على قدر من القلق".

ويمثّل عدم استقرار الليرة السورية مشكلة كبيرة أيضًا. ففي حين ارتفعت قيمتها في السوق السوداء بشكل حاد في أعقاب سقوط النظام قبل أن تستقر عند 15000 ليرة للدولار الواحد، لا يزال الطريق طويلًا. فعدم استقرار العملة السورية يُقوّض جاذبيتها من حيث عوائد الاستثمار في البلد وفوائده المحتملة على المدى القصير والمتوسط.

وفضلًا عن ذلك، يحوم عدم يقين في المناطق الشمالية الغربية المستعملة لليرة التركية منذ عدة سنوات لتحقيق استقرار الأسواق المتضرّرة بسبب انخفاض قيمة الليرة السورية الحاد. وقد تكون إعادة استخدام الليرة السورية عملة رئيسيةً في هذه المناطق إشكالية إن لم يتم إرساء الاستقرار.

تضرّرت جدًا، في الآن ذاته، البنية التحتية وشبكات النقل. كما يشكل ارتفاع تكلفة الإنتاج، ونقص المنتجات الأساسية وموارد الطاقة (خاصة الوقود والكهرباء) مشاكل إضافية. وتعاني سوريا أيضًا من نقص في العمالة الماهرة، إذ لا تعد عودة أصحاب المهارات مؤكّدة بعدُ.

وحتى القطاع الخاص، المكوَّن بشكل أساسي من مؤسّسات صغيرة ومتوسطة الحجم ذات قدرة محدودة، بحاجة ماسة إلى التحديث وإعادة بناء بعد أكثر من 13 عامًا من الحرب.

وبنحو مواز، تظلّ موارد الدولة محدودة للغاية، ما يقلّص أيضًا نطاق الاستثمار في الاقتصاد، لا سيما في القطاعات الإنتاجية.

وفضلًا عن ذلك، يعيش 90% من السكان تحت خط الفقر، ما يجعل قدرتهم الشرائية ضعيفة جدًا، ما يؤثّر سلبًا على الاستهلاك الداخلي. هذا لأنّ الناس في سوريا لا يحصلون، رغم توافر فرص العمل، على أجور كافية لتلبية حاجاتهم اليومية. ويعتمد السوريون، في هذا السياق، بشكل متزايد على التحويلات المالية لمواجهة ضرورات الحياة.

وقد أعلن بعض المسؤولين في الحكومة الجديدة، مثل أحمد الشرع، أنهم سيسعون إلى زيادة أجور العمال بنسبة 400% في الأيام المقبلة، ليصل الحدّ الأدنى للأجور إلى 1,235,360 ليرة (حوالي 75 دولارًا). وبرغم أنّ هذه خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أنها لن تكون كافية لتغطية حاجات العمال في سياق ارتفاع مستمر لتكاليف المعيشة. فقد، قدّرت وسيلة الإعلام قاسيون في أكتوبر/ تشرين أوّل 2024 متوسّط تكاليف معيشة أسرة سورية من خمسة أفراد في دمشق بـ 13.6 مليون ليرة سورية (الحد الأدنى للدخل 8.5 مليون ليرة) (ما يعادل 1077 دولار و673 دولاراً على التوالي).

وعلاوة على هذا كلّه، لا يزال نفوذ القوى الأجنبية في سوريا مصدر تهديد وعدم استقرار، كما دلّ الغزو الإسرائيلي الأخير والتدمير المتواصل للبنية التحتية العسكرية، فضلًا عن الهجمات والتهديدات المستمرة من تركيا في شمال شرق سوريا، لا سيما في المناطق التي تقطنها أغلبية كردية.

تتمثل إحدى المشاكل الرئيسية، في خضم ما تغرق فيه سوريا من انعدام يقين، في غياب أيّ برنامج اقتصادي وسياسي بديل لدى معظم القوى السياسية الرئيسية، ومنها هيئة تحرير الشام.

تتمثل إحدى المشاكل الرئيسية، في خضم ما تغرق فيه سوريا من انعدام يقين، في غياب أيّ برنامج اقتصادي وسياسي بديل لدى معظم القوى السياسية الرئيسية، ومنها هيئة تحرير الشام.

ليس لدى الهيئة بديل عن النظام الاقتصادي النيو ليبرالي؛ وهي تسعى، وفق ديناميكيات رأسمالية المحاسيب وأشكالها المميّزة للنظام القديم، إلى تطوير هذه الممارسات نفسها ضمن شبكات الأعمال (المكوّنة من فاعلين قدامى وجدد). في السنوات السابقة، شجّعت حكومة الإنقاذ السورية، وهي الإدارة المدنية التابعة لهيئة تحرير الشام في إدلب، على تطوير القطاع الخاص، مفضّلةً العلاقات التجارية مع المقرّبين من هيئة تحرير الشام ومن الجولاني. وفي الآن ذاته، تمّت إتاحة معظم الخدمات الاجتماعية، وخاصة الصحة والتعليم، من قبل منظمات غير حكومية محلية أو دولية.

صرّح رئيس غرفة تجارة دمشق، باسل حموي، أنّ الحكومة السورية الجديدة التي عيّنتها هيئة تحرير الشام أبلغت رؤساء الشركات بعد سقوط النظام، أنها ستعتمد نظام السوق الحرة ودمج البلد في الاقتصاد العالمي. وكان الحموي قد "انتُخب" لمنصبه الحالي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، أي قبل أسابيع قليلة من سقوط الأسد. وهو أيضًا رئيس اتحاد غرف التجارة السورية.

كما عقد الشرع ووزير الاقتصاد لقاءات عديدة مع ممثلي هذه الغرف الاقتصادية ورجال الأعمال من مختلف المناطق لشرح رؤاهم الاقتصادية والاستماع إلى شكاواهم من أجل تلبية مصالحهم، ولا تزال الأغلبية العظمى من ممثلي الغرف الاقتصادية المختلفة في النظام القديم يشغلون مناصبهم.

وقد أكد وزير الاقتصاد الجديد، المنتمي للهيئة، هذا التوجه النيو ليبرالي بعد أيام قليلة، معلنًا "سننتقل من اقتصاد اشتراكي... إلى اقتصاد السوق الحر الذي يحترم الشريعة الإسلامية". وبصرف النظر عن مدى صحة اعتبار النظام السابق اشتراكيًا، أظهر الوزير بوضوح توجهه الطبقي بإصراره على أن "القطاع الخاص... سيكون شريكًا فعالًا للإسهام في بناء الاقتصاد السوري." ولم يأتِ الوزير على ذكر مكان الشغيلة والفلاحين وموظفي الدولة والنقابات العمالية والجمعيات المهنية في اقتصاد البلد المستقبلي.

وفي نهاية المطاف، سيؤدي بلا شك هذا النظام الاقتصادي النيو ليبرالي، المقترن باستبداد هيئة تحرير الشام، إلى مزيد من التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية وإلى إفقار مستمر للشعب السوري، الأمر الذي كان أحد أسباب انتفاضة 2011 الرئيسية.

تتوقف عملية إعادة البناء على القوى الاجتماعية والسياسية التي ستلعب دورًا في تشكيل مستقبل البلد، وكذا على توازن القوى بينها.

في هذا السياق، سيكون بناء منظمات نقابية مستقلة وجماهيرية أمرًا ضروريًا لتحسين ظروف معيشة وعمل السكان، وبشكل عام النضال من أجل الحقوق الديمقراطية والنظام الاقتصادي القائم على العدالة الاجتماعية والمساواة.

أيديولوجيا رجعية

وعلى نحو مماثل، أصدرت هيئة تحرير الشام عدّة تصريحات وقرارات تؤكّد أيديولوجيتها الرجعية.

وعلى نحو مماثل، صدرت تصريحات رجعية عن مسؤولين في هيئة تحرير الشام بصدد دور النساء في المجتمع، لا سيما قدرتهن على العمل في قطاعات معينة. فعلى سبيل المثال، قال عضو الهيئة، والمتحدث في الشأن السياسي في قيادة العمليات العسكرية، عبيدة أرناؤوط، في مقابلة أجريت معه في 16 ديسمبر/كانون الأول "يجب أن تطابق مسؤوليات المرأة ما تستطيع انجازه. فعلى سبيل المثال، إذا قلنا أن امرأة يجب أن تكون وزيرة للدفاع، فهل يتوافق ذلك مع طبيعتها وتكوينها البيولوجي؟ بلا شك لا".

من أبو صقار إلى جمعية تعدد الزوجات، ورطة المعارضة السوريّة الأسديّة

02 تشرين الثاني 2021
في حين يبدو البعد الزماني بين حادثة أبو صقّار، وحادثة جمعيّة "تعدّد الزوجات" كبيرًا، لا يبدو أنّ التأثير بين الحادثتين متباعدٌ؛ الأولى ضربت الحراك السلمي وما تبقى وقتها من جيش...

وبعد أيام قليلة، ردّت وزيرة شؤون المرأة المعينة حديثًا في سوريا والمرأة الوحيدة حتى الآن في الحكومة الانتقالية السورية، عائشة الدبس، على سؤال حول "المساحة" التي ستُمنح للمنظمات النسوية في البلاد، قائلة: "إذا كانت تصرفات مثل هذه المنظمات "تدعم النموذج الذي سنبنيه، فسيكون موضع ترحيب"، مضيفة "لن أفتح الطريق لمن لا يتفق مع تفكيري". وقالت: "لماذا نعتمد النموذج العلماني أو المدني؟ نريد تطبيق النموذج المناسب للمجتمع السوري، والمرأة السورية ستحقق ذلك" وواصلت المقابلة في تقديم رؤية رجعية لدور المرأة في المجتمع من خلال حثّ النساء على "عدم تجاوز الأولويات التي وهبها الله لهن" ومعرفة "دورهن التربوي في الأسرة".

وبالإضافة إلى ذلك، قامت وزارة التربية بإجراء تغييرات على المناهج الدراسية نحو رؤية إسلامية أكثر محافظة، بما في ذلك إزالة نظرية التطوّر من المناهج العلمية، ويتم الإشارة إلى اليهود والمسيحيين الآن على أنهم "الضالون" أو تم استبدال الإشارة إلى "للحفاظ على تراب الوطن" لتكون بـ "ضحوا في سبيل الله".

وبعد العديد من الانتقادات التي وجهت لهذه التغييرات، أعلن وزير التربية في اليوم التالي أن "المناهج الدراسية في جميع مدارس سوريا ما زالت على وضعها حتى تُشَكِّل لجان اختصاصية لمراجعة المناهج وتدقيقها، وقد وجهنا فقط بحذف ما يتعلق بما يمجد نظام الأسد البائد واعتمدنا صور علم الثورة السورية بدل علم النظام البائد في جميع الكتب المدرسية...". وليس من الواضح إن كان ذلك يعني إلغاء بعض التغييرات التي تم إجراؤها.

ومن ثم، فإنّ الإدلاء بتصريحات غير واضحة بشأن التسامح مع الأقليات الدينية أو العرقية أو احترام حقوق المرأة ليس كاف. فالقضية الأساسية هنا هي الاعتراف بحقوقهم كمواطنين متساوين يشاركون في تقرير مستقبل البلاد. وعلى نحو أكثر عمومية، أعلن مسؤولو هيئة تحرير الشام بوضوح تفضيلهم للحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية.

لا حل للقضية الكردية

من غير المرجح أن يكون لدى هيئة تحرير الشام أيّ استعداد لدعم مطالب وتوجّهات قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، وخاصة فيما يتعلّق بالحقوق القومية الكردية. فضلًا عن ذلك، فإنّ المناطق الشمالية الشرقية استراتيجية لأنها غنية بالموارد الطبيعية والنفط والزراعة.

وفيما يتعلّق بالقضيّة القومية الكردية في سوريا، فإنّ هيئة تحرير الشام لا تختلف عن المعارضة السورية في المنفى التي تهيمن عليها جهات عربية معادية للحقوق القومية الكردية، ممثلة أولًا بالمجلس الوطني السوري ثم بالائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة.

وهذا هو الحال بشكل خاص، حيث أصبحت تركيا الفاعل الإقليمي الأكثر أهمية في البلاد، بعد سقوط نظام الأسد. فإلى جانب الدعم المستمر لوكيلها الجيش الوطني السوري، فإنّ دعم أنقرة لهيئة تحرير الشام يهدف إلى تعزيز سلطتها على سوريا من خلال مساعدة المجموعة في المرحلة الانتقالية. والآن لدى تركيا ثلاثة أهداف رئيسية في سوريا. إلى جانب تشجيع أو تنفيذ العودة القسرية للاجئين السوريين في تركيا إلى سوريا والاستفادة من الفرص الاقتصادية المستقبلية في سوريا، وخاصة في مرحلة إعادة الإعمار، فإنّ الهدف الرئيسي لتركيا في سوريا هو حرمان الأكراد من تطلّعاتهم للحكم الذاتي وبشكل أكثر تحديدًا تقويض الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي يقودها الأكراد، وهو ما من شأنه أن يشكّل سابقة لتقرير المصير الكردي في تركيا، وهو ما يشكّل تهديدًا للنظام الموجود في تركيا حاليًا. في الواقع، أعلن وزير الخارجية التركي حقان فيدان خلال مؤتمر صحفي مشترك مع أحمد الشرع أنّ وحدة أراضي سوريا "غير قابلة للتفاوض" وأن حزب العمال الكردستاني "ليس له مكان" في البلاد. وبعد أيّام قليلة، أعلن الرئيس أردوغان أنّ قوات سوريا الديمقراطية "إما أن تسلم أسلحتها، أو سيتم دفنها مع أسلحتها في الأراضي السورية". كما استهدف الجيش التركي باستمرار المدنيين والبنى التحتية الحيوية في شمال شرق سوريا بحملات قصف منذ نهاية عام 2023.

وبينما لم تشارك الهيئة خلال الأسابيع القليلة الماضية في أيّ مواجهات عسكرية ضدّ قوات سوريا الديمقراطية، لم تظهر المنظمة أي علامة على معارضتها للهجمات التي تقودها تركيا على قوات سوريا الديمقراطية، بل على العكس تمامًا. فقد صرّح أحد كبار قادة هيئة تحرير الشام ووزير الدفاع المعيّن حديثا للحكومة الانتقالية، مرهف أبو قصرة، على سبيل المثال بأن "سوريا لن تنقسم ولن تكون هناك فيدرالية إن شاء الله. إن شاء الله، ستكون كل هذه المناطق تحت سلطة سوريا".

علينا أن نواجه الحقيقة الصعبة المتمثّلة في وجود غياب صارخ لكتلة ديمقراطية تقدمية مستقلة قادرة على تنظيم ومعارضة النظام السوري والقوى الأصولية الإسلامية بشكل واضح. وسوف يستغرق بناء هذه الكتلة وقتًا. سيتعيّن عليها الجمع بين النضال ضدّ الاستبداد والاستغلال وجميع أشكال الاضطهاد. وسوف تحتاج إلى رفع مطالب الديمقراطية والمساواة وتقرير المصير الكردي وتحرير المرأة من أجل بناء التضامن بين المستغَلين والمضطهَدين في البلاد.‏

وعلاوة على ذلك، قال أحمد الشرع لصحيفة تركية إن سوريا ستطوّر علاقة استراتيجية مع تركيا في المستقبل، وأضاف: "نحن لا نقبل أن تهدد الأراضي السورية تركيا أو أماكن أخرى وتزعزع استقرارها". كما صرّح بأنّ جميع الأسلحة في البلاد يجب أن تخضع لسيطرة الدولة، بما في ذلك تلك الموجودة في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية. هذا دون أن ننسى أنه في الماضي، دعمت هيئة تحرير الشام مرارًا وتكرارًا الهجمات التركية ضدّ قوات سوريا الديمقراطية.

وهذا على الرغم من تصريحات عدّة أدلى بها مسؤولون في قوات سوريا الديمقراطية للسعي إلى التفاوض مع هيئة تحرير الشام. فقد أعلن قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي أن ّمجموعته تؤيد شكلًا من أشكال اللامركزية والإدارة الذاتية لمنطقتهم، ولكن ليس الفيدرالية، مع انفتاحها على أن تكون جزءًا من جيش وطني سوري مستقبلي، عندما يتم تشكيله. بالإضافة إلى ذلك، أعلن أن قوات سوريا الديمقراطية ليست امتداداً لحزب العمال الكردستاني وهي مستعدة لطرد المقاتلين غير السوريين فور التوصل إلى هدنة.

وكان الشرع قد صرّح في الأيّام الماضية أنهم يتفاوضون مع قوات سوريا الديمقراطية لحل الأزمة في شمال شرقي سوريا وأنّ وزارة الدفاع السورية ستدمج القوات الكردية في صفوفها، لكن هذا الأمر يبقى غير واضح، لتبقى الأسئلة عالقة، كيف وتحت أيّ شروط.

سباق مع الزمن للدفاع عن مساحة ديمقراطية

لقد تعرّضت الغالبية العظمى من المنظمات والقوى الاجتماعية الديمقراطية التي كانت سبباً في اندلاع انتفاضة 2011 للقمع الدموي. أولًا، وقبل كلّ شيء من قبل نظام الأسد، ولكن أيضًا من قبل مختلف المنظمات الأصولية الإسلامية المسلّحة. وكان الأمر نفسه ينطبق على المؤسسات أو الكيانات السياسية البديلة المحلية التي أنشأها المتظاهرون، مثل التنسيقيات والمجالس المحلية التي قدّمت الخدمات للسكان المحليين. ومع ذلك، هناك بعض المجموعات والشبكات المدنية، التي وعلى الرغم من ارتباطها في الغالب بنمط من المنظمات غير الحكومية في جميع أنحاء الأراضي السورية، وخاصة في شمال غرب سوريا، إلا أنها كانت تتمتع بديناميكيات مختلفة عن تلك التي كانت في بداية الانتفاضة.

وفي الوقت نفسه، تطوّرت تجارب نضالية أخرى، وإن كانت أقل كثافة. على سبيل المثال، استمرت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات في محافظة السويداء، التي يسكنها في الغالب الأقلية الدرزية، منذ منتصف أغسطس/آب 2023. وعلى نطاق أوسع، أكدت حركة الاحتجاج باستمرار على أهمية الوحدة السورية، والإفراج عن السجناء السياسيين، والعدالة الاجتماعية، مع المطالبة بتنفيذ القرار الأممي رقم 2254، الذي يدعو إلى انتقال سياسي. في الواقع، كانت الشبكات والمجموعات المحلية هي التي اختارت مؤخرًا الناشطة المخضرمة محسنة المحيثاوي لتكون محافظًا لمحافظة السويداء.

كما شهدت مدن ومناطق أخرى خاضعة لسيطرة النظام السوري، ولا سيما محافظة درعا وبدرجة أقل ضواحي دمشق، احتجاجات عرضية، وإن كانت على نطاق أصغر كثيرًا.

وقد أرست هذه الأشكال من المعارضة الأساس جزئيًا لانتفاضتهم في الأيام التي سبقت سقوط نظام الأسد.

وبعد سقوط النظام، تزايدت المبادرات المحلية لإنشاء أشكال من تنسيقيات أو شبكات محلية من الناشطين في مختلف المناطق لتشجيع التنظيم الذاتي والمشاركة من الأسفل وضمان السلم الأهلي. وقد حدثت بالفعل مظاهرات، ولا سيما للتنديد بتصريحات رجعية معيّنة صدرت ضدّ المرأة.

علينا أن نواجه الحقيقة الصعبة المتمثّلة في وجود غياب صارخ لكتلة ديمقراطية تقدمية مستقلة قادرة على تنظيم ومعارضة النظام السوري والقوى الأصولية الإسلامية بشكل واضح. وسوف يستغرق بناء هذه الكتلة وقتًا. سيتعيّن عليها الجمع بين النضال ضدّ الاستبداد والاستغلال وجميع أشكال الاضطهاد. وسوف تحتاج إلى رفع مطالب الديمقراطية والمساواة وتقرير المصير الكردي وتحرير المرأة من أجل بناء التضامن بين المستغَلين والمضطهَدين في البلاد.‏

لتعزيز مثل هذه المطالب، سيتعيّن على هذه الكتلة التقدمية بناء وإعادة بناء المنظمات الشعبية، من النقابات إلى المنظمات النسوية، والمنظمات المجتمعية والهياكل الوطنية لجمعها معًا. وسيتطلب ذلك التعاون بين الجهات الفاعلة الديمقراطية والتقدمية في كلّ أنحاء المجتمع.‏

بالإضافة إلى ذلك، ستكون إحدى المهام الرئيسية هي معالجة الانقسام العرقي المركزي في البلاد؛ وهو الانقسام بين العرب والأكراد. يجب على القوى التقدمية أن تخوض نضالًا واضحًا ضدّ الشوفينية العربية للتغلّب على هذا الانقسام وتأسيس التضامن بين فئات الشعب. كان هذا تحديًا منذ بداية الثورة السورية في العام 2011 ويجب مواجهته وحلّه بطريقة تدريجية من أجل تحرير الشعب حقًا.‏ ‏ثمّة حاجة ماسة للعودة إلى التطلعات الأساسية للثورة السورية نحو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة، مع احترام حق تقرير المصير الكردي.

شكلت هيئة تحرير الشام، مثل غيرها من المنظمات الأصولية الإسلامية المسلحة، الجناح الثاني للثورة المضادة بعد نظام الأسد. وتتعارض رؤيتها للمجتمع ومستقبل سوريا مع الأهداف الأولية للانتفاضة ورسالتها الشاملة المتمثلة في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة.

الخاتمة

من المهم أن نتذكر أنّ هيئة تحرير الشام هي نتيجة للثورة المضادة التي قادها النظام السوري، الذي قمع الانتفاضة الشعبية ومنظماتها الديمقراطية بدموية، وعسكر نفسه بشكل متزايد. إنّ صعود هذا النوع من الحركات الأصولية الإسلامية هو نتيجة لأسباب مختلفة، بما في ذلك التسهيل الأولي لتوسّعها من قبل النظام، وقمع حركة الاحتجاج مما أدى إلى تطرّف بعض العناصر، وتنظيم وانضباط مجموعاتها بشكل أفضل، وأخيرا الدعم من الدول الإقليمية.

وبعد ذلك، شكلت هيئة تحرير الشام، مثل غيرها من المنظمات الأصولية الإسلامية المسلحة، الجناح الثاني للثورة المضادة بعد نظام الأسد. وتتعارض رؤيتها للمجتمع ومستقبل سوريا مع الأهداف الأولية للانتفاضة ورسالتها الشاملة المتمثلة في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة. وقد أثبتت أيديولوجيتها وبرنامجها السياسي وممارساتها أنّها عنيفة ليس فقط ضدّ قوات النظام، بل وأيضاً ضدّ الجماعات الديمقراطية والتقدمية، سواء كانت مدنية أو مسلحة، أو أقليات عرقية ودينية ونساء.

في الختام، إنّ الحفاظ على مجتمع ديمقراطي وتقدّمي والنضال من أجله لا يتم من خلال الثقة في سلطات هيئة تحرير الشام الحالية أو منحها درجات جيّدة أو رضا عن حكمها وإدارة مرحلتها الانتقالية، بل من خلال بناء قوّة مضادة مستقلة تجمع الشبكات والجمعيات الديمقراطية والتقدمية. إنّ الإطار الزمني لتنظيم الانتخابات وكتابة دستور جديد، أو اختيار الشخصيات في "مؤتمر الحوار الوطني"، يمكن أن يكون موضوعًا للنقاش والانتقادات، لكن القضية الأساسية هي غياب المشاركة من الأسفل في عملية صنع القرار وعدم القدرة على الضغط على هيئة تحرير الشام لتقديم التنازلات. بات صنع القرار في أيدي هيئة تحرير الشام فقط... بدعم من داعميها الرئيسيين تركيا وقطر، ولكن بشكل عام الغالبية العظمى من القوى الإقليمية والدولية. وبشكل عام، لديهم هدف مشترك في (إعادة) فرض شكل من أشكال الاستقرار الاستبدادي في سوريا والمنطقة. وهذا بالطبع لا يعني الوحدة بين القوى الإقليمية والإمبريالية. لكل منها مصالحها الخاصة، والتي غالبًا ما تكون متعارضة، لكنها لا تريد زعزعة استقرار الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

إنّ الحفاظ على مجتمع ديمقراطي وتقدّمي والنضال من أجله لا يتم من خلال الثقة في سلطات هيئة تحرير الشام الحالية أو منحها درجات جيّدة أو رضا عن حكمها وإدارة مرحلتها الانتقالية، بل من خلال بناء قوّة مضادة مستقلة تجمع الشبكات والجمعيات الديمقراطية والتقدمية.

إنّ الأمل في مستقبل أفضل يلوح في الأفق بعد سقوط الأسد. وكلّ هذا مرتبط بقدرة السوريين على إعادة بناء النضالات من الأسفل. في الوقت الحالي، لم تكتمل سيطرة وتحكّم هيئة تحرير الشام على المجتمع، حيث إنّ قدراتها البشرية والعسكرية لا تزال محدودة للسيطرة الكاملة على كامل سوريا، وبالتالي هناك مساحة للتنظيم، وهذا الأمر يحتاج إلى استغلال.

في النهاية، لن يمهد الطريق نحو التحرير والتحرّر الفعلي إلا التنظيم الذاتي للطبقات الشعبية التي تناضل من أجل المطالب الديمقراطية والتقدمية.

الآن على الأقل، الفرصة سانحة لتحقيق ذلك، ولكننا في سباق، ويتعيّن على الطبقات الشعبية السورية أن تنظّم صفوفها للدفاع عن كلّ التضحيات التي قدّمت لتحقيق التطلعات الأولية للثورة من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة...

____________________________________________________________________________________________________

[1] من المثير للاهتمام أن نرى في نفس الوقت أن نظام الأسد الأب ومن بعده الابن، حاول بشكل متواصل تقليل وإخفاء جميع العلامات الظاهرة للتدين العلوي، مشجّعاً الاندماج في التيار السني السائد. لقد كان كل من بشار وحافظ الأسد يؤديان الصلاة العامة في المساجد السنية، فيما تكاثرت المساجد السنية المبنية في كافة مناطق العلويين المأهولة. ولم يسمح النظام لأي شكل من أشكال الفعاليات الأهلية بإنشاء مجلس أعلى علوي، وليس ثمة إشارات دينية عامة للمجتمع العلوي. فالعلويون يتبعون نفس القوانين الدينية التي تتبعها الطائفة السنية فيما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والميراث، إلخ…) وكسائر الأقليات الإسلامية الأخرى يتلقون التعليم الديني السني في المدارس ووسائل الإعلام والمؤسسات العامة.

مقالات متعلقة

الفيدرالية قد تكون خيارا، ولكن مشروع كامل للجميع ضروري (12)

06 آب 2016
أثارت الفيدرالية الكثر من الجدل مذ فرضها حزب الاتحاد الديمقراطي في مناطقه، مقترحا إياها نظام حكم فعال لسوريا المستقبل. الباحث جوزيف ضاهر يناقش في بحثه هذا مفهوم الفيدرالية وعلاقته مع...
سجن العقاب.. أخطر سجون جبهة النصرة في إدلب

21 نيسان 2020
"قضيت سبعة عشر يوماً متواصلاً داخل ذاك النعش الحديدي، وكانت المرة الثالثة التي يضعوني به خلال عام ونصف قضيتها في سجن العقاب" هذا ما يقوله سعيد لحكاية ما انحكت، فما...
عن العلمانية في سوريا ما بعد الديكتاتور

25 كانون الأول 2024
أثار التجمّع الذي حصل في ساحة الأمويين في دمشق في ١٩ كانون الأول يناير ٢٠٢٤ والذي رفع شعارات مدنية وعلمانية جدلًا في الفضاء السوري العام. الطبيب والرسّام والشاعر، عبدالوهاب عزاوي،...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد