سوريا... العودة ممكنة

عن زيارة إلى دمشق والساحل السوري


"في اللحظة الذي تخطت قدمي اليمنى البوابة الحديدية، قلت وشعرت وشممت ورأيت أنني وصلت، هنا سوريا، أنا في سوريا. ركبت الباص وبدأت بالبكاء، بكاء التشافي من الغربة، بكاء أنّنا كنّا على حق". هذا ما تقوله المديرة التنفيذية السابقة لشبكة الصحفيات السوريات رولا أسد، في هذا النص/ الشهادة عن زيارتها إلى سوريا التي غادرتها في أيلول/ سبتمبر ٢٠١١ ولم تعد إليها إلا في نهاية كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٤، لتواجه الماضي والحاضر، الأمل والخوف، والخوف ليس مما يحمله المستقبل فحسب، بل أيضًا مما يذكّر به اسم كنيتها الذي يتشابه مع كنية العائلة التي لم يصدّق بعد السوريين/ات أنهم/ن تخلّصوا منها وإلى الأبد.

01 شباط 2025

رولا أسد

صحفية وباحثة نسوية، مؤسسة شريكة والمديرة التنفيذية السابقة لشبكة الصحفيات السوريات.

أوّل مرة شعرت بأنني قد غادرت، كان في أيلول/ سبتمبر ٢٠١١، ولأوّل مرّة أشعر بأنّني أعود إلى دمشق، كان في شتاء عام ٢٠٢٤ بعد هروب رأس النظام السوري الطاغي بشار الأسد في ٨ كانون الأول/ ديسمبر إلى موسكو. لن أقول سقوط الأسد، لأن الأسد لم يسقط وإنّما هرب، تاركًا البلد لصفقةٍ مع هيئة تحرير الشام المسلّحة، بينما نحن الشعب ما زلنا نتلمّس أطراف هذه الصفقة من تسريباتٍ تركيّةٍ وتحرّكاتٍ قطرية، نتلمّس الواقع الذي يمهّد الطريق للمستقبل من خلال ظهور قائد هيئة الشام وتصريحاته أحمد الشرع. ولكن التصريح الذي لربما كنا نتأمّل أن يأتي متأخرًا قليلًا حتى لا يفسد فرحتنا بهروب الطاغية، كان التصريح الناري للمتحدّث الرسمي باسم الإدارة السياسية التابعة لإدارة العمليات العسكرية عبيدة أرناؤوط، حين قال: "كينونة المرأة وطبيعتها البيولوجية والنفسية لا تتناسب مع كل الوظائف كوزارة الدفاع مثلًا".

أوظّب حقيبة سفري وأتفكّر في كينونتي كامرأة وأُعيد النظر في كلِّ قطعة ملابس أضعها في الحقيبة: هل هذه القطعة مناسبة؟ هل هي ملوّنة بحيث تلفت النظر؟ أنتبه إلى أنّ الملابس لها حل وليست المشكلة، انتبه لشكلي غير الثنائي، شعري القصير جداً والحلق في أنفي وهيئتي بشكل عام، أبدأ بإعداد الخطط، هل عليّ ارتداء قبعة طول الوقت؟ هل أزيل الحلق عن أنفي؟ هل أبالغ في مظهري الأنثوي؟ للحقيقة نسيت كيف أفعل ذلك.

كتبت هذه السطور وأنا لا أزال في بيتي في أمستردام قبل يومين من السفر، أحاول لملمة مشاعري، وأفكاري، وذكرياتي، أحاول كتابة قائمة بالأماكن التي أريد أن أمشي فيها، والأصدقاء والمعارف اللواتي لم يغادرن قط، من بقي هناك! من سألتقي صدفة في الطريق؟ مع من سيكون أوّل فنجان قهوة وحديث نسوي من دمشق؟

الطريق حدود

تصدح اللهجات السورية في الطائرة المتجهة من إسطنبول إلى عمان، يتململ الشباب من أيّ دقيقة تأخير. يُطلقون النكات هنا وهناك فرحًا ولتخفيف بعض من التوتّر. لحظة إقلاع الطائرة صاح أحدهم "تشبثوا يا شباب". ضحكت كما ضحك كثيرون معًا، مسترجعين إحدى المسلسلات الدرامية السورية.  لم أتمكّن من النوم. المشاعر الجياشة منعتني من الاسترخاء قليلًا، فرحت أتابع حديث المجموعة القريبة مني. بدأ شاب بالحديث عن العلمانية وشتم من يطالب بها، قائلاً "يا زلمة قال فلانة بدها علمانية ولسه دموع أمهات الشهداء ما نشفت، ما بيستحوا؟!".

أردت أن أتدخل، أردت أن أقول له إنّ العلمانية لا تستهتر بدموع الأمهات، بل تحترمها، ولا تستخدمها لمكاسب سياسية، أردت أن اقتحم النقاش وأقول ما دخل علمانية الدولة بدموع الأمهات! لكني صمتت وحاولت تشتيت ذهني بإغلاق عينيّ، متخيّلة لحظة وصولي إلى دمشق. الطريق إلى دمشق كان طويلًا ومكلفًا. توجّب عليّ التوقف في عمان، ودفع ثمن التأشيرة مرّتين كما نصحتني صديقة لي سبقتني إلى سوريا، مرّة لدخولها من المطار ومرّة عندما سأدخلها عائدة من سوريا.

(على الطريق من عمان إلى دمشق. تصوير رولا أسد/ خاص حكاية ما انحكت)

مالُ الأزمات سريعٌ، مبتكرٌ ومكرّر. في عمان حين سألت عن سيارة أجرة من عمان إلى دمشق، كان الجواب الأوّل ٢٠٠ دولار أمريكي، ثمّ بدأ الجواب يتكرّر ب ١٠٠ دولار. بدأت أعيد حساباتي، عليّ أن أقتصد قدر المستطاع حتى أتمكّن من تقديم شيء لاحقًا لعائلتي مع تأخر رواتب البعض وخوفهم/ن من خسارة وظائفهنّ. فكّرت أنّ خيار الحافلة متاح.  ليس بسرعة سيارة الأجرة، لكنه أرخص. ألجأ لرفيقاتي في عمان للاستفسار عمّا هو متاح، تتكفّل صديقتي كعادتها بفتح الخيارات أمامي.

نسأل في مكاتب السفريات في عمّان عن طريق للشام، وأكتشف أنّ خيار ٢٠٠ و١٠٠ دولار أمريكي هو سرقة لحاجة الآخر بالوصول إلى مكانٍ حلموا به لسنوات. يبدو أنّ الطريقة القديمة لاتزال متاحة، أي طريق عمان دمشق، أربع ركاب، كلّ راكب ٥٠ دينار أردني ما يعادل ٧٠ دولار أمريكي. تقول صديقتي كنّا نذهب إلى دمشق ب ٢٠ دينار أردني، أجد هذا الخيار معقولًا. يقول صاحب مكتب السفريات "بكرا سفرتين ع السبعة أو التسعة الصبح". تتسارع دقات قلبي وأشعر أنّ ما كان حلمًا يقترب. نسأل مكتب بجانبه للاستعلام ويجيب أنّ الوضع ذاته مع اختلاف صغير، هو أنّ الانطلاق قد يكون بعد الظهر. أقول لصديقتي "ربّما أفضل هذا الخيار". أجد نفسي متردّدة وأهرب من بدء آخر مسافة تفصلني عن دمشق، أشعر بصدري يثقل وترتفع دقات قلبي؛ إنه القلق، أعرفه جدًا، أخفّف عن نفسي بابتسامة وأقول لصديقتي، لأعرف لماذا أؤجل الانطلاق: "خلاص بكرا الساعة ٩ عالشام".

استيقظت باكراً، أنتظر أن تصبح الساعة التاسعة صباحًا، صديقتي التي أغرقتني بكرمها وضيافتها جعلت من ساعاتِ الانتظار صبحية لطيفة مع كأس متة. حان وقت الانطلاق، تلعثم السائق ليغادر عمان لأنه كان بحاجة لراكب ثالث بالإضافة لي وشاب. كان يكرّر متحدّثًا مع نفسه ويحاول إسماعنا "لتكون هذه السفرة جايبة همها لسه بدي راكب، والله بكره يوم السبت، ما في حدا يا زلمة". دخنا وهو يدور بنا من مكتب سفر إلى مكتب سفر يسأل زملائه عن راكب، لو لم أكن قد تعلمت الصبر في سنوات غربتي لصرخت في وجهه غضبًا من تأفّفه وتوترّه وإطالة عمر الرحلة. هدأتُ وحاولت أن أفكّر "دعي كلّ شيء ليكون". قرّر الانطلاق وبدأت اتصالات تنسيق المبادلة مع سيارة أجرة أخرى من الحدود السورية.

حتى تاريخ ٢٧ كانون الأول /ديسمبر، لم يكن مسموحًا للسيارات الأردنية بمغادرة الأردن بقرار حكومي، وحتى حملة الجنسيات الأردنية لم يُسمح لهم/ن بدخول سوريا، حتى لو كانوا/ن من أصول سورية. أمّا السوريات/ون الذين غادروا/ن خُتِم لهم/ن ب "عدم عودة".

بالعودة لعملية المبادلة، شعرت وكأنها تحمل معنى أثقل من كونها أمرًا لوجستيًا وحلًّا عمليًا تمّ خلقه لجعل عمل مكاتب السفريات في البلدين يستمر ولجعل سفر الناس ممكن، خاصة أنّ سائقي السفريات هذه يجعلون الأمر في بالغ الأهمية وكأنها عملية تهريب.

يمرّ الوقت ونصل الحدود الأردنية وتأتي اللحظة التي أقول لنفسي "لحسن حظي أني احتفظت بهويتي السورية وحملتها معي"، إذ لم يكن ليُسمح لي بدخول سوريا باستخدام جواز السفر الهولندي فقط. انتهت إجراءات الجانب الأردني من ختم الجوازات وتفتيش الحقائب وانتظار الشاب الذي كان معي لمدّة ساعة بسبب أوراقه والتدقيق فيها، وقبل وصولنا منطقة "No man's land" أي المنطقة المحايدة بين الحدود، وصلنا خبر أنّ سائق سيارة الأجرة الذي سيقلنا إلى دمشق سيتأخر بسبب حادث! ولسببٍ ما، كان لابدّ من تبديل السيارة بسيار أخرى، وهذا يعني أنّ عليّ حمل ونقل ورفع حقيبة سفري الثقيلة بالهدايا عدّة مرات. أقول متمتمة "تعبت يالله، بدي أوصل".

(الحدود الأردنية السورية. تصوير رولا أسد/ خاص حكاية ما انحكت)

قبل دخول سوريا، شرح لنا السائق أنّ حافلات للصليب الأحمر ستنقلنا من هنا إلى الحدود السورية. لم أعد أسمع شيئًا من اللحظة التي بدأت الأرض السورية تقترب، وفي اللحظة الذي تخطت قدمي اليمنى البوابة الحديدية، قلت وشعرت وشممت ورأيت أنني "وصلت، هنا سوريا، أنا في سوريا". ركبت الباص وبدأت بالبكاء، بكاء التشافي من الغربة، بكاء أنّنا كنّا على حق.
حين وصلنا الحدود السورية لفت نظرنا جميعا أوّل تغيّر، العلم القديم الجديد يرفرف مرحّبًا، وعند مكتب ختم الجوازات بدأ عقلي الصحفي بالعمل والتنبّه لأقل الحركات والكلمات والتعابير. أحاول البحث عن شيء، ثم وقفت وذكّرت نفسي "دعي كل شيء ليكون". كانت عملية ختم الجواز سلسة رغم توجّسي من أيّ تصعيد بسبب اسم عائلتي وتشابهها مع اسم عائلة الطاغية. عناصر الهيئة يحاولون تولي الأمور بتنظيم دور ختم الجوازات، دَور سيارات الأجرة، وما إلى ذلك من أمورٍ لوجستية بسيطة. يحاول شباب الهيئة ترتيب انطلاق سيارات الأجرة ويحاولون شرح الأجرة المتوقّعة تفادياً للاستغلال. يفضّل الحديث مع الشاب الذي اتفقت معه أن نكمل الطريق لدمشق، لم يسأل من هذا الشخص بالنسبة لي، يكفي أنه رجل ليتحدّث معه ويتجاهلني. رتبنا أمر السيارة إلى دمشق وركبنا، وفي نقطة التحقّق مرّة أخرى من الأوراق والركاب، انتبه عنصر لهيئتي وابتسم، ابتسامة بين الاستغراب والتنمّر، أخفى ضحكته ووشوش صديقه لينتبه لي في المعقد الخلفي. بقيت أراقب المشهد بصمت، وفكرت "آه، بلشنا أول لرقص حنجلة".

الطريق إلى دمشق

سائق من درعا بدأ بتعريفنا نحن الركاب على سوريا، بنقاط علّام على الطريق. يقول "أحقر حاجز للنظام البائد" كان هنا. يشتم تلك الأيام، ويشتم حافظ وبشار لِما فعلوه بالبلد، ويستمر في سرد القصص حول استغلال الحواجز سابقًا لسائقي سيارات الأجرة. أراقب الطريق وأبتسم كلّما شاهدت جداريات وصور بشار مشوّهة، مهشّمة، مكتوب فوقها عبارات تحرير أو شتائم، وأجد أنّ الطريق أوسع بعد تنظيفه من تماثيل الأب القامع.

نصل منطقة البرامكة في دمشق، ثم أجري لوحدي من سيارة الأجرة لتصريف بعض المال وشراء بطاقة هاتف محلية "سيريا تيل" كما نصحتني صديقتي "أنها أفضل هذه الأيّام". منطقة المرجة مُكتظة ومزدحمة كعادتها وصرّافي العملات منتشرين في الطرقات. حمل كيس أسود صغير وثقيل يعني أنّ الشخص صرف للتو مبلغ من المال، كم الأوراق المالية السورية مقابل تصريف ١٠٠ دولا أمريكي كان مفاجئًا لي. أدردش قليلاً مع السائق ويستوقفني قوله عن انفراج الأحوال قليلًا "قبل ٨ الشهر (كانون الأول هروب بشار الأسد) كانت الطبخة تختارنا، هلق صرنا نختار شو ناكل".

أصلُ إلى ساحة السبع بحرات وأنتظر صديقتي التي سأبقى عندها فترة تواجدي في دمشق، في مقهى جديد يطلّ على الساحة التي يقع فيها بنك سوريا المركزي. أتذكّر أنّه في اليوم التالي لهروب الأسد، دخل بعض الرجال إلى البنك المركزي وسرق بعضهم المال. تدخل لواء مقاتلين من درعا لحماية البنك وتمّ إلقاء القبض على الآخرين. في المقهى أطلب فنجان سحلب وأنظر حولي، لأجد على طاولة بجانبي مجموعة شباب، يبدو أنهم من الهيئة، يمكن تمييزهم من اللهجة الإدلبية، وأيضًا من لباسهم الغامق الألوان والبنطلونات ذات الجِيب الجانبية وطريقة وضع الشال على الرأس. تأتي صديقتي، ونبارك لبعضنا وأقول لها "أنا سنية في احتفالي، طلبت سحلب لكي أُبيّض أوّل يوم لي في دمشق".
أمشي وأمشي في شوارع دمشق، تضج أغنية فيروز في رأسي ويتكرّر ذات المقطع "خايفة أكبر بهالغربة وماتعرفني بلادي". أكرّر لنفسي "غربتي ومنفاي انتهيا، وأنا هنا في دمشق. أمشي من شارع العابد إلى الشعلان، ثم إلى البحصة لأقطع سوق الحرامية إلى الحميدية متجهةً إلى مدحت باشا وباب شرقي ومنها إلى باب توما. أسترخي وأقول بلادي تعرفني ولأقدامي ذاكرة المكان.

(سوق الحميدية في دمشق. تصوير رولا أسد/ خاص حكاية ما انحكت)

تُمطر في دمشق، أضع قبعتي على رأسي وأرفع شالي ليغطي أنفاسي. تختفي معالمي وراء الألوان الداكنة، السترة السوداء الفضفاضة والبنطال ذو الجيب الجانبي يجعل من الصعب تمييز جنسي. فجأة أسمع سيّدة تقول لي "الله يخليلنا ياكون يا شباب"، أندهش وابتسم “الخالة فكرتني هيئة". تكرّر هذا عدّة مرات في اليوم الأوّل لي في دمشق.

رائحة البلد

تُكثّف رائحة الدخان والتدخين والمازوت الأجواء في الشوارع. قهوة الروضة تصبح مركز المركز للعائدات والعائدين، الأجواء هناك استثنائية؛ الأغاني الثورية من "جنة يا وطنا" بصوت الساروت، "عالهودلاك " بصوت وصفي معصراني، إلى الاشتعال الحركي المتكرّر كلّما صدحت أغنية "يلعن روحك يا حافظ"، حيث يهبّ من تحمّس للغناء والرقص بصوت عالي والباقي يراقب ويدندن، ثم نعود لما كنا عليه من الأحاديث السياسية والحياتية، وتصريحات "حكام سوريا الجدد"، خاصة هذه المرّة تصريحات مديرة مكتب شؤون المرأة في الإدارة السورية الجديدة عائشة الدبس "...لكنني لن أفتح المجال لمن يختلف معي بالفكر.. عانينا من المنظمات التي كانت لها أجندات مضرة بأطفالنا ونسائنا، إذ كانت تقدم برامج غير ملائمة نتج عنها نتائج كارثية".

مرّ هذا التصريح في دمشق سريعاً بين سخرية وعدم أخذ التصريح على محمل الجد. حاولت مع بعض الصديقات فكفكة هذا التصريح، وعدنا بالذاكرة إلى ما شاركته معنا صديقات من إدلب عن معاناتهن من قمع هيئة تحرير الشام الممنهج،  الذي لم يأت دفعة واحدة ولكن تمّ بناؤه رويداً بين إعطاء خيار الخضوع لقوانينهم أو بالترهيب والعنف.الانغماس اليومي في الهم المعيشي يجعل كلّ شيء آخر أقل أهمية، خاصة لِمن بقين وبقوا في سوريا؛ قلّة الكهرباء تجعل الأولويات اليومية واضحة، من غسيل، واستحمام، وشحن الهاتف والكومبيوتر ..إلخ. عشت هذا الهم لعشرة أيّام فقط ولم أتمكّن من تجاوز فكرة كم الوقت الضائع على اللوجستيات اليومية، لكني فهمت كيف جعل نظام الأسد الناس في حال إلهاء مستمرّة، يحاولون العيش والبقاء على قيد الحياة، في ظل البرد الشديد والجوع.

(صور لمعتقلين سوريين في سجون النظام السوري في محطة الحجاز وسط دمشق. تصوير رولا أسد/ خاص حكاية ما انحكت)

كلّ شيء كان يحدث في نفس الوقت خلال هذه الفترة في دمشق، الوقفات الاحتجاجية والتضامنية، وجلسات حوارية، ومظاهرات. العطش للتواجد في الفضاء العام، والعجلة في التنظيم أفقدت بعض هذه الوقفات فرصة حشد الناس بطريقة مناسبة. وكانت وقفات للتضامن مع اللاجئين واللاجئات والاحتجاج أمام وزارة التربية بعد إعلان تعديلات على المناهج الدراسية قليلة العدد وهزيلة.

سمعت أنّ وزارة الإعلام بدأت بإعطاء تصاريح صحفية، قلت لصديقة صحفية أرغب باختبار العملية، دخلنا الوزارة المهملة وكأنّ عملية نهب حصلت فيها للتو. الطابق الأوّل غارق تقريبًا بالمياه المتسرّب من السقف، الجدران مهترئة، الدرج وسخ ومتكسّر ورائحة رطوبة شديدة تفوح في المكان.

ندخل مكتب التصاريح، في الغرفة الخارجية من المكتب. يجلس بعض الرجال، يسألني أحدهم ماذا أريد ويطلب مني أن أجلس. أقدّم نفسي كصحفية مستقلة لعدّة جهات وأحمل بطاقة صحفية إلكترونية هولندية باعتباري عضوّة في الاتحاد الصحفي الهولندي. حين سمع اسم عائلتي (أسد) جفل وجهه. رجل آخر كان بجانبه، لا أعرفه، يسألني منتظرًا التأكيد: سنية؟ أردّ: علوية. يطلب مني الشخص الأوّل نموذج لأعمالي. أرسله له على الواتسآب بعد مشاركة رقمه. أفكرّ: هل لدي خيار آخر؟ وهل تقع الخصوصية عند الحاجة؟ وهل مشاركة أرقام الهاتف الشخصي بهذه البساطة؟ هل هذا هو طريق جديد للرقابة؟ أفكر: ماذا أشارك معه؟ قرّرت مشاركة مادة كنت كتبها ونشرتها لاحقًا وقت دراستي الماجستير عن السلاح الروسي المُستخدم ضدّ المدنيين في إدلب. أردت أن أوجّه رسالة مبطّنة له أنني لست كلّ ما تفكّر به سياسيًا. وضّح لي أنّ تصريح الأفرع الأمنية يحتاج معاملة خاصة بسبب الفوضى التي حصلت بدخول من شاء للأفرع ومحاولة شاب سرقة قرص صلب "هارد ديسك" قبل يومين (تطن في رأسي جملة "ألم يكن ذلك جزء من مسرحية التحرير!")، لذلك تتطلب زيارة الأفرع الأمنية التنسيق عبر الهاتف مع شباب الهيئة، حرّاس الفرع المعني. لأخذ التصريح العام توجّب عليّ التوجه إلى مكتب آخر.

وصلت إلى مكتب مليء بالصحفيين والصحفيات، الكل ينتظر التصاريح لتُوقّع من الوزير. أتقدّم، أعطي اسمي وأقول إنني أرغب بتصريح لتغطية عملي في دمشق واللاذقية وجبلة، تتغيّر الحالة في الغرفة. بشيء من الدهشة، يتفضّل أحدهم ويقول "أنت من الأسد الأسد" وآخر "الله يعينك على هالاسم، غيريه، شغلتها بسيطة بهولندا". أقول له "لا حرج علي في هولندا وإنما هنا المشكلة". يضحك بريبة وأكمل ضحكتي باصطناع. تتناثر في الغرفة مجاملات موجهة للموظف وأسئلة عشوائية في محاولة لفهم كيف ستعمل الوزارة، عن التصاريح، وهل ستبقى ورقية أم إلكترونية. في النهاية أحصل على ترخيص مدّته ثلاثة أيام فيما يحصل الغالبية على تصريح مدته خمسة عشر يومًا.

منحي تصريح لمدّة ثلاثة أيام فقط هو قرار طائفي تميزي وتضييق لمساحة عملي الصحفي، مرده غالبًا إلى رغبتي في الذهاب إلى الساحل السوري ذي الأغلبية العلوية، حيث تحدث الإعدامات الميدانية واصطياد بعض الشباب الذين كانوا في الجيش بغضّ النظر عن تسويتهم لأوضاعهم العسكرية كما سأعلم لاحقًا عند زيارة عائلتي في مدينة جبلة.

لازلت في دمشق، واليوم هو يوم رأس السنة،  يوم لن يتكرّر في حياتي. بدأت يومي مع صديقي محمد بدران المقيم في أمستردام، بتناول بعض المعجنات من الشعلان وقهوة في "قهوة مزبوطة". محمد عائد لأوّل مرّة إلى بيته في مخيم اليرموك. رافقته فضولًا ودعمًا له، وشوقًا للمخيّم الذي تربطني به ذكريات مع بعض الصديقات.

أراد محمد تذكّر الطريق إلى بيته بعد غياب اثني عشر عامًا. مشينا من بداية المخيّم ومحمد يروي لي قصصًا عن طفولته، والدمار على مرمى النظر. مشهد محزن وقاس، الأبنية المحروقة والمُفجّرة، المركبات العسكرية والمدنية المدمرة، شوارع كاملة لا أحد يسكنها، نصل إلى جامع الوسيم، تبدو الدهشة بادية على صديقي، يقول "الشارع لبيتي ورا، لم أعرف كيف أصل لبيتي". أخفّف عنه وأقول "لم يبق معالم واقفة حتى تتذكر".

(آثار الدمار على المنازل والشوارع والسيارات في مخيم اليرموك في دمشق في ديسمبر/ كانون أول ٢٠٢٤/ تصوير رولا أسد/ خاص حكاية ما انحكت)

أُنهي الزيارة، وأذهب مع صديقتي إلى فرع الخطيب الأمني، كانت معتقلة هناك وترغب بزيارة المكان للاستشفاء والتشفّي كما أعتقد. أستخدم التصريح إياه لإبرازه للضابط. يستغرب من قصر مدته هو أيضًا. يُسمح لنا بالدخول، ويرافقنا حارس من الهيئة. صديقتي تبحث عن زنزانتها وأنا معها أصوّرها، لا ضوء طبيعي ولا كهرباء والعتمة جزء من هذا المكان. باستخدام إضاءة الهواتف المحمولة تتمكّن صديقتي من تذكّر زنزانتها. تأخذ وقتها بالجلوس أرضًا وتحاول استيعاب التجربة السابقة والحالية، انشغل بتصوير ما يمكنني تصويره. لم أستطع مقاومة أن أصوّر كلّ هذا القبح والقيء، والمنفردات، والجدران، وكاميرات المراقبة، وغرفة الملفات التي رُمي فيها كلّ شيء، هنا بعض من صور ذاك المكان، كي لا ننسى وكي لا نسمح بإعادة إنتاج هذه السجون والأقبية والأفرع.

(داخل فرع الخطيب الأمني في دمشق. تصوير رولا أسد/ خاص حكاية ما انحكت)

خرجنا من فرع الخطيب، وكلّ ما أريده أن أكون في ساحة عامة، أذهب إلى ساحة الأمويين وأرفع لافتة "تحية لكلّ الصحفيات السوريات من قلب دمشق". أشعر بالرضا والفخر أنني كنت على الجانب المحقّ من العمل الصحفي، أردت أن أملك الفضاء العام، ولو للحظة لي ولكل زميلاتي الصحفيات، أردت أن يرانا العالم ويعترف بجهودنا كصحفيات على مدى سنوات الثورة والحرب.

المديرة التنفيذية لشبكة الصحفيات السوريات رولا أسد تحيى الصحفيات السوريات من ساحة الأمويين في دمشق/ خاص حكاية ما انحكت)

تقترح صديقتي أن نقوم بمظاهرة "طيارة" أي قصيرة بعد منتصف الليل، لاستقبال العام الجديد بروح ثورية وحنينًا لأيّام المظاهرات الطيّارة. تجتمع الناس في منطقة وسط بين فندقي أمية وفندق الشام حيث يسهر أغلب الأصدقاء والمعارف، ونبدأ بالهتاف "واحد واحد الشعب السوري واحد"، "ما في للأبد عاشت سوريا وسقط الأسد". يتحمّس أحد شباب الهيئة القريب من المظاهرة ويطلق رصاص حي في الهواء. لا نفهم.. ننحني أرضًا لنفهم الرصاص، هل هو احتفالي أم تفريق للمظاهرة؟ سريعًا تعود الهتافات وأصوات من هنا وهناك "لا تخافوا". لكن بدأ الأصدقاء أيضًا بتكرار "فركش" أي انتهت المظاهرة، ولكن المظاهرة كبرت واقترب عدد أكبر للتظاهر وشاركت السيارات العابرة بالزمامير، لا رغبة في الخروج من الشارع، الكلُّ في تلك الحظة يريدون الفضاء العام، يريدون حرية التظاهر والغناء.

الساحل بعد غياب

أصل بيت أهلي بعد غياب ثلاثة عشر عامًا. أحضن بقوّة وحب أختي الكبيرة، أمي وأبي، وتسعة عشر شخصًا آخر من عائلتي، متلهفون لسماع أخباري وأسئلة كثيرة لي أنا الصحفية المعارضة لنظام الأسد حول مستقبل البلاد. أرتبك لأن لا جواب لديّ ولا أحمل لهم أيّة تطمينات مع تصاعد أعمال العنف في الساحل السوري.

أحاول فقط أن أشرح لهم بعض الأحداث التي اكتشفت أنهم لم يسمعوا بها قط أو أنّ رواية النظام الرسمية لها كانت كاذبة كالهجوم الكيماوي على الغوطة الشرقية، تدمير شبه كامل لحمص وإدلب، أعرض لهم بعض الصور من هاتفي لزيارتي لمخيّم اليرموك وفرع الخطيب.

أرى الدهشة على وجوههم ثم يعود الخوف من المستقبل القريب، لا أرى صور لأخي "الشهيد"، الذي أُجبر في العام ٢٠١٢ على الانضمام للجيش وقتل برصاص قناص في دمشق ٢٠١٣. تقول أختي باكية "لقد دفنت أخي مرتين، حين موته وحين انتزاع صورته من الحائط. نخاف بعد القرار الأخير بتسمية شهداء الجيش قتلى، أن يُستفزوا إذا ما فتشوا البيوت ولاحظوا الصور". أسكت طويلًا، لا شيء يُقال في تلك اللحظة، وأخاف من فكرة أنّ التاريخ سيُعيد نفسه وأنّ المقموع سيصبح قامعًا ويغالي من قمعه.

حسّي الصحفي يدفعني لفهم عمليه التسوية وهويات الانشقاق التي وجد فيها شباب الساحل بعضًا من الذّل، حجتهم أنهم كانوا جزءًا من جيش الدولة فلماذا ينشقون عنه؟! بالنسبة لي، لم تكن كلمة انشقاق ذّل، كانت دلالة لبدايات الثورة. أتذكر كلّ الفيديوهات الرائعة، حين كانت تقف مجموعات من الجيش أمام الكاميرات ليعلنوا انشقاقهم. مرّة أخرى أحاول شرح البعض من تاريخ سوريا الحديث الذي غُيّب وزوّر من قبل نظام الأسد.

أذهب إلى مركز التسوية مع تصريحي الصحفي المنتهية صلاحيته. سمحوا لي بدخول المركز ومقابلة الضابط المسؤول عن عملية تسليم السلاح. الغرفة مليئة بالسلاح. خلال تسجيل المقابلة، دخل شخص بيده قنبلتين ليضعهما على الطاولة. أفكّر هل ستنفجر الغرفة بنا! أكمل عملي متظاهرة بالتركيز، وهنا مقابلة قصيرة مع الضابط واصفًا العملية من وجهة نظر الهيئة في مدينة جبلة.

(صورتان من داخل مكتب تسليم السلاح والتسوية في مدينة جبلة في الساحل السوري. وصورة لمجلس مدينة جبلة. تصوير رولا أسد/ خاص حكاية ما انحكت)

الثقة غير موجودة، هذا ما لمسته. رغم تطوّع العديد من شباب الساحل بتسليم أسلحتهم، يبدو أنه لا ثقة في أنّ هذه العملية تسري على كلّ المناطق في سوريا. الكلّ متوّجس من الكلّ حتى تلك اللحظة وعمليات القتل الفردية لا تزال مستمرة، وتصريح القيادة العامة عن "أنها أعمال فردية" تعيد للذاكرة تصريحات النظام البائد عندما كانت تحدث أعمال عنف لم يرغب بتبنيها بأنها "أخطاء فردية". أصمت، وأخاف من فكرة أنّ التاريخ سيعيد نفسه.

أعود إلى دمشق، وأذهب مباشرة لحضور حفلة كورال غاردينيا. تتحوّل حفلات الكورال إلى ملتقى للأحباب والغياب، للعناق، للضحكات والبكاء والاندهاش. تسحرنا الأغاني المنتقاة ونبكي بكاء جماعيًا لكلّ الشهداء، الغناء والبكاء لحظتها أقرب للتعافي الجمعي والاعتراف بالوجع العام، خاصة حين غنى الكورال أغنية لعبد الباسط الساروت "يا يما بثوب جديد زفيني جيت شهيد". يأخذنا غناء المجموعة لعوالم مختلفة ولمشاعر متضاربة من الفرح والغضب والحنين، ويرجعنا للواقع لسوريا بأغنية "عالهودلاك" ولفلسطين الحبيبة بأغنية "يا طالعين على الجبل":

آتي لليوم الأخير لي في دمشق، أريد أن أشبع من كلّ شيء، من السماء، من رائحة الهواء العبقة بالمازوت، من الأحاديث العابرة مع سائقي حافلات الأجرة، من نظرات المُشاة لي المستغربة والمبتسمة، من الأكل اللذيذ، من وجودي الفيزيائي في شوارع الشام.

في آخر يوم من هذه الزيارة يتحقّق حلم طال انتظاره ثلاثة عشر عامًا، أن نجلس، صحفيات من عدّة أنحاء من سوريا سوية لنناقش تجربة العمل الصحفي من وجهة نظرنا بشكل سياقي. تمتلئ قاعة مركز نيسان في جرمانا بالضيوف، أفرح وتمتلئ عيني بالدموع، ويرجف قلبي حين أرحّب بالجميع باسم شبكة الصحفيات السوريات، وأخوض نقاشًا مع ضيفاتي، كان من أهم ما خضت وسمعت على مدار عقد من الزمن.

(ندوة لشبكة الصحفيات السوريات في قاعة مركز نيسان في جرمانا في ريف دمشق/ خاص حكاية ما انحكت)

أعود لأمستردام ولا زلت في حالة دهشة، أحاول استيعاب التجربة، وأكرّر أنّ العودة إلى سوريا ممكنة، أن لي وطنًا اليوم، وأنني لست مضطرة لتقبّل واقعي في الغربة، لقد أصبحت الغربة خيارًا، حتى لو أنّ هذا الشعور مؤقت لكنه حقيقي.

 

مقالات متعلقة

عزيز العظمة: عن سوريا بين سقوط النظام وصعود الإسلاميين

17 كانون الثاني 2025
يتناول هذا الحوار مع الأستاذ والدكتور عزيز العظمة مجموعة من القضايا الحيوية المتعلّقة بالواقع السوري الراهن وتحوّلاته بعد سقوط نظام بشار الأسد. كما يناقش العظمة مواضيع محورية مثل صعود الجماعات...
الساحل السوري بعد سقوط النظام السوري

09 كانون الثاني 2025
في الساحل السوري، سحب البعض صور أبنائه من الشارع بعد أن كانت تملأ الجدران تحت اسم "الشهيد في سبيل الوطن"، والذين باتوا اليوم إرهابيون وفطائس وقتلى حرب لدى النظام الجديد"...
أوان التحوّل .. القطاع غير الحكومي السوري بُعيد سقوط نظام الأسد

30 كانون الثاني 2025
بعد إسقاط نظام الأسد زالت الحواجز التي كانت تفصل بين المنظمات العاملة في شمال غرب سوريا والمنظمات في باقي المناطق السورية التي كانت تحت سيطرة النظام البائد، وبدأ مشهد جديد...
سقط النظام .. لكن عائلة كوردية سورية تواصل ماراثون نزوحها اللا منتهي (صور)

17 كانون الأول 2024
فيما كانت هيئة تحرير الشام تشق طريقها إلى دمشق منطلقة من ريف حلب، شنت فصائل "الجيش الوطني" التركية هجومًا على مناطق في ريف حلب تسيطر عليه قوات سوريا الديمقراطية، وسيطرت...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد