” بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوري“ هي سلسلةٌ تهدف إلى تسليط الضوء على أصوات منظمات المجتمع المدنيّ السوري والناشطين/ات والصحفيين/ات، والذين يدافعون عن الحلول الإيجابية وحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ووضعها في سياقها.
السياق:
"ليلة الخمس 6 آذار كنت قد دعوتُ مجموعةً صغيرة من الأصدقاء إلى بيتي في طرطوس لنسهر بعد الإفطار، وقد رتبنا لذلك قبل أيام. وما إن اجتمعنا حتى بدأت هواتفنا بالرنين والطنين"، تقول نغم سلمان (35 عاماً) وهي صحفيةٌ وناشطة مدنية تعمل بين طرطوس ودمشق. تتابع القول "سرعان ما علمنا أن هناك هجومٌ مسلح على الأمن العام في بانياس، ثم هجومٌ آخر في جبلة ثم في الدريكيش وهكذا انفضّ الأصدقاء وبقيت وحدي.. لأكون صادقة، لم أتوقع أن تتصاعد الأمور بتلك السرعة ونمت مبكّراً تلك الليلة لأصحو على صور المجازر وأصوات التحريض، وعلى وصول أعدادٍ كبيرة من الفصائل إلى الساحل، فدخلت في حالةٍ من الرعب والشلل الذهني خلال اليومين التاليين".
وحسب تقرير الشبكة السورية لحقوق الانسان، فإنّ انفجار العنف الذي تلا هجوماً لمسلحين مرتبطين بالنظام السابق، أو من يُعرفون بفلول النظام، على قوات الأمن العام، أدّى إلى مقتل 803 مدنيين معظمهم من العلويين ما بين السادس حتى العاشر من آذار/مارس 2025، بالإضافة إلى مئاتٍ من القوات الحكومية وفلول النظام. بينما رجّحت مصادر أخرى، مثل المرصد السوري لحقوق الإنسان وغيره، أنّ أعداد الضحايا قد تصل إلى ١٥٠٠. شكّلت تلك الأحداث صدمةً عميقة لمعظم السوريين الذين أملوا أنّ نزيفهم قد توقّف عقب سقوط نظام الأسد. وعلى مقدار الصدمة، كان التفاعل مع تلك الأحداث يتخذ أشكالًا عديدة ميدانياً وعبر الفضاء الرقميّ.
راتب شعبو: مجازر الساحل أحدثت صدعاً مبكّراً في أسس بناء دولةٍ وطنية بعد نظام الأسد
02 نيسان 2025
يركز هذا المقال على مبادرات المجتمع المدني السوري والناشطين السوريين فيما يتعلق بهذه الأحداث، وخصوصاً تلك التي كانت تعبر عن التضامن والتماسك الاجتماعيّ، مع محاولة محاربة خطاب الكراهية والطائفية والتضليل الإعلامي المنتشر على نطاق واسع.
السمة الأبرز لتفاعل المجتمع المدني السوري مع المشهد هو أنه تفاعل أفراد ناشطين أكثر منه تفاعل مؤسّساتٍ مدنية كبيرة. يؤكد الباحث السوري محمد الجسيم (39 عاماً) هذه النقطة بالقول "أظهرت مجازر الساحل أزمةً عميقةً يعاني منها المجتمع المدنيّ السوريّ، الذي لطالما عرّف نفسه كنقيضٍ لنظام الأسد. واليوم، وبعد سقوط النظام، يحتاج هذا المجتمع إلى إعادة تعريف نفسه. لقد أظهرت كبريات المنظمات المدنية السورية تحيّزاً في تعاملها مع مجازر الساحل، أو أنها لم تتفاعل مع الأحداث كما يجدر بها. الدفاع المدني السوري على سبيل المثال، الذي لطالما لعب دوراً في التغطية الإعلامية؛ التوثيق والمناصرة على مدار سنوات الحرب ضد النظام، لم يواجه مجازر الساحل بالطريقة نفسها، بل اتخذ موقفاً أقرب إلى الحياد، والحياد في مثل هذه الظروف تحيّز".
رغم محدوية تفاعل المنظّمات الكبرى مع أحداث الساحل، كان الحراك المدني حاضراً بقوّة من خلال الناشطين الأفراد والمجموعات، المبادرات والمنظمات المحلية. عبر الرصد، يمكننا تصنيف تفاعل الأوساط المدنية مع تلك الأحداث ضمن ثلاثة اتجاهاتٍ رئيسية: التوثيق والنشر عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وإصدار بياناتٍ سياسية ومخاطبة الشارع، وإطلاق مبادراتٍ إغاثية للمناطق المنكوبة.
التوثيق والتضامن
عشية الأحداث الدامية نشرت الناشطة السورية، والمعتقلة السابقة في سجون نظام الأسد، هنادي زحلوط خبر مقتل ثلاثةٍ من أشقائها في قرية صنوبر الواقعة في ريف جبلة. شكّل الخبر صدمةً لكلّ السوريين الذين يعرفون هنادي كناشطةٍ ناصرت الثورة طيلة أعوامها، وقدّم التأكيدَ على أنّ ثمة عمليات قتل تستهدف العلويين من دون تمييز، مما حوّل معاناتها الشخصية إلى رمزٍ للألم الجماعيّ واستثار كثيراً من السوريين لنشر فيديوهات تضامنٍ مع العلويين، كما فعل أبٌ شاب ينحدر من حي الصليبة (السنّي) في اللاذقية الذي ظهر في بثٍّ مباشرٍ عبر حسابه على فيسبوك وهو يبكي الضحايا (العلويين) ويقدم روحه وروح طفله قرباناً لوقف عمليات القتل.
وكذلك فعلت الحاجّة حسنة الحريري، التي فقدت سابقاً زوجها وثلاثةً من أبنائها على يد نظام الأسد ولذلك سميت بخنساء حوران، حيث ظهرت السيدة في فيديو وهي تناشد عناصر الأمن العام حماية المدنيين بلهجتها الحوارنية وكأنها أمهم بالقول "يمّه وداعتكم أهل الساحل" بمعنى أنّ أهل الساحل أمانةٌ في أعناقكم. هكذا تحوّلت منصاتٌ مثل فيسبوك وتويتر إلى ساحاتٍ للتضامن بين السوريين.
وعلى التوازي، تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي مجدّداً إلى أدواتٍ لتوثيق الانتهاكات ومشاركة المعلومات، في غياب الإعلام السوري والعالمي. فالناشط "نبيه نبهان" حوّل صفحته إلى منصّةٍ لنشر قوائم بأسماء الضحايا المدنيين، مع توثيق أعمارهم وظروف استشهادهم، في محاولةٍ لمواجهة محو الهوية الفردية تحت وطأة الأرقام المجرّدة. مثله فعلت الكاتبة المعارضة للنظام السابق سمر يزبك والعديد من الشخصيات الأخرى ممن كان لديهم وصولٌ أو تواصلٌ مع مصادر ميدانية.
لكن التوثيق والنشر ترافق مع حملة تضليلٍ معلوماتيٍّ واسعة النطاق، ساهمت فيها جهاتٌ داخلية وخارجية، حسب تحليلٍ للصحفيّ المختص في التحقّق من المعلومات المضللة مراد خواتلي الذي كشف "الحرب الخفية على المنصات الرقمية" عبر تحليل آلاف التغريدات، واكتشف أنّ 40% من الحسابات الناشطة في هاشتاغات الساحل كانت وهمية، مع وجود أنماط نشرٍ متشابهة. الدراسة أظهرت أيضاً استخدام تقنيات Deepfake في فيديوهاتٍ مزعومةٍ لضحايا مما يجعل عمليات مقاومة التضليل المعلوماتيّ أكثر تعقيداً.
ومن بين أمورٍ أخرى، حاولت حملة التضليل تأجيج الكراهية والانقسامات الطائفية، وتصوير المجازر على أنها جزءٌ من صراعٍ أكبر بين العلويين والسُّنّة. في هذا السياق، رفض سكانٌ علويون مختلفون هذا الطرح بشكل قاطع، موضحين أن جيرانهم السّنة كانوا يحمونهم.
من بين أولئك الناشط سمير حيدر الذي فقد اثنين من أشقائه في مجزرة مدينة بانياس، كتب سمير على حسابه على فيسبوك في 8 مارس ما يلي: "أهلنا السنّة في بانياس خاطروا بحياتهم لإنقاذ عشرات العائلات من سكان حي القصور العلويين واستضافوهم في منازلهم وتم انقاذي في الدقائق الأخيرة".
هذه المنشورات، والعديد غيرها، لاقت انتشاراً واسعاً في الفضاء الرقميّ وساهمت في الحدّ من آثار الدعاية والتضليل الإعلامي، الذي يحاول إشعال فتيل الانقسامات الطائفية.
بياناتٌ ودعواتٌ للتحرك غابت عنها كبرى المنظمات المدنية
برز دور المبادرات الفردية أيضاً في مساحة بيان الأحداث للرأي العام ومحاولات تحريكه أو توجيهه، ومن أهم الأمثلة كان الفيديو الذي بثّه الباحث والناشط السوري زيدون الزعبي الذي ظهر وعلى وجهه آثار الصدمة ليبعث بثلاث رسائل إلى كلٍّ من: الشباب العلويين ألا ينجرّوا وراء دعوات فلول النظام لحمل السلاح ضدّ الدولة، ويناشد شباب السنّة الذين هبوا لدعم الأمن العام أن يعودوا إلى منازلهم، ويناشد الحكومة للإسراع في تشكيل حكومةٍ شاملةٍ غير إقصائية. حصد الفيديو ملايين المشاهدات وآلاف المشاركات على فيسبوك.
على مستوى التنظيمات يمكن القول إنّ أبرز الفاعلين الذين نشطوا في الحيّز العام منذ اليوم الأوّل للمجازر كان شبكة وصل، وهي إطارٌ مدني يضم ناشطين وناشطات من مناطق سورية مختلفة تفاعلت بنشاطٍ مع الاحداث، حيث نشرت في 7 آذار/ مارس بيانها المندّد بأعمال القتل التي طالت عناصر الأمن العام والمدنيين في الساحل وحمّلت الدولة مسؤولية حماية المدنيين وطالبت بمحاسبة المسؤولين عن تلك الأعمال. كذلك نظّمت "وصل" وقفات احتجاجية عدّة في دمشق والسويداء ودول أوروبية خلال الأيام التالية.
بخلاف ذلك، يبدو أنّ معظم منظّمات المجتمع المدني السورية الكبرى تعاملتْ بحذرٍ مع أحداث الساحل، ما ترك فراغاً شغلته المنظمات المحلية الأصغر حجماً، والتي تنشط بشكل أساسي في مناطق الساحل. ففي حين تطوّرَ الحراك المدني والسياسيّ في المناطق التي كانت خارج سيطرة النظام السوري طوال سنوات الثورة، وأنتج منظماتٍ كبيرة، بقي ذلك الحراك محدوداً في الساحل السوري. تقول نغم إنه "ليس في الساحل مجتمعٌ مدنيّ أو سياسيٌّ قوي ليقوم بأيّ تنظيم ذاتي، المنظمات الفاعلة في مدينة طرطوس مثلاً معدودةٌ على أصابع اليد الواحدة وبعضها تشكّل بعد سقوط النظام".
رغم ذلك حاولت تلك التنظيمات المحلية توجيه الرأي العام المحليّ من خلال بياناتٍ عديدة نُشرتْ خلال الأيام الأولى من الاحداث. أبرز تلك البيانات صدرت عن شبكة مسارات مدنية في الساحل السوري، التي دعت إلى رفض أيّ حملٍ للسلاح ضد الدولة ورفض التدخل الخارجي وشدّدت على أهمية الحوار مع السلطة الجديدة.
بدورها، أكدت الحركة المدنية الديمقراطية، ومقرّها طرطوس، في بيانها على أهمية تفعيل مسار العدالة الانتقالية كطريقٍ إجباريٍّ لتوطيد السلم الأهلي وقطع الطريق أمام التدخلات الخارجية. وهو ما أكدت عليه أيضاً حركة الشغل الديمقراطي وطالبت الحكومة بتشكيل لجنةٍ لتقصي الحقائق وإحالة مرتكبي الجرائم إلى المحاسبة وتعويض ذوي الضحايا. كما تمّ الربط بين الجرائم التي وقعت وبين "غياب الديمقراطية والمشاركة السياسية" في المرحلة الانتقالية التي تعيشها سوريا كما ورد في بيان التيار السوريّ المدنيّ الحر ومقره الولايات المتحدة. حمل البيان لغةً أكثر حدةً تجاه السلطة الانتقالية واتهمها بمحاولة إخفاء الأدلة على وقوع الجرائم.
المبادرات الإغاثية: جسور التضامن من إدلب ودرعا إلى الساحل
شكلت الحملات الإغاثية أحد أبرز أشكال التضامن مع الساحل، حيث انطلقتْ مبادراتٌ من مناطق متفرقة لدعم أهاليه. وهنا يبدو أنّ عدداً أكبر من المنظّمات السورية من مختلف المناطق السورية قد انخرطت في العمل. ففي إدلب، نظّمتْ منظمة "بسمة وزيتونة" حملةً نقف معاً لجمع التبرعات وايصال المساعدات. أما في درعا، فقد أطلق "فريق حوران" بالتعاون مع شبكة وصل وفريق Help Team حملة الشعب السوري واحد التي أوصلت سلالاً إغاثية إلى الأسر المتضرّرة في الساحل. كذلك سيّر الهلال الأحمر الكردي قافلة مساعداتٍ انطلقت من شمال شرق سوريا نحو المناطق المنكوبة في الساحل. أما في دمشق وريفها فنُظّمت حملةٌ تحت شعار كن عوناً قامت الرابطة المدينة الشبابية السورية خلالها بجمع التبرعات من 12 حيّاً ومنطقة.
وهنا أيضاً كان للمجموعات والتنظيمات المحلية في الساحل مساهمةٌ كبيرة. فعلى سبيل المثال، أطلقت "مؤسسة رنا الخيرية" حملةً لجمع التبرعات من المجتمعات المحلية غير المتضرّرة إلى المناطق الأكثر تضرّراً في الساحل. أما جمعية فضا للتنمية المجتمعية التي تنشط في طرطوس، فقد أطلقت حملة لجمع التبرعات من مدينة طرطوس، والتي مازالت مستمرة حتى تاريخ كتابة هذا المقال. لم يقتصر الأمر على الجمعيات والمنظمات المحلية، بل وشاركتْ فيه النوادي الثقافية والترفيهية، كما هو الحال مع مقهى شبابك في طرطوس الذي حوّل مقره إلى مركزٍ لتجميع التبرعات.
اعتمدت معظم هذه الحملات على تبرعات الأفراد والمجتمعات المحلية، وواجهت مخاطر جمّةً مثل غياب الطرق الآمنة خاصة خلال الأسبوعين الأوّلين ما بعد الأحداث. لذلك كان التنسيق مع فرق الهلال الأحمر السوري حيوياً، حيث كانت الأخيرة ترافق متطوّعي المنظمات والمجموعات المحلية أثناء تنقلهم لتوزيع المساعدات. تخبرنا نغم أنّ الانخراط في هذا النوع من الأنشطة كان ضرورياً لها على المستوى الشخصيّ لأنه شكل "محاولة لإنقاذ نفسي والخروج من حالة الصدمة التي مررت بها".
بعد ما يقارب أسبوعين من المجزرة، نشرت الشابة هيا "العلوية" وصديقتها سهى "السنية" مقطع فيديو قصيراً على فيسبوك تحت هاشتاغ "تعاهد سوري" قالتا فيه:
من قُتلوا من أهلي (هيا) والذين قُتلوا من أهلي (سهى)
هؤلاء أبناء هذا البلد، هذه دماءٌ سورية
ارحموا قلوبنا، ارحموا قلوب أمهاتنا
أحترم اختلافكم وعاداتكم، وأحترم آراءكم المختلفة
الطائفية كذبةٌ كبرى، ودعاتها أكبر الكذابين
المحرضون يشكلون خطرا علينا، المحرضون يقتلوننا
هيا وأنا أصدقاء العمر، سهى وأنا لن نفترق مهما حرّضتم
الذين يشبهوننا كثر، وأمثالنا سيبنون البلد من جديد.
قائمة بأبرز منظمات المجتمع المدني والناشطين الرئيسيين المدرَجين في هذه المقالة: