بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوريّ: الحلقة الثانية

في مواجهة العدوان، مجتمعٌ من دون دولة


منذ سقوط النظام، انتهكت إسرائيل السيادة السورية مرارًا وتكرارًا، فقتلت وجرحت عشرات المدنيين، واحتلت عسكريًا مساحاتٍ واسعة في الجنوب. وبينما تبدو الحكومة عاجزة عن الرد، حشد المجتمع المدني السوري جهوده لمناقشة الأحداث، والتعبير عن التضامن مع السكان المتضررين، وإطلاق حملة مناصرةٍ دولية.

29 نيسان 2025

سلطان جلبي

صحافي وباحث اجتماعي سوري مقيم في تركيا، مهتم بقضايا التغير الثقافي والاجتماعي والتنمية الاقتصادية في سوريا.

بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوري“ هي سلسلةٌ تهدف إلى تسليط الضوء على أصوات منظمات المجتمع المدنيّ السوري والناشطين/ات والصحفيين/ات، والذين يدافعون عن الحلول الإيجابية وحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ووضعها في سياقها الصحيح.

مع تصاعد الهجمات والتوغلات الإسرائيلية في سوريا، وضعف الموقف الحكومي في مواجهتها، ترُك أهالي الجنوب السوري وحدهم في مواجهةٍ مباشرة مع الجيش الإسرائيلي حيث قتل 15 منهم وجرح العشرات في هجومين استهدف أحدهما قرية كويا وآخر قرب مدينة نوى ما بين نهاية آذار ومطلع أبريل 2025.

رداً على ذلك شهدت البلاد موجةً غير مسبوقةٍ من التفاعل الشعبي والمدني المندد بالعدوان الاسرائيليّ. خرجت أصوات مجتمعية، مدنية، نسوية، وحقوقية من مناطق مختلفة، ترفض الاستباحة المتكررة للسيادة السورية وتنتصر لدماء المدنيين السوريين الذي قضوا بنيران الجيش الإسرائيلي في مناطق كويا ونوى في درعا.

يتناول هذا المقال ثلاثة جوانب من التفاعل السوري مع الاعتداءات الاسرائيلية وهي: الحراك الشعبي في الميادين، توجهات قادة الرأي في التحليل وبناء السرديات، وحراك منظمات المجتمع المدني من خلال البيانات والضغط داخل الأروقة الدولية.

مظاهراتٌ عابرة للجغرافيات والطوائف

أدى التوغل الإسرائيلي قرب مدينة نوى في درعا خلال يومي 2 و3 نيسان 2025 إلى مقتل تسعة مدنيين محليين وجرح 15 آخرين في قصفٍ بطائرةٍ مسيّرة على حرش الجبيلية القريب حسب الشبكة السورية لحقوق الانسان. تزامن ذلك مع قصفٍ جوي طال عدة مواقع في دمشق وحمص وحماة، ما فجّر موجة مظاهراتٍ غاضبة عمّتْ مدناً ومناطق سورية. في إدلب أدى المتظاهرون صلاة الغائب على أرواح الضحايا من أبناء درعا ورفعوا لافتاتٍ تركّز على التضامن مع درعا. أما في حلب فكانت المظاهرة تعبيراً عن التضامن مع غزة أيضاً، وهتف المتظاهرون بشعاراتٍ ضد إسرائيل. في دمشق ردد المتظاهرون هتاف "الشعب يريد إعلان الجهاد" بحماس، رافعين إعلام سوريا وفلسطين.

بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوريّ

08 نيسان 2025
أثارت موجاتُ المجازر في الساحل، التي استهدفت العلوييّن بشكلٍ خاص، ردّ فعلٍ قويّ من الناشطين/ات والجماعات، الذين وثّقوا الأحداث، وأعربوا عن تضامنهم وجمعوا الدعم المادي، ونددوا بالتضليل وانتهاكات حقوق الإنسان.

لم تغب ساحة الكرامة في السويداء عن المشهد حيث تظاهر المئات لإدانة العدوان الإسرائيلي والتأكيد على انتمائهم السوريّ. وقد برز خلافٌ بين المتظاهرين، بين مَن طالب بالتنديد بالتدخلات التركية أسوةً بالاعتداءات الإسرائيلية، وبين من اعترض على المساواة بينهما. كذلك شهدت مدن الساحل مصياف وطرطوس مظاهراتٌ حاشدة، هتف المتظاهرون فيها مرة أخرى "يا درعا نحنا معاكي للموت".

أما في مدينة نوى جنوب سوريا حيث مركز الاحداث، فقد اجتذب تشييع أبناء المدينة التسعة صبيحة الهجوم الإسرائيلي المشيعين من محافظة درعا ومن محافظاتٍ سوريةٍ أخرى. تحول التشييع إلى مظاهرةٍ كبيرة شارك فيها ما يقدر بعشرات الآلاف وتداول السوريون صورها بكثافةٍ عبر وسائل التواصل الاجتماعي. في الأيام التالية تحوّل مجلس عزاء الضحايا إلى منصةٍ لتبادل الرسائل والتعاضد بين سوريين من مناطق وطوائف مختلفة حيث توافدت مجموعات المعزيّن من أغلب المناطق السورية وشاركت فيها قوى مدنية ووجهاء، رجال دين وممثلو مؤسساتٍ دينية كالمجلس الإسلامي الإسماعيلي ورجال دينٍ مسيحيين ومسلمين توافدوا من دمشق وريفها ومناطق أخرى. اخترق الحراك الشعبي المناهض للعدوان الإسرائيلي التقسيمات الجغرافية والطائفية والاثنية وفي سوريا لتمهيد أرضيةٍ جديدةٍ للتماسك الاجتماعي في وجه تهديدٍ خارجيّ.

سرديات قادة الرأي

ليلة التوغل (03 مارس 2025) لم تكن هناك قواتٌ حكومية تحرس الحدود، حيث منعت إسرائيل ذلك مسبقاً وهددت بقصف أي وجود عسكري للحكومة. لذلك كان أهالي مدن نوى وتسيل، كما أهالي قرية كويا قبلهما، وجهاً لوجه أمام رتلٍ من الجيش الإسرائيلي الذي يتقدم داخل أراضيهم ومزارعهم. في تلك الليلة نادت مساجد المدينة تدعو  كل من لديه سلاحٌ للخروج، لوقف تقدم الرتل القادم، وبالفعل تجمع مئات الشبان المحليين بأسلحتهم الخفيفة والمتوسطة واشتبكوا عن بعد مع القوة المتوغلة نحو حرش الجبيلية واجبروه على الانسحاب. جاء الرد الإسرائيلي بالقصف الذي أدى إلى مقتل تسعةٍ وجرح 15 آخرين وأمام هذه الحصيلة الثقيلة في ليلة واحدة، تباينت أراء قادة الرأي من الناشطين السوريين بين من حيّا مقاومة درعا، وبين من دعا إلى عدم الانجرار إلى معركةٍ خاسرة.

نشر الناشط محمد العبد الله المقيم في الولايات المتحدة الامريكية تعليقاً مطولاً على حسابه عبر فيسبوك ورد فيه "سوريا بلدٌ مدمر، وبلا جيش. حتى في أوج هذا الجيش لم تكن سوريا يوماً على قدرةٍ عسكرية قريبة بتاتاً لدخول مواجهةٍ عسكرية مع دولة مسلحةٍ مثل إسرائيل. لذلك ربما على بعض مهرجي السوشيال ميديا احترام دماء أهلنا في درعا أولاً وعقول السوريين ثانياً". ربط العبد الله الهجمات الجوية الإسرائيلية على مطار حماة ومطار T4 ومواقع أخرى أثناء ليلة التوغل بتوسع النفوذ التركي في سوريا ودعا الحكومة إلى الاتجاه نحو الحكومات العربية، خاصة التي طبّعت علاقتها مع إسرائيل. من جانبه نشر الناشط ماجد عبد النور دعوةً على صفحته راجياً عدم دفع أهالي درعا المكلومين نحو التهلكة وكتب "أيها الناس لا تعشّموا أهل درعا وترموهم إلى التهلكة هذا عدوٌّ لا يرحم، نداءات الفزعة وخطابات الشعبوية والحماس تكاليفها باهظة على أهلنا وشبابنا هناك، الحكومة هي من تقرر كيف تتصرف.. توقفوا أرجوكم".

هذا الموقف الخطير بالنسبة لسكان درعا يركز عليه بشكلٍ أكبر الباحث مالك حافظ الذي يلقي بثقله على السلطة الانتقالية حيث نشر "أن بعض الأصوات المقربة من السلطة الانتقالية بدأت تتباهى بمقولاتٍ من نوع "سوريا جيشها شعبها"، وتدعو الناس إلى النفير والانخراط في معارك لا هوية لها. هذا ليس مجرد وهم، بل مراهقةٌ سياسية ... إذا كانت السلطة لا تملك تصوراً واضحاً للسيادة... فالأجدر بمَن ينطق باسمها أن يصمت عن الشعارات، بدل أن يسيء إلى شعبٍ أنهكته السنوات، ويطالبه بما لا تقدر عليه هي نفسها".

من درعا خرج الصحفي الشاب إبراهيم حريري في فيديو على حسابه على فيسبوك ليوجه رسالتين الأولى إلى السوريين في الخارج فقال "لسنا في معركة تحرير بل نحن نقاوم دخول المحتمل إلى بيوتنا فقط، المدح والثناء القادم من السوريين، في الخارج خاصة، مشكور. لكن البعض يحاول أن يجرّنا إلى ما لا نريد". أما الرسالة الثانية فيوجهها الحريري إلى أهالي السويداء ومفادها "إسرائيل تستغل غياب الدولة وسوف تستمر في الاعتداءات واختبار قدرة أهالي درعا على المقاومة وهذا شرفٌ نحن نقبله، لكن ما قد يساعدنا حقاً هو أنّ اشتراك أهل حوران من الدروز في مقاومة الاحتلال سيشكل إحراجاً حقيقياً لإسرائيل".

ضمور الدولة يقابله نشاط المجتمع المدني

داخل باصٍ يسير من حلب إلى درعا يغني مجموعةٌ من الشبان السوريين أغنية تقول "كرمالك درعا، فزينا فزعة، على الحرية، ما النا رجعة" ذلك الباص كان واحداً ضمن قافلة مرّت بحمص، الساحل، سلمية، ودمشق حتى وصلت إلى نوى للمشاركة في عزاء ضحايا الهجوم، ضمن حملةٍ أطلقتْها مجموعة متنوعة من النشطاء والمنظمات المحلية تحت عنوان #الطائفة السورية. الحملة هي أحد أوجه العمل المدني الموجّه نحو تعزيز التماسك الاجتماعي في سوريا وإيصال رسالةٍ إلى ذوي الضحايا والسكان المهدّدين في درعا، أنهم ليسوا وحيدين، وبأن "سوريا هي جسدٌ واحد وألم درعا هو ألمنا جميعاً، وأن وحدتنا هي سلاحنا في وجه كل معتدٍ" كمان ورد في نص الدعوة المنشورة للحملة.

سوريو هضبة الجولان: عام من "الهدوء المصطنع" في جغرافيا الاحتلال المنسي

18 تشرين الأول 2024
في السابع والعشرين من يوليو/تموز الماضي أصابت أهالي مجدل شمس فاجعة كبرى بعد سقوط صاروخ في ملعب كرة قدم، فأصاب وقتل أطفالاً ومراهقين أثناء تواجدهم في الملعب، لتصبح القرية (ومعها...

شهدت الساحة مبادراتٍ مدنية أخرى منها مبادرة روابطRawabet-  منظمةٌ مدنية تأسست حديثاً تضم نشطاء من مختلف الطوائف والمناطق السورية. زار بعض هؤلاء قرية كويا في درعا التي سقط فيها سبع ضحايا في قصفٍ إسرائيلي صباح 25 آذار الماضي. تحدّث النشطاء مباشرةً ضمن مجلسٍ ضمّ ذوي والضحايا وأهالي القرية، معبّرين عن دعمهم وتضامنهم. في كلمتها قالت سيدة متضامنة من السويداء "رسالتنا أننا معكم مهما كانت الخلافات، نحن مسؤولون مثلنا مثلكم عن الدفاع عن هذه الأرض وعن وحدتها واستقرارها... أنتم دفعتم الثمن هذه المرة لكنكم حميتم كل سوريا".

شبكة وصل أيضاً كانت حاضرة في ذلك المجلس وكانت قد أصدرت بياناً تعزي فيه بالضحايا وتدين العدوان وتطالب الحكومة بالتحرك. في وقت لاحق (28-03-2025) نظّمت الشبكة وقفة احتجاجية في ساحة الأمويين في العاصمة دمشق للتنديد "بالاحتلال الإسرائيلي".

إلى جانب التضامن وتعزيز التماسك الاجتماعي، ركّزتْ منظمات مجتمعٍ مدنيٍ سوريةٌ أخرى على الضغط والمناصرة ضمن الأروقة الدولية كما فعل المركز السوري للإعلام وحرية التعبير الذي قدم إحاطة بالانتهاكات ضمن الاجتماع الدوري لمجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة. كما أثير الموضوع في اجتماع ضم ممثلين عن المجتمع المدنيّ السوري، بينهم الدفاع المدنيّ السوري، في اجتماعٍ ضم وزير شؤون الشرق الأوسط وشخصياتٍ أخرى في المملكة المتحدة. كما نشطت الشبكة السورية لحقوق في إصدار بيان إدانة طالبت فيه بفتح تحقيقٍ دوليّ في الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، واعتبرتها "انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني".

على المستوى الدولي أيضاً، نشطت مجموعةٌ من المنظمات غير الحكومية السورية والدولية في إصدار بيان مشترك ضم ـ25 منظمةً أدانت الهجمات، وطالبت المجتمع الدولي بتحمّل مسؤوليته.

الحراك الذي استفزتْه الهجماتُ الإسرائيلية الأخيرة تجاوز لحظة الغضب الآنيّ ليتخذ طابعًا تراكميًا، جمع بين الاحتجاج الشعبي، والرؤية النقدية لقادة الرأي، والتحرك المنظّم للمجتمع المدني. ما يميز الحراك الحالي أنه لامركزيّ، متنوع، وغير مؤطرٍ بفصائل سياسية، ما يمنحه مصداقيةً وشمولاً مطلوبين في المشهد السوري المعقّد. في لحظةٍ صمتت فيها الحكومة، يبدو أن المجتمع المدني قرر أن يتكلم، وأن يعيد تعريف ما تعنيه السيادة، المقاومة، والتضامن.

قائمة بأبرز منظمات المجتمع المدني والناشطين الرئيسيين المدرَجين في هذه المقالة:

محمد العبدالله، المدير التنفيذي للمركز السوري للعدالة والمساءلة

ماجد عبد النور

مالك حافظ،كاتب وباحث

روابط

شبكة وصل

الشبكة السورية لحقوق الإنسان

مقالات متعلقة

من السويداء إلى غزة... انتفاضة واحدة

20 تشرين الثاني 2023
"تموضع الانتفاضة في السويداء إلى جانب غزّة، هو إعادة السوريين إلى موقعهم الطبيعي في تأييد القضايا العادلة عالمياً، وعلى رأسها غزة وفلسطين، وهي بذلك ترفض بعض التكتيكات السخيفة لبعض الساسة...
هربوا من حرب الأسد فاستقبلتهم الحروب الإسرائيليّة في غزّة

09 حزيران 2021
في هذا التحقيق تبحث حكاية ما انحكت في أوضاع السوريين (من أصول سوريّة ومن أصول فلسطينيّة) المقيمين في قطاع غزّة المحاصر بعد أن هربوا من حرب النظام السوري، فعايشوا حروبًا...
انطباعاتٌ أوليّة عن عودتي الخاطفة إلى سوريا/ السويداء

07 شباط 2025
"نصل السويداء ليلاً.. أدخل مدينتي التي أظنني أحفظ ملامحها كمسرى أوردتي على ظهر يدي، آتيها بلهفتي وشوقي وتوقي وآمالي ورهبتي من لقائها.. أستسلم لهذا الألم العميق البطيء والصاخب، شوقٌ وخوفٌ...
فصل الموظفين في السويداء .. مكافحة الفساد أم انتقام من الماضي؟

25 شباط 2025
"النظام السابق استغل دم شقيقي كي يبقى، والحكومة الجديدة تعاقبني على دمه، الذي أكاد أجزم أنه سال نتيجة رصاصة من الخلف، ربما كانت لرفضه أمراً يقتضي أذيّة أحد السوريين" هذا...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد