” بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوري“ هي سلسلةٌ تهدف إلى تسليط الضوء على أصوات منظمات المجتمع المدنيّ السوري والناشطين/ات والصحفيين/ات، والذين يدافعون عن الحلول الإيجابية وحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ووضعها في سياقها الصحيح.
في صباح 26 آذار كان قرابة 450 سياسياً كردياً يتوافدون على حديقة أزادي غرب مدينة القامشلي، في شمال شرق سوريا للمشاركة في مؤتمر وحدة الصف الكردي. الحدث الذي وُصف بالتاريخي تم بحضور ممثلين من أحزاب البارتي الديمقراطي الكوردستانيPDKS، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني PUK- العراق، ووفد من حزب مساواة الشعوب والديمقراطية الكردي DEM -تركيا، وكذلك ممثلين من وزارة الخارجية الامريكية والتحالف الدولي، وهو ما أكسبه زخماً يضاف إلى زخم توقيته الحرج. خرج المؤتمر بوثيقة سياسية سُميت وثيقة "الرؤية السياسية الكردية المشتركة" إلا أنها لم تنشر بشكل رسمي. وتداولت منصات التواصل الاجتماعي ومنصات إعلامية محلية نسختين غير متطابقتين للوثيقة (أنظر 1 و2) أبرز ما فيها المطالبة بـ" توحيد المناطق الكردية كوحدة سياسية إدارية متكاملة في إطار سورية اتحادية".
بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوريّ: الحلقة الأولى
08 نيسان 2025
في شوارع القامشلي وغيرها من مدن الشمال الشرقي احتفل آلاف المواطنين الكرد في الشوارع بعيد المؤتمر معبرين عن فرحتهم بتحقق "حلم الوحدة الكردية" الذي طال انتظاره. في مخيال غالبية الكرد المثقلين بهمهم القومي، فإن الوحدة هي أملهم الوحيد لتحصيل حقوقهم وسط التحول الذي تعيشه البلاد. أما على المستوى الوطني الأوسع فقد اختلفت الرؤى لمؤتمر وحدة الصف الكردي بين من يراه حدثاً تاريخياً يتوج عقوداً من النضال الكردي ويمهد للحلول على المستوى الوطني السوري، وبين من يراه مسرحية استعراضية لم تضف أي جديد للمشهد السياسي الكردي المتأزم داخلياً ووطنياً. في كلتا الحالتين يبقى هذا الحدث لحظة مفصلية كشفت عن تباعد التصورات حول القضية الكردية بين الحراك المدني الكردي وغير الكردي في سوريا. يغطي هذا المقال تفاعل المجتمع المدني السوري الذي ينظر له كمساحة جامعة وعابرة للانتماءات الفرعية. ويميز المقال بين تفاعل النشطاء المدنيين من الكرد ومن غير الكرد كاشفاً مدى الاختلاف بين مواقف الطرفين وأثر ذلك على وحدة وتجانس المجتمع المدني السوري وبذلك يفتح لنقاش أوسع حول الدور الذي يجب أن يلعبه المجتمع المدني في لحظة سورية المنقسمة.
تفاعل المجتمع المدني الكردي السوري
منذ سقوط نظام الأسد لم تهدأ مطالبات المجتمع المدني الكردي ومبادراتهم لإقامة حوار داخلي بين قطبي التنازع السياسي الكردي وهما حزب الاتحاد الديمقراطي PYD بإداراته الذاتية وقواه العسكرية (قسد) من جهة، وأحزاب المجلس الوطني الكردي ENKS من جهة أخرى. مطلع كانون الثاني 2025، أطلقت 38 منظمة مجتمع مدني كردية، بالإضافة لعشرات الشخصيات العامة ما سمي "مبادرة المجتمع المدني الكردي من أجل وحدة الصف السياسي الكردي" وعرضت المساعدة في تيسير جهود التوحيد والمشاركة فيها. في نفس الفترة كانت منظمة "زمين للتنمية وبناء السلام" تنفذ لقاءات موسعة مع قوى سياسية كردية مختلفة ضمن مبادرة "يداً بيد" والتي دعت إلى التوافق الكردي-الكردي وتعزيز دور المجتمع المدني ضمن ذلك التوافق.
هذا الاهتمام من قبل نشطاء المجتمع المدني الكرد بإطلاق حوار سياسي داخلي، يشاركون فيه، تصاعد أكثر قبيل انعقاد المؤتمر بمدة قصيرة، في 14 نيسان، أصدرت تسع منظمات كردية في المهجر بياناً داعماً واعتبرت المؤتمر خطوة مهمة في مسار بناء خطاب سياسي كردي سوري مستقل لكنه حذر من "اختزال التمثيل القومي (للكرد) في أطر حزبية مغلقة، دون إشراك القوى المدنية". وأضاف البيان "من المقلق جداً أنه حتى اللحظة، لم تصلنا نحن في المجتمع المدني، أية مسودة أو ورقة عمل توضح ماهية المطالب الكردية التي تم التوافق عليها بين الطرفين الحزبيين". ومضى البيان قائلاً بأن مطالب الأحزاب الكردية ليست واضحة.
يوضح الناشط الكردي فرهاد احمي المقيم في برلين، ومدير منظمة الأمواج المدنية (بيل)، هذا الأمر بالقول "كمجتمع مدني خارج اللعبة تماماً، مشاركة المجتمع المدني في المؤتمر كانت شكلية ولم يسبق المؤتمر حوار وطني".
وبالفعل من خلال البحث في المنصات الالكترونية لعشرات من منظمات المجتمع المدني التي تنشط في شمال شرق سوريا وجدنا أن منظمة وحيدة هي التي نشرت خبراً عن مشاركة أعضاء منها في المؤتمر وهي منظمة "كاف للتنمية". يوضح الناشط الكردي فرهاد احمي المقيم في برلين، وهو مدير منظمة الأمواج المدنية (بيل)، ذلك بالقول "كمجتمع مدني خارج اللعبة تماماً، مشاركة المجتمع المدني في المؤتمر كانت شكلية ولم يسبق المؤتمر حوار وطني. الأخطر أنه لا يوجد قنوات وآليات راسخة للتواصل والتفاعل بين القوى السياسية والمجتمع الكردي في سوريا، أحزابنا تقدم الشعارات وتتحاشى تقديم المعلومات للجمهور والتفاعل معه".
بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوريّ: الحلقة الثانية
29 نيسان 2025
تعليقاً على محدودية مشاركة منظمات المجتمع المدني في المؤتمر، يقول مدير منظمة مجتمع مدني تنشط في مناطق الحسكة (فضل عدم ذكر اسمه)، ضاحكاً "الأحزاب السياسية الكبيرة بالكاد حصلت على كرسي في المؤتمر فما بالك بنا نحن جماعة المجتمع المدني… غالبية (المشاركين في) المؤتمر كانوا من الأحزاب والمؤسسات المحسوبة على الإدارة الذاتية، أما البقية فكانوا قيادات من أحزاب المجلس الوطني الكردي".
من جانبه، نشر الناشط مصطفى إسماعيل عبر حسابه على فيسبوك قبل أسبوع من المؤتمر، تعليقاً اعتبر فيه أن المؤتمر الكردي "هو خلاصة تفاهم الطرفين الكرديين الرئيسين في سوريا (الموالي للبارزاني والموالي لأوجلان) وسيكون نتيجة له، مع رجحان الكفة لصالح مؤيدي أوجلان. لن يشهد المؤتمر نقاشات مهمة أو جدية فكل الخطوط العريضة الأساسية وبعض التفاصيل مقررة سلفاً".
مع ذلك، بقي الانطباع العام حيال المؤتمر إيجابياً في الوسط المدني الكردي كما يقول فرهاد أحمي لحكاية ما انحكت "نحن ايجابيين تجاه المؤتمر لأنه خطوة مهمة على الصعيد المعنوي للكرد، كما أنه أنتج وثيقة تشكل أساساً ضرورياً للتفاوض حول القضية الكردية مع دمشق". كذلك نشر العديد من قادة المجتمع المدني الكردي ترحيبهم بالمؤتمر ومخرجاته ومنهم هوزان ابراهيم، مدير منظمة امباكت ومقرها برلين، الذي نشر عبر حسابه على فيسبوك "الاتفاقية التي وقعتها الأطراف الكردية في ٢٦ نيسان ٢٠٢٥ إنجاز مهم للكرد عموماً و مقدمة لحراك سياسي سوري وطني سيفتح المجال للأطراف السياسية و المكونات الأخرى بتحديد مطالبها و الضغط لمشاركة كاملة في إدارة البلاد".
تفاعل المجتمع المدني السوري غير الكردي
مشهد المؤتمر الكردي من الداخل السوري بدا أكثر سلبية، ورغم الاهتمام البالغ به في أوساط نشطاء المجتمع المدني في الشمال السوري وفي دمشق وغيرها، إلا أن غالبية المنظمات لم تصدر موقفاً معلناً من المؤتمر. رصدنا جهتين علقتا على الأمر ببيانات معلنة وكلتاهما منظمات أسسها نشطاء عرب ينحدرون من شمال شرق البلاد. منها بيان "التجمع الوطني الشباب العربي" الذي بدأ بالتأكيد على الحقوق القومية للكرد وعدم تضارب ذلك مع وحدة البلاد لكنه حذر من أن مخرجات مؤتمر وحدة الصف الكردي تدفع بإتجاه استقطاب مجتمعي لا مصلحة لأحد فيه، وانتهى البيان بالقول "ندعو السادة في الأحزاب الكردية إلى إعادة النظر بطروحاتهم المعلنة التي أثارت حفيظة السوريين، والعمل بروح التوافق الوطني، وتغليب مصلحة سوريا بكل مكوناتها".
موقف المنظمات النشطة في شمال غرب سوريا، أي مناطق سيطرة المعارضة سابقاً، تجاه المؤتمر الكردي يشرحه لحكاية ما انحكت الناشط المدني أسامة الحسين المقيم في إدلب، بالقول " ما يحدث في شمال شرق البلاد بالنسبة لنا غامض، لا نعلم من يتفاوض وعلى ماذا، لكن مما يصلنا عبر الإعلام يمكنني القول أن الرفض هو الموقف العام تجاه المؤتمر، فناشطوا الشمال يدعمون مبدأ المواطنة المتساوية ويرفضون أي حقوق إضافية أو امتيازات من شأنها أن تهدد جهود بناء الدولة ....".
في نفس المسار جاء موقف "تجمع أبناء الجزيرة"، وهو ائتلاف مدني ذو توجهات سياسية، لكن بحدية أكبر بما لا يقاس حيث بدأ بيانهم بوصف المؤتمر بأنه "امتداد للمحاولات المشبوهة لتفتيت النسيج الوطني السوري". وانتهى البيان بالقول "ندعوا جميع السوريين الأحرار للوقوف صفاً واحداً في وجه كل مشروع يستهدف وحدة سوريا".
خلافاً لتلك البيانات، اقتصر جل التفاعل في الفضاء الرقمي على تفاعلات الأفراد وشمل نشطاء مدنيين وشخصيات سياسية وأكاديمية. بعض الأصوات رحبت بالمؤتمر كالأكاديمي السوري المقيم في فرنسا سام دلة الذي نشر على فيسبوك "بيان المؤتمر الوطني الكردي يتضمن العديد من المبادئ الجامعة والتي يمكن التأسيس عليها لإعادة بناء سورية كوطن يتسع لجميع أبنائه للعيش بسلام وعدالة". كذلك علقت الصحفية والناشطة فرح يوسف عبر المنصة ذاتها بالقول "مؤتمر وحدة الصف والموقف الكردي خطوة ممتازة ومهمة، لدي تحفظات على بعض المخرجات، لكن مبادئ المواطنة والمساواة والعدالة اللي تبناها أتفق معها تماماً، وأيضاً انطلاقهم من سوريا موحدة لا مركزية متعددة".
القامشلي: هل تبدأ منها الحرب العالمية الثالثة؟!
20 أيار 2020
موقف المنظمات النشطة في شمال غرب سوريا، أي مناطق سيطرة المعارضة سابقاً، تجاه المؤتمر الكردي يشرحه لحكاية ما انحكت الناشط المدني أسامة الحسين المقيم في إدلب، بالقول " ما يحدث في شمال شرق البلاد بالنسبة لنا غامض، لا نعلم من يتفاوض وعلى ماذا، لكن مما يصلنا عبر الإعلام يمكنني القول أن الرفض هو الموقف العام تجاه المؤتمر، فناشطوا الشمال يدعمون مبدأ المواطنة المتساوية ويرفضون أي حقوق إضافية أو امتيازات من شأنها أن تهدد جهود بناء الدولة… المجتمع المدني في الشمال يدعم خيار الدولة، وكما قبلوا هيئة تحرير الشام هم مستعدون لقبول قوات سوريا الديمقراطية كشريك في البناء إذا التزموا مبدأ المواطنة".
فجوة المعلومات حول التركيبة والديناميات السائدة في شمال شرق سوريا تبدو مشكلة حاضرة لدى الناشطين في المجال العام في باقي المناطق السورية أيضاً.
يحدثنا الناشط المدني جلال الحمد وهو مدير منظمة "العدالة من أجل الحياة" التي تنشط بشكل أساسي في مناطق الشمال الشرقي ووسعت رقعة عملها بعد سقوط النظام بالقول "لقد نظمنا سلسة جلسات حوارية في مختلف المحافظات السورية منها السويداء، حمص وريف دمشق لعرض ومناقشة واقع منطقتنا، ووجدنا أن الناس مهتمة لكنها لا تعرف شيئاً مما يحدث هناك، يميل الغالبية إلى اختزال المشهد بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والأمر يكشف ضعف منظومة الإعلام لدينا وتحيزه إما لصالح الحكومة أو لصالح قسد".
خاتمة
عموماً، أعاد المؤتمر فتح النقاش حول موقع القضية الكردية في سوريا ليس فقط من باب الحقوق القومية، بل من زاوية العلاقة بين المجتمع المدني والتمثيل السياسي. كما أثار أسئلة حول مدى قدرة المجتمع المدني على لعب دور الجسر بين الانتماءات، لا مجرد التعبير عنها. غياب الشفافية والحوار البناء، إلى جانب عوامل أخرى، يهدد بفقدان المجتمع المدني لدوره كفاعل محايد وبنّاء، وتحوله إلى طرف إضافي في الاستقطاب. لذا فالمجتمع المدني أمام اختبار حقيقي اليوم.
قائمة المنظمات والناشطين/ات الذين تمت الإشارة اليهم في المقال