(اللاذقية)، الثالث من تموز/ يوليو 2025 كان اليوم الثالث لاندلاع أقسى الحرائق التي شهدتها غابات شمال اللاذقية منذ نصف قرن فأكثر. في صباح ذلك اليوم وصلت أنباء سيئة باتجاه النيران نحو منطقة محمية "الفرلّق" أو "الفرنلق" بلفظ أهل الساحل السوري لها، وفي التاسع منه وصلت إلى حدودها فعليا. وفي تلك الساعات العصيبة من التوقّع والترقّب والخوف، وقف عصام سليمان، المهندس في دائرة الحراج التابعة لمديرية الزراعة، أمام باب المحمية مع مجموعةٍ من عمال الحراج يصلّون لله كي لا تصل النار إلى نواة المحمية المكوّنة من أشجار العذر لأنّ وصولها سيعني انقراضاً نهائياً لهذا النوع من الوجود في سوريا.
أشجار العذر هي نوعٌ نادر من السنديان يعيش منذ قرون في هذه البقعة من الساحل السوري، وتُعدّ آخر بقايا الغابات التي غطّت سوريا قبل آلاف السنين. يروي عصام: "صباح ذلك اليوم العصيب، راقبنا اندلاع حرائق في جبل زاهية القريب من المحمية واتجاهها نحونا. ساعدت الرياح الغربية بنقل النيران بسرعة، وباتت نواة المحمية (غابة العذر) في خطرٍ محتمل".
خلال دقائق شقّت النداءات طريقها إلى منصّات التواصل الاجتماعي والواقع بحثاً عن متطوّعين للدفاع عن الوحش المُتّجه نحو أحد آخر الأمكنة الطبيعية التي تجمع ذاكرة السوريين في إطارٍ واحد. تجمع هذه المحمية ذكريات آلافٍ مؤلفة من السوريين عن رحلاتٍ مدرسية لم تتوقّف منذ إعلانها محميّةً عام 1999 (القرار رقم 17/ت). وليس هذا فقط: تمتلك هذه المحمية آخر البقايا من الغابات الطبيعية التي كانت تغطي سوريا منذ العصور القديمة.
في ذلك اليوم، كما يقول عصام والعمال الذين رافقوه في عمليات إطفاء الحريق في منطقة الفرلّق "بدأ سباقٌ متسارع مع الزمن. نهضت فرق الحراج التابعة لمديرية الزراعة ومعها فرقٌ مساعدة أخرى ومتطوعون وأهالي، بقليلٍ من الموارد وكثيرٍ من الحب والمقاومة، نحو إنقاذ رئة سوريا". لم تكن معركةً لحماية محميةٍ فقط، بل كانت دفاعاً عن البقية الباقية من أرواح السوريين في طبيعةٍ آوتهم منذ العصور الأولى.
محميّة الفرلّق: إرثٌ طبيعيٌّ حيّ
بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوريّ : الحلقة الخامسة
22 تموز 2025
ليست محمية الفرلّق فقط أكبر كتلةٍ غابية متصلة في سوريا بمساحةٍ تتجاوز 5360 هكتاراً، وتبعد نحو 47 كم عن مدينة اللاذقية، وفق حديث المهندس مدير الزراعة في اللاذقية، عبد الرزاق السمر، في لقائه مع سوريا ما انحكت بل إنها "إحدى المشاريع الناجحة التي جمعت بين البيئة والمجتمع في هدفٍ واحد حيث تمّ اتبّاع النهج التشاركيّ مع المجتمع المحليّ في حمايتها وإدارتها، وهي تعتبر من أهمّ النظم البيئية تنوّعاً لجهة التنوع النباتي الحراجي (أشجار العذر والسنديانيات والصنوبريات) والتنوع الحيوانيّ (غزلان وذئاب وطيور وخنازير، النمس، ابن عرس، القط البري، السنجاب السوري) وهو ما يشكّل نقطة جذبٍ سياحيةٍ كبيرة".
مدير المحمية المهندس سومر مريم، شرح لنا أنّ: "النهج التشاركيّ في محمية الفرلّق برز كنواة نجاحٍ ريادية جمعت بين حفظ البيئة والتنمية الريفية، إذ أتاحت مشاركة المجتمع المحلي في استثمار موارد المحمية وإنتاج أكثر من 60 صنفاً من الأغذية والصابون والمربيات، ما وفّر دخلاً معيشياً لمئات الأسر وساهم في تعزيز ارتباطهم العضوي بحماية المكان"
يوضح المهندس سومر أنّ النهج التشاركي دعم حياة مئات الأسر وجعل المجتمع أكثر استعداداً واستنفاراً في الدفاع عن المحمية ساعة الخطر. يضيف: "كان الأهالي شركاء حقيقيين في الإطفاء والمراقبة، كما هم شركاء في العيش من خيرات المحمية".
لهذه الأسباب وغيرها كان وصول الحرائق إلى محيط المحمية خبراً سيئاً على الجميع. ولأجلها اجتمعت جهود المشاركين في إطفاء حرائق اللاذقية الأخيرة.
وقائع الحرائق الأكبر في تاريخ سوريا
بدأت حرائق اللاذقية الأخيرة صباح الأوّل من تموز 2025، في منطقة جبل التركمان في ريف اللاذقية الشمالي. "في البداية، ظن السكان أنّ الحريق صغيرٌ وسوف تتوقف النار بسرعة، لكن للأسف وخلال ساعات قليلة تصاعدت ألسنة اللهب بشكلٍ غير مسبوق، مدفوعةً برياح شمالية غربية جافة وسريعة تجاوزت سرعتها خمسين كيلومتراً في الساعة، ودرجات حرارة اقتربت من 48 درجة مئوية، لتخرج النيران بسرعة عن السيطرة" كما يروي المهندس "عصام".
بحلول الليل امتدّت النيران بوتيرةٍ مُتسارعة باتجاه قرى وبلدات عدّة منها الميدان، عين البيضا، كسب، والسراج القريبة، ومع اشتداد الرياح واستمرار الجفاف، تمدّدت الحرائق بعمق نحو مناطق جبلية وعرة صعبة الوصول مثل قمّة النسر، ووصلت جبهة النيران الفعّالة إلى أكثر من 23 كيلومتراً في اليوم الأوّل، بحسب متابعتنا لمُجريات الحريق ومقاطعتها مع تقارير كلٍّ من الشبكة السورية لحقوق الإنسان والمفوضية الأوروبية (وافق الاتحاد على توفير صور الأقمار الصناعية لدعم جهود الإغاثة وتقدير حجم الأضرار باستخدام صور القمر الصناعي (Copernicus) حسب تصريحات وزارة الطوارئ السورية.
لم تكن معركةً لحماية محميةٍ فقط، بل كانت دفاعاً عن البقية الباقية من أرواح السوريين في طبيعةٍ آوتهم منذ العصور الأولى.
رغم التحذيرات المُبكّرة من السكان المحليين والمتطوّعين ورجال الإطفاء، لم تبدأ الاستجابة الدولية الواسعة للحرائق إلا مع اليوم الثالث للكارثة (3 تموز/ يوليو ٢٠٢٥). ومن حسن حظ المحمية، أن وصلت طلائع الدعم العربي والدولي ـ طائرات إطفاء وفرق إنقاذ ـ بعد مرور يومين على اندلاع الحريق، وهو ما سمح لفرق مديرية الزراعة الحراجية التركيز على إنقاذ المحمية بشكلٍ خاص حيث توسّعت رقعة انتشار النيران في القرب منها. من المفارقات المؤلمة أنّ الفرق والطائرات هبطت في مطار حلب لا في مطار حميميم القريب من اللاذقية.
مواجهة النيران حول المحميّة: تفاصيل المعركة
بدأت الكارثة بالاقتراب من محمية الفرلّق في التاسع من تموز/ يوليو ٢٠٢٥ حوالي الواحدة ظهراً، حين وصلت أنباء عن اندلاع حرائق في جبل زاهية القريب، وسرعان ما ساعدت الرياح الغربية النيران على الانتشار بسرعة باتجاه نواة المحمية، غابة العذر، والتي بقيت في تلك الساعات الخطرة آمنة مؤقّتاً. يقول مدير زراعة اللاذقية، المهندس عبد الفتاح السمر لسوريا ما انحكت: "أول إجراءٍ اتخذناه كان شقّ خط نارٍ عازل وهو مساحةٌ تُزال منها الأشجار والأعشاب لوقف تقدم النيران، عند نقطة الـ 45 العليا، باتجاه نبع الحرامي، مستخدمين بلدوزرات وفرقاً من العمال المدربين على مثل هذه الأعمال، ونقطة الـ 45 هي منطقة مرتفعة في المحمية، هؤلاء العمال هم من مديرية الحراج ولديهم خبرةٌ كبيرة في التعامل مع الحرائق في المناطق الجبلية مثل منطقة المحمية وبعضهم لديه سنوات خبرةٍ تتجاوز العشرين عاماً عدا عن أنّ قسماً منهم من أبناء المنطقة ويعرفونها بالشبر".
دمار الغابات في الساحل السوري
16 كانون الثاني 2025
في تلك الأثناء بدأ عددٌ من جيران المحمية بمغادرة منازلهم بعد وصول الدخان إلى المنطقة. تروي السيدة جمانة الحسين من سكّان قرية الخضراء أنّها جمعت ما قدرت عليه من أشياء هامة مع أولادها الثلاثة وبدأت بالمشي صوب بللوران القريبة منها. تقول: "لم يكن الوقت يسمح إلا بحمل الضروريّ فقط، وبعدها بدأنا نزحف بين الطرقات المتربة باتجاه بللوران القريبة، نبحث عن مأوى آمن بعيداً عن ألسنة اللهب والدخان المخيف".
في ظلّ هذه الظروف، ومع خروج كثيرٍ من المدنيين من المنطقة، بقي عددٌ من الرجال والنساء الذين آمنوا بحماية هذا الكنز الطبيعي ووقفوا إلى جانب فرق الإطفاء، التي لم تنم لعدّة ليالٍ وبقيت أحياناً بلا طعام. يروي المهندس السمر: "انتقدَنا البعضُ لاهتمامنا بالمحمية على حساب أشجار الزيتون والحمضيات المحيطة، وهذا حقهم، لكننا كنا ندافع عن إرثٍ لا يمكن تعويضه بسهولة، يمكن تعويض الأشجار المثمرة خلال سنوات ولكن الأشجار التي عمرها مئة عامٍ لا يمكن تعويضها. بعض هذه الأشجار يتجاوز عمرها 200 عام، أي أنها أقدم من الجمهورية السورية الحديثة (منذ 1946)".
يشير رئيس دائرة الحراج في مديرية الزراعة المهندس ماهر محمد في سياق الحديث المشترك مع السيد مدير الزراعة إلى أنّ "أسباب الحرائق مزيجٌ من التغيّر المناخي، ومخلفات الحرب، وأما الاتهامات بفعلٍ بشري فقد نفتها السلطات ولكن لا يمكن استبعادها، كما أنّ عدم متابعة أمور المنطقة لجهة تعزيل الطرق الحراجية نتيجة ظروف ما بعد سقوط النظام والجفاف الكبير، وفصل أكثر من خمسمائة عامل من قبل الدولة بحجّة عدم الحاجة إليهم من المخافر الحراجية أثّر كثيراً على مراقبة الحرائق. حالياً لدينا خمسة عشر مركز مراقبةٍ فقط على امتداد تلك المساحات الكبيرة. نتمنى استعادة هؤلاء العمال خدمةً لهذه الغابات ودفعاً لتكرار ماحدث".
حجم الحرائق وقت وصولها إلى المحمية تجاوز العشرة آلاف هكتار فيما خسرت المحمية بعضاً من أطرافها بحدود ألف دونم. شارك في العمليات خلال أيام الحريق أكثر من ثلاثمائة عامل. بعضهم ومن دون مبالغة بقي أياماً دون نوم. "استخدمنا مختلف أنواع الآليات والمعدات المتاحة لنا، ومنها البلدوزرات والتركسات رغم الأعطال الكثيرة التي لدينا بسبب تأخر الميزانية لهذا العام" وفق المهندس ماهر محمد.
في تلك الأحداث عسكر الجميع في موقع المحمية. كانت مهمّة إنقاذ المحمية على عاتق الكادر الوظيفي والعمال من المديرية إضافة إلى جهود الفرق الأخرى التي وصلت للمشاركة.
بدأت المعركة الحقيقية في (10 تموز/ يوليو). يروي لنا عصام :"تفقدنا غابة العذر، ولحسن الحظ كانت سليمة، لكن الخوف جاء من الجهة الشمالية الشرقية حيث البؤر المشتعلة في جبل زاهية. بعد الظهر، حوالي الرابعة مساءً، ظهرت أصعب لحظة: دخلت النيران إلى أطراف المحمية من جهة منطقة (الكبير)، وتمّ التعامل معها بفرقتين من مركز بللوران وبلدوزر. في حين ظهرت البؤرة الثانية قرب المدخل الغربي حيث وصل شررٌ إلى هناك وجرى إخماده بسرعة مع تضرّر قرابة خمسة دونماتٍ من الشجر المتفرق. مع المراقبة، وحوالي السابعة مساءً غيّرت الرياح اتجاهها فجأة، ونقلت شرراً إلى الجهة الغربية. كاد الحريق يدخل المحمية لولا تدخل فرق الحراج المباشر".
يروي المهندس السمر: "انتقدَنا البعضُ لاهتمامنا بالمحمية على حساب أشجار الزيتون والحمضيات المحيطة، وهذا حقهم، لكننا كنا ندافع عن إرثٍ لا يمكن تعويضه بسهولة، يمكن تعويض الأشجار المثمرة خلال سنوات ولكن الأشجار التي عمرها مئة عامٍ لا يمكن تعويضها. بعض هذه الأشجار يتجاوز عمرها 200 عام، أي أنها أقدم من الجمهورية السورية الحديثة (منذ 1946)".
خلقت تضاريس المنطقة صعوباتٍ في عمليات المراقبة والإطفاء، يقول العامل نزار دوجي: "اعتبرنا المعركة مع النار معركة وجود، قمنا بمدّ خراطيم مياهٍ في محيط المحمية بطولٍ تجاوز ألفاً وخمسمائة متراً. زاد احتمال وجود مخلّفات الحرب من ألغام وقذائف من المخاطر، كان مبنى المحمية الأساسي مقرّاً عسكرياً سابقاً، وقد احتوت المناطق المحيطة على ألغامٍ وقذائف غير منفجرة، ما زاد من مخاوفنا ولكن الحمد لله تجاوزناها".
من دون مبالغة، عملت الفرق هنا بكثيرٍ من الصمت والتفاني. يروي فرحات عيسى، العامل في فرقة إطفاء بللوران الحراجية، لسوريا ما انحكت: "نتيجة الحرائق المحيطة استقبلت المحمية أنواعاً من الكائنات الحية مثل الغزلان التي كانت في تلك الأجواء تبحث عن الماء للشرب. استُقبلت هذه الكائنات بالترحاب. لكن القضية لم تنته. في اليوم التالي كانت القصة الأصعب. في الحادي عشر من تموز صباحاً بعد ليلٍ من الرعب انتشرت النيران من نقطة الـ45 إلى نبع المر. عملت إحدى عشرة فرقة حراج وعددٌ من الإطفائيات من دون توقف. وفي الوقت نفسه بدأنا التحضير لحماية منطقة كسب بنقل آلياتٍ ثقيلة من مواقع تمّ تأمينها".
وصل عدد أفراد الطواقم وفرق الدفاع المدني المشاركة في هذا اليوم الحاسم إلى أكثر من خمسمائة عامل وموظف وإداريّ إضافةً إلى الفرق الدولية المشاركة (التركية والأردنية والعراقية)، يشير المهندس عصام إلى أنه "لحسن الحظ فإنّ الحرائق هنا كانت أرضيةً ولم تطل الارتفاع النباتي وهو ما ساعد في ملاحقتها وإخمادها ولكن الخوف كان في احتمال تجددها مرةً ثانية".
بداية النصر
غابات سوريا تتلاشى
29 نيسان 2024
مع هبوط المساء، وبسبب الرياح، اندلعت حرائق جديدةٌ في منطقة نبع المرّ، وجرى شقّ خطّ نارٍ عريض بثلاثة بلدوزرات لمنع الانتشار. يقول عصام: "تسبّب الدخان المتصاعد من كل الجهات بصعوبةٍ في التنفس لدى كثيرٍ من المشاركين، ولكن لحسن الحظ لم تكن هناك إصاباتٌ مباشرة بالحروق أو الوفاة رغم ارتفاع ألسنة اللهب أمتاراً عدة وتغيّر اتجاه الرياح عدة مرات".
في (12 تموز/ يوليو) يروي عصام: "نقلنا بلدوزرين وفرقتي عمّال إلى جبل زاهية لاستكمال الحماية مع إزالة الجذوع القديمة لمنع انتقال الشرر. ومع حلول المساء، وبعد ثمانية أيام من العمل المتواصل، سيطرنا على 80% من المحمية. إحصاء الأضرار أوضح اقتصار الحرائق على المنطقة الجنوبية من المحمية (حريق أرضي وصنوبر محترق). وفي الوقت نفسه حُوصرت النيران في نبع المرّ بعد 12 ساعة من العمل المتواصل".
لم يهدأ العمل رغم توقف وخفوت قوة النيران، يشير المهندس السمر إلى أنه "في الثالث عشر من تموز/ يوليو بدأت مرحلة المراقبة النهائية. بعد ثمانية أيام من العمل المتواصل ليلاً ونهاراً تمكنت كوادر الحراج بالتعاون والتنسيق مع الدفاع المدني باستخدام الآليات الثقيلة التابعة لمشروع استصلاح الأراضي وست فرق حرائق وخمس إطفائيات بالسيطرة على جميع محاور محمية الفرنلق وحماية نواة المحمية وغابة العذر وأكثر من 80% من محمية الفرنلق. اقتصرت الأضرار على الجهة الجنوبية للمحمية (حريق أرضي) وعددٍ من أشجار الصنوبر. واليوم هناك فرقتان من العمال فيهما حوالي عشرين عاملاً تراقبان عمليات التبريد والمراقبة حتى اليوم (21 تموز)".
حجم الكارثة والتساؤلات
بين عام 2019 والعام الماضي (2024) وقع أكثر من أحد عشر ألف حريقاً في سوريا، وتشير تقارير المرصد العالمي للغابات وهو منصّةٌ دولية تعتمد على بيانات الأقمار الصناعية التابعة لـ NASA وESA أنّ ربع الغابات في الساحل السوري قد بات طيّ النسيان. سجّل شهر حزيران/ يونيو 2025 رقماً قياسياً في عدد الحرائق بواقع 1190 بؤرة نيران، تشير هذه الوقائع إلى تزايد الأخطار على البقية الباقية من الغابات السورية وأنها في وضعٍ حرج.
ووفق تقديرات وزارة الطوارئ السورية ومنظمة الأمم المتحدة فقد كانت أبرز الخسائر المسجّلة: احتراق نحو 15 ألف هكتاراً من الغابات والأراضي الزراعية، ونزوح آلاف السكان من القرى القريبة، إضافةً إلى فقدان مئات آلاف الأشجار المعمّرة، وتضرّر التنوع البيولوجي في المنطقة بشكلٍ بالغ. قدّر تقرير Copernicus أنّ 4% من الغطاء النباتي في الساحل السوري تعرّض للتلف المباشر، بينما وثّق فقدان مساحاتٍ واسعة من الزيتون والصنوبر والبلوط في محيط قسطل معاف، الفرنلق، والميدان، وجوار كسب صعوداً إلى بعض أطراف أرياف حمص وطرطوس.
تُثير الحرائق الضخمة، التي اجتاحت غابات اللاذقية هذا العام، العديد من التساؤلات حول أسبابها الحقيقية، إذ لا يمكن اعتبارها مجرّد كوارث طبيعية عابرة. تشير بعض الدلائل إلى وجود عوامل معقّدةٍ قد تتراوح بين الإهمال، التقصير في الإدارة، وتأخُّر الاستجابة، ما مكّن النيران من الانتشار بهذا الشكل الواسع. بعض المصادر في قوى الحراج والدفاع المدني لمّحت إلى أن تقليص عدد العاملين وإبعاد ذوي الخبرة قبيل موسم الحرائق ربما قلّل من القدرة على التصدي المبكر للنيران.
تعوّدنا، نحن السوريين، في العقود السابقة على بدء موسم حرائق غاباتنا في فصل الخريف بين أيلول/ سبتمبر وتشرين الثاني/ نوفمبر كلّ عام. ولكن العام الحالي 2025 شهد اندلاع الحرائق مبكّراً على غير العادة متأثراً بفترة جفافٍ حادة لم تشهدها المنطقة منذ خمسين عاماً، حيث غابت الأمطار منذ تشرين الثاني 2024، مع رطوبةٍ منخفضة لم تتجاوز 11%، إضافةً إلى رياحٍ شمالية غربية شديدة الجفاف أدّت إلى تأجيج الأرض والمحاصيل التي غدت قابلةً للاشتعال، وفق دراسة أصدرتها جامعة ميريلاند الاميركية.
وتعزو الدراسة السابقة ودراسات أخرى هذه الحالة إلى سنوات جفافٍ متعاقبة بين 1998 و 2019، مسجّلةً بحسب مؤشري SPI (يقيس شحّ الأمطار مقارنة بالمتوسط المناخي) وRDI (النقص المطري وارتفاع درجات الحرارة معاً) جفافاً حاداً ومزمناً في الساحل السوري مع تسارعٍ في الاحتباس الحراري، ما جعل نحو 90% من الأراضي الزراعية السورية في خطرٍ دائم من تقلّبات الجفاف المتكررة.
الأضرار البيئيّة في سوريا خلال الحرب بين الأثر والنتيجة
22 آذار 2023
تُثير الحرائق الضخمة، التي اجتاحت غابات اللاذقية هذا العام، العديد من التساؤلات حول أسبابها الحقيقية، إذ لا يمكن اعتبارها مجرّد كوارث طبيعية عابرة. تشير بعض الدلائل إلى وجود عوامل معقّدةٍ قد تتراوح بين الإهمال، التقصير في الإدارة، وتأخُّر الاستجابة، ما مكّن النيران من الانتشار بهذا الشكل الواسع. بعض المصادر في قوى الحراج والدفاع المدني لمّحت إلى أن تقليص عدد العاملين وإبعاد ذوي الخبرة قبيل موسم الحرائق ربما قلّل من القدرة على التصدي المبكر للنيران.
يشرح المهندس ماهر محمد "إنّ المديرية والفرق عانت من صعوباتٍ لوجستية وميدانية، من بينها نقص المعدات ومشكلاتٌ في مراقبة الغابات بسبب تعقيداتٍ سياسية سابقة وأمنية في المنطقة". وبينما ترفض الجهات الرسمية أيّة اتهامات متعمدة بإشعال الحرائق، تبقى علامات استفهامٍ على أسباب معينة، خاصة مع وجود تهديدات أمنية في بعض المناطق وكثافة الحرائق المتزامنة في أماكن متفرقة، ما يثير شكوكاً حول احتمالية وجود تدخلاتٍ بشرية غير معلنة أو خللٍ في التنسيق الإداري. هذه المؤشرات تتطلب تحقيقاتٍ مستقلة وشاملة لاستجلاء الحقيقة بشكلٍ دقيق، وذلك حفاظاً على البيئة وأرواح الناس الذين دفعوا ثمناً باهظاً لهذه الحرائق.
مستقبل الفرلّق: نداءٌ للحماية والتعافي
يؤكد مدير الزراعة في اللاذقية وبقية الفريق العامل على المحمية وفرق الحراج "أن النجاح في حماية المحمية الآن وحمايتها دائماً ومستقبلاً مسؤوليةٌ جماعية تتطلب تكاتف الجميع، من مؤسساتٍ حكومية ومجتمعٍ محليّ وشتاتٍ سوري يمتلك الخبرة والرغبة في الإسهام. إنّ تبني برامج تشجير مستدامة بأنواع محلية مقاومة، مثل الخرنوب والغار والصنوبر الثمري، لا تقتصر على تعزيز الغطاء النباتي فحسب، بل تتيح للمجتمع المحلي فرصاً اقتصادية من خلال استثمار منتجاتٍ طبيعية ذات قيمة". ويشدّد جميع المشاركين في عملية الإنقاذ على أهمية إزالة مخلّفات الحرب التي تعيق استعادة الأراضي وإعداد خطوط نارٍ استراتيجية لمنع انتشار الحرائق مستقبلاً. كما يدعو الشتاتَ السوري إلى المشاركة الفاعلة في مشاريع بيئيةٍ محدّدة تستهدف الفرنلق، ليس فقط عبر الدعم المالي، بل بنقل الخبرات والتوعية والمناصرة، لتعزيز صمود المحمية وضمان استدامتها، ليظلّ هذا المكان رمزاً للحياة والتجدد في قلب الطبيعة السورية.
من حسن الحظ أنّ المحمية وأشجارها نجت من هذه الحرائق.








