رحلتي القصيرة في فروع أمن سوريا (الجديدة).. إعادة معايشة التراوما أم تراوما جديدة؟


بعد سنواتٍ من عيشها في المنفى، تعود ناشطةٌ حقوقية إلى سوريا، لتُستدعى إلى مقرٍّ أمنيّ للإدلاء بشهادتها حول أحد مرتكبي جرائم النظام السابق. أهي تراوما سابقة، ظنّتْ أنها باتت من الماضي، وفتحت هذه الزيارة جراحها؛ أم هي تراوما جديدة؟، تتساءل.

27 آب 2025

ليلى رحيم

اسم مستعار

أخبرني طبيبي النفسي أنه من المرجّح أن تزيد زيارتي لسوريا، بعد كل هذه السنوات، من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة الذي أعاني منه، لأنني سأتذكر وأعايش من جديد كل الأحداث المؤلمة التي مررتُ بها، لكنّ الواقع كان أسوأ مما كنت أتصوّر. من الصعب عليّ تقبّل اضطراري إلى طلب إخفاء اسمي ككاتبةٍ لهذا المقال، وللسبب السابق نفسه: سلامة عائلتي في دمشق، التي عانت بالفعل بما يكفي في ظل نظام الأسد، وبشكلٍ أساسيّ بسبب نشاطي الحقوقي.

بدأت القصة عندما أُبلغتُ بأن عليّ الذهاب إلى ”منشأةٍ أمنيّة” للإدلاء بشهادتي، بشأن أحد الجناة المسجونين (من النظام القديم)، الذي ارتكب انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان.

صُدمت عندما اكتشفت أن المقرات الأمنية لا تزال مفتوحةً وتعمل، ولكن صياغة الدعوة صدمتني أيضاً:” الشيخ أبو (اسم ما) في انتظارك..”.

ماذا سيفعل ”شيخ“ في ”منشأة أمنيّة“؟

كان ذلك في الأيام التي بدأت فيها الأحداث تتكشف في السويداء. في يوم الموعد، وبدون أن أدرك ذلك، ذهبت إلى فرع آخر من نفس المنشأة، على وجه التحديد، الفرع الذي احتُجز فيه والدي في عهد حافظ الأسد.

بعد أن أدركت خطئي، ذهبت إلى المكان الصحيح، وبينما كنت أنتظر بالقرب من الباب الرئيسي، كانت العديد من الشاحنات الصغيرة المليئة بالمقاتلين تغادر المنشأة. كانوا يبدون صغار السن للغاية، جميعهم ذوو بشرة بيضاء جداً وشعر أشقر ولحى، دون شوارب.

بعد بضع دقائق، سمحوا لي بالدخول وطلبوا مني الانتظار في غرفةٍ صغيرة. بعد حوالي عشر دقائق، دخل رجلٌ مسلح وسلّمني زياً أزرقاً، كذلك الذي كانت ترتديه المعتقلات في سجن عدرا. كانت الفكرة، بالطبع، أن أغطّي شعري وجسدي بالكامل قبل مقابلة المسؤول الكبير. لم يكن لديّ الوقت للتفكير أو الاستيعاب. ترددت لبضع ثوانٍ، ثم حثّني صوتٌ في رأسي على ارتدائه.

الشيخ

أخذني الرجل المسلح إلى غرفةٍ كبيرة جداً، يبدو أنها كانت مكتب مدير المقر، وكان فيها رجلان، يحمل كلاهما لقب ”شيخ“، كما سأعلم لاحقاً. سألني أحدهما (ليس الشخص الذي استجوبني لاحقاً) من أين أنا؟ طلب مني إجابةً مفصلة، وأدركتُ أنه يريد أن يخمن ديانتي أو طائفتي.

شعرتُ بالانزعاج الشديد، لا سيما أنّ ”الشيخ“ كان يواصل النظر إلى أصابع قدمي، من بين الأجزاء القليلة المكشوفة من جسدي.  بعد أن أجبتُ على المجموعة الأولى من الأسئلة، بدأ في إنجاز بعض الأعمال الورقية. خلال ذلك الوقت، مرّ العديد من المسلحين بالمكتب، وطرحوا أسئلة، وسلّموا ملفات، وكانوا دائماً يخاطبونه بـ ”شيخ“.

لم يسبق لي أن كنت محاطةً بهذا العدد الكبير من الأسلحة في مكانٍ مغلق، بعضها كانت جديدة بالنسبة لي. حتى ”الشيخان“ كانا مسلّحين للغاية، ومن خلال محادثاتهما، سمعتُ عن بعض المعتقلين الذين يبدو أنهم فُقدوا أثناء نقلهم بين المقر الأمني، سجن عدرا، والمحكمة، ولم يكن أحدٌ يعرف مكانهم كما يبدو.

علمتُ أيضاً أن المقرّ كان يضمّ بعض المعتقلات، وبناءً على ما رأيته، أشكّ بشدةٍ في أنّ هؤلاء الرجال المسلحين لديهم أيّة خبرةٍ أو معرفة أو مصداقية مطلوبة للتعامل معهم. لوجستيات الاستجواب، والإجراءات، ومعرفتهم المحدودة بالقضية التي كانوا يستجوبونني بشأنها، وافتقارهم الواضح للخلفية المهنية في هذا المجال، كل هذه العناصر تشير إلى نقصٍ أساسيّ في المعرفة اللازمة للقيام بما يفترض بهم القيام به.

أصبح هذا أكثر وضوحاً عندما استأنف ”الشيخ“ استجوابي بعد أن انتهى من الأعمال الورقية، وكان من الواضح أنه لا يمتلك المفردات القانونية أو المهنية، ولم يكن لديه أيّة معلوماتٍ دقيقة عن قضيتي، ولم يكلّف نفسه عناء تسجيل شهادتي.

بعد أن أجبتُ على أسئلته، استدعى رجلاً آخر لمرافقتي إلى محققٍ آخر.

أصبح هذا أكثر وضوحاً عندما استأنف ”الشيخ“ استجوابي بعد أن انتهى من الأعمال الورقية، وكان من الواضح أنه لا يمتلك المفردات القانونية أو المهنية، ولم يكن لديه أيّة معلوماتٍ دقيقة عن قضيتي، ولم يكلّف نفسه عناء تسجيل شهادتي.

إعادة معايشة التراوما

أخذني المرافق إلى مبنىً منفصل. كان المبنى محترقاً جزئياً، وأرضيته مليئة بالوثائق المتضررة والمتّسخة. كنا نخطو عليها. دمعت عيناي عندما رأيت ذلك. ربما تحتوي تلك الوثائق بياناتٍ قيّمة عن المختفين/ات قسراً. لكن لم يكن هناك مَن يقلق حيال ذلك.

نزلنا إلى الطابق السفلي. نظراً إلى معرفتي بما يعنيه ”الطابق السفلي“ عادةً في مثل هذه السياقات، ظننت للحظة أنهم سيقومون باحتجازي.

بعد بضع دقائق، وصلنا إلى مكتبٍ آخر وطلب مني المرافق أن أنتظر هناك. كان هناك رجلٌ مسنٌّ جداً، معصوب العينين، يرتدي زيّ سجن عدرا. كان هناك أيضاً رجلٌ مسلح. فجأة صرخ في مرافقي ليأخذني إلى الخارج، ففعل ذلك على الفور.

في الخارج، كانت هناك العديد من بدلات سجن عدرا المستعملة ملقية على الأرض وتساءلت عن السبب. ثم رآني رجلٌ مسلحٌ ثالث وغضب جداً، وأمر مرافقي مرةً أخرى بأخذي إلى الخارج.

في تلك اللحظة فقط، رأيت لبرهة خمسة أو ستة معتقلين، مصطفّين مقابل الحائط، وأذرعهم مرفوعةٌ فوق رؤوسهم، وقمصانهم تغطي وجوههم. كان الحراس مصدومين بقدر ما كنت أنا. من الواضح أنه لم يكن من المفترض أن أرى هذا.

كنت مرعوبة. أخبروني أن عليّ الانتظار حوالي ساعة حتى ينضم إلينا المحقق. تظاهرتُ بأن لديّ موعداً طبيّاً وأنني لا أستطيع البقاء، لكنني سأعود. بينما كنت أسير نحو الباب الرئيسيّ، سقط الزي الذي أجبروني على ارتدائه، وعلى الفور نبّهني رجلٌ خلفي بضرورة أن أغطي شعري مرة أخرى.

في أعقاب "الزيارة"

ثم خرجت. كنت مصدومةً وخائفة ومشوشة وصامتة. كان عليّ أن أتصرف بشكلٍ طبيعي لبقية ذلك اليوم وبقية فترة إقامتي في سوريا. قمت بجميع الالتزامات العائلية، وتقبّلت توبيخ أصدقائي على عدم تفرّغي لمقابلتهم. خلال الأيام التالية، كنت صامتةً تماماً في أعماقي، كأنني أعيش في عالمٍ مختلف، وأرتدي وجهاً مختلفاً كل يوم.

كنت أنتظر فقط العودة إلى أوروبا لأتمكن أخيراً من عيش صدمتي وصمتي بحريةٍ أكبر.

لكن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد. كان اليوم الذي غادرت فيه سوريا إلى لبنان مرعباً أيضاً. عندما كتب الموظف على الحدود اسمي على الكمبيوتر، كان لديه النظرة نفسها التي كنت أراها في عهد نظام الأسد. ذهب إلى الضابط حاملاً أوراقي، وطلب مني أن أقابله. أخيراً، وضعوا الختم على وثيقة سفري.

بعد عودتي، بقيت صامتةً لمدة عشرة أيام تقريباً. لم أستطع التعبير عن غضبي وحزني وإحباطي وخيبة أملي، حتى بكيت أخيراً.. بكيت على كلّ الألم، وعلى كل النضالات، وعلى كل القضايا التي آمنتُ بها.

عدتُ محطمةً تماماً، وقد فقدتُ كل حماسي وعزيمتي، أشعر باليأس والعجز، وأتساءل كيف أستعيد طاقتي وإيجابيتي، بل وأتساءل عما إذا كان عليّ الاستمرار في ما بدأته قبل عشرين عاماً.

كنت أشعر بأنني مقصية عاطفياً طوال السنوات التي قضيتها بعيداً عن سوريا الحبيبة، لكنني عندما كنت هناك، شعرت بانفصالٍ وببعدٍ ووحدةٍ أكبر مما شعرت به في المنفى. شعرت بفجوةٍ بيني وبين الناس، حدّ اضطراري وأنا أودّع الجميع، للكذب عليهم/ن، أعدهم/ن بأنني سأعود قريباً.

عدتُ محطمةً تماماً، وقد فقدتُ كل حماسي وعزيمتي، أشعر باليأس والعجز، وأتساءل كيف أستعيد طاقتي وإيجابيتي، بل وأتساءل عما إذا كان عليّ الاستمرار في ما بدأته قبل عشرين عاماً.

ما زلت أسأل نفسي: هل تلك هي (تراوما)ي القديمة، كنتُ أُعايشها مرةً أخرى هناك، أم أنني تعرضتُ لتراوما جديدة، وعليّ أن أتعلم مرةً أخرى كيف أتعامل معها؟

ما زلت أسأل نفسي: هل يوجد شفاءٌ حقيقي؟!

مقالات متعلقة

عن خمسة أيام جرشت روح السويداء؛ بشراً وسكناً وزرعاً وضرعاً.. ومزقت روحي الحبيسة في برلين

04 آب 2025
بعد زيارةٍ أولى سريعة بعد سقوط نظام الأسد، كانت الروائية السورية نجاة عبد الصمد، المقيمة في برلين، تحزم حقائبها تحضيراً لعودة أطول هذه المرة إلى مسقط رأسها السويداء، لكن الاشتباكات...
الصوت الضائع: سوريو المحرّر الجديد

13 حزيران 2025
"هناك أشياء لن يدركها إلا من عاشها، ومنها بتر علاقاتك ومسح صورك لأنك اخترت أن تبقى في أرضك، كمن يُقطّع أوصاله ليُبقي على روحه" هذا ما تقوله عبير ش متذمرةً...
عن معتقل صيدنايا ووثائقنا .. هل كان بالإمكان تفادي الوضع الكارثي بُعَيدَ سقوط النظام؟

23 كانون الأول 2024
تحرير معتقل صيدنايا وغيرها من المعتقلات، فيما كان النظام السوري ينهار، صدم السوريين/ات، وعلى نحو خاص ذوي المعتقلين/ات، إذ لم تضم إلا قلّة من أخفاهم خلال العقود الماضية، خرجوا وهم...
فيلم "تدمر" ، بالكاد محتمل لدى جمهور "الفيلم" في برلين .."خفيف" في دمشق

09 أيار 2025
"تدمر" فيلمٌ وثائقيّ من صنع وإخراج الراحل لقمان سليم ومونيكا بورغمان، يحكي ويمثّل فيه معتقَلون لبنانيون سابقون عن تجربتهم في ذلك الجحيم، الذي لا يكاد أحدهم يصدّق أنه خرج منه...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد