فيلم "بابا والقذافي".. رحلة بحث أمٍّ دمشقية وعائلتها عن زوجها المختفي قسراً


18 أيلول 2025

سليمان عبدالله

صحافي وناقد سينمائي سوري مقيم في برلين

☆☆★★★

عُرض في الدورة المنقضية من مهرجان فينيسيا السينمائي (بين 27 أغسطس و6 سبتمبر)، في إيطاليا ذات الماضي الاستعماريّ في ليبيا، الفيلم الوثائقي "بابا والقذافي"، في قسم "خارج المنافسة". في باكورة أعمالها، تعود الليبية الأمريكية جيهان ك. كشأن الكثيرين/ات من صنّاع الأفلام الوثائقية القادمين من المنطقة العربية، إلى العائلة، تفتح دفاترها، ألبومات صورها، وتنبش ذكرياتها، المتمحورة حول والدها الحقوقيّ منصور رشيد كيخيا، وزير خارجية ليبيا السابق وسفيرها لدى الأمم المتحدة، الذي غيّبه القذافي بعد أن انشقّ مطلع الثمانينيات، احتجاجاً على اتباع العقيد نهجاً دموياً، وأصبح قيادياً معارضاً، مؤسساً لمنظمةٍ لحقوق الإنسان.

مع صعود نجم منصور وطرحه كزعيمٍ بديلٍ محتمل، بعد هجوم أمريكا العسكريّ على ليبيا القذافي، أخفاه الزعيم الليبي في العام ١٩٩٣، فيما كان نزيلاً في فندقٍ في القاهرة، التي كان يزورها للمشاركة في مؤتمرٍ لحقوق الإنسان.

وكما هو شأن العديد من صناع الأفلام الوثائقية الأولى، تحاول جيهان هنا قول الكثير من الأشياء دفعةً واحدة، محاولةً في المقام الأول معالجة علاقاتها المبتورة مع والدها المغيب، منذ أن كانت في السادسة من العمر، وسقاية بذرة العلاقة تلك، عبر الصور والفيديو وشهاداتٍ عائلية لترسم لنفسها صورةً أوضح له، وهي تكافح لتشعر بأنه كان شخصيةً حقيقية، لا رمزاً فحسب، في بيتهم، وعلى الصعيد الوطني.

مقابلة مع المخرجة مادونا أديب، عن فيلمها "ليلة" عن ناشطي/ات ثورة ٢٠١١

12 آب 2025
منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر ٢٠٢٤، تغيب قضايا المجتمع الكويري السوري عن رادار الصحافة السورية عموماً. مع عرض تلفزيون آرتيه الألمانيّ الفرنسيّ فيلم "ليلة" للمخرجة مادونا أديب، الذي يدور...

عبر لقطاتٍ أرشيفية ومقابلاتٍ مع أفراد العائلة وأصدقاء منصور كيخيا، ترسم جيهان لوالدها بورتريه رجلٍ سياسيٍّ نزيه دفع حياته ثمناً لطموحٍ وطني، رغم معرفته بمخاطر استهدافه، معرّجةً على رفضه التواطؤ مع الغرب، رغم انتقاله إلى صفوف المعارضة، وإصراره على السلمية، ودعوته للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، محاولاً تشكيلَ ضغطٍ داخليٍّ وخارجيٍّ على القذافي، ربما لتغييره قليلاً، وليس إسقاطه بالضرورة.

لكن، وفي قلب الفيلم، نبدأ مع الأم، بهاء العمري، وترافقُنا في الكثير من دقائقه، لتسرد قصة عائلتها في دمشق، والدها المعتقل فيها لسنوات وهي طفلة، ثم انتقالها وهي شابة إلى نيويورك، وزيجتها الثانية من منصور، الذي قبِل عرضها أن يكون الشخص الثالث في حياتها بعد ابنتيها من زواجها الأول، وانتقالها معه بعد انشقاقه للعيش في فرنسا.

تغوص بهاء في تفاصيل وداعها الأخير لمنصور، وهو ذاهبٌ إلى القاهرة، إلى مصيره المتوقع، قائلاً "تعددت الأسباب والموت واحد"، ثم كيف توجّب عليها لعب دور الأب في غياب زوجها، لتقود حملة بحثٍ دولية، وقودُها الصمود ومقاومة اليأس، تظهر على القنوات العربية والأجنبية، لتطالب بالكشف عن مصيره، معبرة عن فقدانها إيمانها بالديمقراطية وحقوق الإنسان، حينما يتم التطبيع مع اختفائه.

في محاولاتٍ يائسةٍ منها للتمسك بما تبقى من آمال بإنقاذ حياة منصور، تسجل بهاء شريط فيديو ترسل الطفلة جيهان عبره رسالةً تطالب فيها القذافي بإطلاق سراحه، ثم تجد بهاء نفسها متمسكةً بال ٣٪، الاحتمال الذي وضعته سي اي ايه، أن يكون خبر مقتل زوجها منصور كاذباً.

في مشهدٍ حابس للأنفاس، تروي بهاء كيف اضطرّت للذهاب إلى الصحراء الليبية، ولقاء القذافي في خيمته، أن تنظر في عيني من تسبّب بالمأساة، تفاوضه بحذرٍ وهي لا تأمن على حياتها منه، علّها تستطيع حضّه على إطلاق سراح زوجها. أسمعها موسيقى سورية، محاولاً ترك انطباعٍ لديها. حينما تحدث عن "قوة النساء الدمشقيات"، أكّدت له أنه هذا هو الحال تاريخياً، عندما يغيب الأب تحل محله، وتتحول إلى سيف، "أنت تتحدث مع سيف". تظاهر القذافي في النهاية. بأنه نفسه لا يعلم مصير منصور، لكنه يستطيع في "أحلام اليقظة" أن يتصوره حيّاً.  "لا أحب الاحتفال بالموت" تقول الأم بهاء عندما تُسأل عما إذا كانت سعيدةً بقتل القذافي بطريقةٍ بشعة بعد سقوط نظامه.

وتنهي المخرجة فيلمها بفصلٍ أخير، يضع المشاهد في صورة ما تكشّف للعائلة من حقائق، ومعالجتها فقدان الأب بعد العثور على جثة هذا الأب، مجمّدةً قرب أحد قصور أبناء القذافي، ودفنه، قبل أن تنزلق البلاد مجدداً في حرب أهلية. شقيقها حصل على "خاتمة" أخيراً بلمسه يد والده المتوفى، فيما حُرمت منه جيهان لأسباب دينية. فيما إذا كانت صناعة الفيلم، التي دامت تسع سنوات، قد شكلت خاتمةً مناسبة، تشعرنا جيهان بأن هذا ما هو عليه الحال، على الأقلّ في لقطةٍ أخيرة.

ثم تغلّف المخرجة كلّ ما سبق بخطٍّ سرديٍّ آخر، عن تاريخ ليبيا خلال الاستعمار الإيطالي، مروراً بالملكية، ثم استلام "البدوي" القذافي للسلطة.

هذا فيلم عن أمٍّ سوريةٍ أخرى غُيّب شريكها قسراً، لكن من قبل ديكتاتورٍ آخر هذه المرة. مرافقتنا للأم في الكثير من أجزاء الفيلم، تطرح تساؤلاً عما إذا كان قطاع الأفلام الوثائقية يدفع الراغبين/ات بصناعة فيلمٍ وثائقيٍّ أوّل، نحو تبنّيه على أنها رحلة استكشاف ذاتية، وما إذا لم يكن بالإمكان صناعة فيلمٍ من عدستي الأم بهاء في هذه الحالة، ربما؟.

لا تبدو محاولات جيهان إضفاء الصبغة التحقيقية والإثارة مقنعةً هنا. إذ رغم استعراض الظروف المحيطة باختفاء والدها منصور، وجهود والدتها للعثور عليه على مدار عقدين، نعلم لاحقاً بأنها بدأت العمل على الفيلم في العام ٢٠١٦، أي بعد سنواتٍ من العثور على جثة والدها ودفنه، بُعيد سقوط القذافي، أي إننا أمام استعادةٍ لرحلة بحث، سبقت العمل على الفيلم. كما لم تقدّم المقابلات التي سجّلتها مع أفراد العائلة، ومحامٍ سابق للقذافي، جديداً يُذكر، إلا ربما رسم بعض الملامح الإضافية لشخصية منصور.

تقدم جيهان الفيلم على أنه محاولةٌ في اللحظة الأخيرة لإنقاذ ذاكرة الأب منصور والأم بهاء التي تقدّم بها السن، خشيةً من أن "تذهب" وتأخذ كل تلك الذكريات معها، في وقتٍ بات فيه الشباب يُقتلون في ليبيا "كشربة الماء"، وتتراكم فيه طبقاتٌ من الجرائم، ومات فيه ديكتاتور وظهر ألف ديكتاتور، كما يصف مشاركان في الفيلم.

تتحدث جيهان في مقابلاتٍ صحفيةٍ أيضاً، عن محاولتها أيضاً "أنسنة" ليبيا وشعبها، وإعادة التواصل مع والدها وبلاده، والتشبث بهويتها الليبية. هكذا نفهم استخدامها المفرط، بل اغراق الفيلم بالكثير من لقطاتٍ مقتطعة من أشرطة الفيديو المنزلي والصور العائلية، التي لا تؤدي دوماً بالضرورة غرضها.

تنجح المخرجة الشابة هنا في مبتغاها، مقدّمةً فيلماً آخاذاً، بسرديةٍ متماسكة، تربط فيه كل تلك الخيوط المتشابكة، السياسية والتاريخية العامة وتلك الشخصية الحميمية، مع بعض الهنات، التي يمكن تفهمها، نظراً إلى علاقتها اللصيقة مع ما تتناوله في فيلمها.

مقالات متعلقة

فيلم "تدمر" ، بالكاد محتمل لدى جمهور "الفيلم" في برلين .."خفيف" في دمشق

09 أيار 2025
"تدمر" فيلمٌ وثائقيّ من صنع وإخراج الراحل لقمان سليم ومونيكا بورغمان، يحكي ويمثّل فيه معتقَلون لبنانيون سابقون عن تجربتهم في ذلك الجحيم، الذي لا يكاد أحدهم يصدّق أنه خرج منه...
أمل عمران: "سوف أعلمكم التمثيل"

18 آذار 2022
يعتبر السينمائي والمخرج إياس المقداد، فيلم "صندوق الدنيا" للمخرج السوري، أسامة محمد، واحدًا من أكثر الأفلام استثنائيّة ونضجًا في التجربة السينمائيّة السوريّة. وفي سعيه للبحث عن آثار الفيلم، قرّر إجراء...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد