فتيات خارج الصفوف: الحرمان من التعليم كارثةٌ مجتمعية ما زالت حاضرة في سوريا ٢٠٢٥


30 أيلول 2025

آريا حاجي

صحافية سورية.

"كنت أشتغل بأرض أهلي، وبأيدي الفاس، وأتخيله دفتر وقلم، وكلما أرجع من الأرض، أتخيل نفسي راجعة من المدرسة للبيت." بهذه العبارة تختصر خلود الراعي، ابنة قرية دلحة الصغيرة في ريف الرقة، حكاية شغفٍ بالتعليم لم ينطفئ رغم كل العوائق، تقول: "كنت أملك إحساساً أنني سأدرس يوماً ما. لم أستسلم للواقع، وكان الحلم مستمراً."

ولدت خلود عام 1983 ودخلت المدرسة في الخامسة والنصف من عمرها، أنهت الصف السادس عام 1994، لكن قريتها لم تكن تضم سوى مدرسةٍ ابتدائية، تتابع: "أقرب منطقة للمرحلة الإعدادية كانت تبعد خمسة كيلومترات، وبالنتيجة، فإنّ والدي رفض أن أستقلّ سيارة لأتابع دراستي خارج قريتي، كان ذلك هو العرف السائد في منطقتنا، وكان يرى أن المنزل والأرض أَولى بأن نعمل فيها."

بعد عامٍ واحد من توقفها عن الدراسة، افتُتحت مدرسةٌ إعدادية في القرية، لكن الأوان كان قد فات، تقول والأسى ظاهرٌ في صوتها عبر التسجيلات الصوتية التي أرسلتها لـ حكاية ما انحكت عبر واتساب: "كنت في الثالثة عشرة وقد استلمت مسؤوليات المنزل كلها. كنت أوفر الجوّ لأخواتي ليدرسن وأُخفي حرقتي." لم تنجح خلود في إقناع والدها بأن تعود للدراسة، فمسؤوليتها عن المنزل دفعته للرفض رغم محاولات والدتها المتكررة لإقناعه بطلبٍ من خلود. "كان حلمي أن ألبس البدلة الرسمية بلونها العسكري، كنت أشتري الحزام وحده وأرتديه فوق ملابسي لأشعر أنني طالبة، وعندما حاك والدي بدلة المدرسة لأختي الأصغر سحبتها بسرعةٍ لأقيسها… وكنت أُظهر عكس ما أشعر به من ألم وحسرة."

مرّت السنوات، وارتبطت خلود بزوجها الذي كان يضطر للسفر إلى إحدى دول الخليج للعمل، ست سنواتٍ أولى من زواجها، قضتها من دون أطفال، عمّقَت شعور الفراغ لديها، عندها عاد الحلم القديم ليطرق بابها: "قلت لزوجي أريد الكتب لأتقدم للامتحان، ولم يعارض، ودرست في البيت بعيداً عن الأعين، كنت أدرس في انعزالٍ تام خوفاً من نظرات المجتمع، لكن التعليم كان طموحي فلم أجد صعوبة في العودة."

نجحت خلود في الشهادة الإعدادية بمجموع 129 علامة، ثم تابعت الثانوية بالطريقة نفسها لتحصل على 109 علامات، وعن النتائج هذه، تقول: "لم يُؤهلني ذلك لدخول الجامعة، لكني كنت سعيدةً جداً، فقد كانت هذه النتائج حصيلة شغفٍ وطموحٍ في داخلي ورغبةٍ في استثمار وقت فراغي."

وبعد إنجاب طفلها الوحيد، نزحت العائلة من الرقة إلى حماة أثناء سنوات الحرب في سوريا، ومن ثم كان الاستقرار الأخير في مدينة دمشق، وهناك فتحت لنفسها بابَ عملٍ جديد: "اقترحت أختي عملاً من المنزل لتسويق متمماتٍ غذائية، وعلى إثرها انضممت إلى الشركة وأصبحت أدرب النساء، ثم صرت عضوةً في مجلس المرأة السورية بدمشق."

قصة خلود ليست استثناءً، بل مرآةٌ لواقع كثير ٍمن فتيات شمال شرق سوريا اللواتي يُجبَرن على ترك الدراسة. تقول في ختام حديثها: "كنت أعمل في الأرض وأتخيل نفسي أعود من المدرسة. لم أكن راضيةً عن الواقع، وحلمي ظل يكبر حتى تحقق."

حرمانٌ يتوارثه الزمن

على الرغم من أن خلود تمكّنت لاحقاً من استعادة حلمها، فإن فتياتٍ أخريات ما زلن يواجهن المصير نفسه اليوم، وكأن الزمن لم يتحرّك خطوة. سوزان، ابنة القامشلي ذات الأربعة عشر عاماً، واحدةٌ من هؤلاء اللواتي يعشن الحكاية نفسها ولكن بوجهٍ جديد.

في منزلٍ صغير، على أطراف مدينة القامشلي، فتحت سوزان (14 عاماً) الباب لتستقبلنا. يتكوّن المنزل من غرفتين، إحداهما مغلقة بأمرٍ من صاحب المنزل، لتضطر للعيش مع والدتها وشقيقها الأكبر في غرفة واحدة. اختارت الفتاة الحديث باسمٍ مستعار خشيةً من ردة فعل والدها.

للمنزل حوشٌ صغير، يعج بنباتاتٍ منزلية، تنال حصتها من اهتمام سوزان، بعد أن باتت مهام المنزل كل ما يمكنها فعله، فقد تركت التعليم منذ أشهرٍ قليلة.

"كنت أحب مدرستي كتير، ومتعلقة برفقاتي، بس فجأة لقيت حالي بالبيت، وما كنت أفهم ليش، اللي بعرفو بس إنو أمي بتقول إنها خايفة علي، وما بدها حدا يأذيني، وأبي بس كان يضربني إذا طلبت أكمل دراستي." تقول سوزان.

تغيب سوزان للحظات، فتبدأ والدتها بسرد الحكاية، بالإشارة إلى أنها كانت تقطن في منطقة بعيدة عن مركز مدينة القامشلي، مع زوجها وأولادها، وبعد أن وصلت ابنتها إلى نهاية المرحلة الابتدائية، باتت تشعر بالخوف من أن تتعرض لأي انتهاكٍ جنسي، ولازمها الخوف إلى أن قررت العائلة أن توقفها عن دراستها. وفي تلك الفترة، اكتشفت إصابتها بمرض السرطان، ليقرر زوجها التخلي عنها وعن أولاده، لتجد نفسها مع طفلين صغيرين، دون أن تكون قادرة على العمل نتيجة وضعها الصحي، لذا بدأ ابنها بالعمل لإعالة العائلة التي قامت باستئجار منزلٍ في أطراف المدينة.

"أتمنى أن تتمكن ابنتي من استكمال دراستها، لكن وضعنا الاقتصادي بات صعباً جداً، بالإضافة إلى أن والدها يرسل التهديدات في كل مرة يسمع فيها برغبة ابنتي بإكمال تعليمها، ويقول إنها كبرت ولا تحتاج لأن تتعلم." تقول والدتها وتكمل أنها تعرّفت إلى سيدةٍ ساعدتها في إيجاد المنزل، وساعدت سوزان لتدرس في الصف السابع، لتعود وتتوقف في بداية السنة الدراسية هذه نظراً لعدم وجود مدرسةٍ قريبةٍ منها.

تجلس سوزان وتنظر إلى ساعةٍ أرجوانية ترتديها في معصمها، تشعر بخجلٍ كبير، وتُسمع رجفةٌ في صوتها حين تتحدث، لم يكن مفهوماً إن كانت تلك الرجفة ناتجةً عن خجلٍ أم حزنٍ أم خوف، وتقول: "أجلس كثيراً وأتحدث مع نفسي عمّا كنت سأفعله لو تمكّنتُ من إكمال تعليمي، أشتاق لأن يكون لي صديقات، فأمي تمنعني من مرافقة أحدٍ في الحي الذي نقطنه لأنها لا تعرف أحداً منهم، والنتيجة أنني بتّ فتاةً انعزالية، ولا أرغب في رؤية أحد، وكلما تحدث معي أحدهم أقوم وأكسر ما أجده أمامي من أغراض المنزل".

تقول والدة سوزان أنها كانت تحتفظ بشهادات ابنتها طيلة مرحلة الابتدائية، وأنها قامت برميها حين انتقلت العائلة إلى المنزل الجديد، تقول إنّ سوزان أبدت ردة فعلٍ قوية، فقد صرخت وبكت حين علمت أنني قمت برمي شهاداتها، لكني لم أقصد أن أزعجها، ففي هذا المنزل ما من مكانٍ لتخبئة الأغراض، إنه يكفي لتلبية الاحتياجات الرئيسية فقط، على حدّ قولها.

تحدّت الحروقَ والإهمال.. لتنقذ ابنتها وحياتها أيضاً

03 أيلول 2025
"قمتُ برمي ابنتي، ورميت نفسي بعدها إلى الخارج." هذا ما قالته سميرة بعد أن انفجر البابور داخل المطبخ، و"كأنّ قنبلةً انفجرت"، لتلتهم النيران جسدها وجسد ابنتها التي كانت مهدّدةً بفقدان...

مع أن سوزان ما زالت في الرابعة عشرة وتعيش حرمان التعليم في بدايته، إلا أنّ قصتها مرآةٌ لما عاشته فتياتٌ أكبر سناً في المنطقة. هيفين، الشابة التي بلغت الرابعة والعشرين في مدينة ديريك/المالكية، مثالٌ آخر على المصير الذي قد ينتظر سوزان إن بقيت القيود الاجتماعية أقوى من رغبتها في الدراسة.

هيفين أيضاً اختارت اسماً مستعاراً للحديث عن حرمانها من التعليم في سنٍّ مبكّرة لاعتباراتٍ تتعلق بمحيطها المجتمعي، تقطن هيفين (24 عاما) في مدينة ديريك/المالكية، تقول لحكاية ما انحكت، إنّ تجربةً مرّت بها أختها الأكبر سناً، حين التحاقها بالجامعة، كانت سبباً لأن تقرر باقي فتيات العائلة ألّا يكملن تعليمهن.

"حين أنهت أختي المرحلة الثانوية من دراستها، كانت تطمح لأن تدرس في الجامعة، إلا أن عمي قرر أنه لا يمكن لأية فتاة من العائلة أن تخرج من محافظتنا، بذريعة أنه يخشى أن تتعرض أختي للخطف أو أية حالة أخرى، ولم يكتف بالرفض، فقد تهجم عليها وضربها بعنف لتلتزم بتعليماته."

هيفين تقول إنها تركت تعليمها حين بلغت 15 عاماً من عمرها، فقد اعتقدت حينها أنها ستواجه مصير أختها إن أرادت استكماله، ليبقى حلماً بعيد المنال، وما زاد الطين بلّة، أنه ما من أحدٍ في عائلتها بات مقتنعاً بأهمية التعليم، حتى شقيقها بات يسلك ما فعله عمّه تجاه أية فتاةٍ في العائلة ترغب باستكمال تعليمها.

"أبقى في المنزل طوال الوقت، لا أملك ما أفعله، فأية فرصة عملٍ تحتاج إلى شهادةٍ تعليمية، وأية فرصة في السفر للدراسة أو العمل تحتاج إلى شهادة، لكنني لا أجد سوى عمل المنزل في انتظاري يومياً." تقول هيفين.

"بتّ لا أطيق الجلوس مع صديقاتي، فقد أكملن تعليمهن، ودخلن إلى الفروع المختلفة في الجامعات في مدن سورية مختلفة، وجلّ حديثهن عن الدراسة وذكريات الجامعة، هنا أشعر أنه لا مكان لي بينهن، وأيقن أن خسارتي لشهادتي كانت خسارة حياةٍ من الممكن أن أحقق فيها طموحاتٍ عالية، لكنني الآن حبيسة المنزل دون طموح ودون أمل في تحقيق أي حلمٍ أحلم به مذ كنت صغيرة وحتى الآن.

رغم اختلاف الأجيال والظروف بين خلود وسوزان وهيفين، تبقى خيوط الحكاية متشابكة: مدارس بعيدة، أعراف اجتماعية متصلّبة، وخوفٌ يغلّف حياة الفتيات ويمنعهن من أبسط حقوقهن. إنه حرمانٌ يتوارثه الزمن، ويهدّد المجتمع بفقدان طاقات نساءه، فبينما يظلّ التعليم الطريق الأوضح نحو حياة كريمة، ما تزال فتيات ٌكثيرات يقفن خلف أبواب مغلقة، ينتظرن قراراً شجاعاً من أسرهن ومجتمعاتهن، ووعياً جماعياً يعترف بأن مقعد المدرسة ليس امتيازاً، بل حقٌ لا يُسلب.

مقالات متعلقة

سري كانيه/ رأس العين.. مدينة فقدت ألوانها وتنوّعها

09 أيلول 2025
"النسبة الكبرى من أهالي المدينة خرجوا منها. اليوم، تبقّى فيها 55 شخصاً كردياً أغلبهم من المسنّين، وشخصٌ أرمنيٌّ وحيد، و8 أشخاص من السريان، ويوجد عربٌ في المدينة وريفها، في المقابل،...
بعيدا عن عيون داعش.. التعليم سرًّا

16 تموز 2025
أحضرنا سبورة وأقلامًا، وبدأنا تعليم الأطفال خفية. لكن شيئًا فشيئًا، ازداد عدد الطلاب، فانتبه إلينا بعض عناصر داعش. جاءوا إلى منزلي، وطلبوا مني الحضور إلى أحد مقرّاتهم الخاصة.
طلاب التاسع في الساحل السوري: خوفٌ واستعدادٌ للمواجهة!

21 حزيران 2025
"أخاف من الطريق كما أخاف من الامتحان" هذا ما يقوله الطالب جعفر الذي يستعد لتقديم امتحان الشهادة الإعدادية لأوّل مرة بعد سقوط النظام السوري، وسط وضعٍ أمنيٍّ مهتزّ، ومخاوف يسلّط...
امتحانات في زمن التفاوض

20 حزيران 2025
"أتى هذا القرار وأخرجنا من دائرة الضغط النفسي، أنا اليوم سعيدةٌ جداً بأنني سأتمكن من تقديم الامتحان والعودة إلى منزلي بعد الانتهاء". هذا ما تقوله لسوريا ما انحكت الطالبة في...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد