قبل معرفة جدوى المؤتمر ومخرجاته، بدا اجتماع سينمائيين سوريين/ات في المهجر وآخرين قادمين من الداخل السوري، كاسرين عزلة السنوات الأخيرة، تحت سقفٍ واحدٍ في مونبيليه، صباح يوم ٢٢ أكتوبر/تشرين الأول، كالحلم بالنسبة إليهم. المؤتمر الذي نظّمه المركز الوطني الفرنسي للسينما (سي إن سي) ومهرجان البحر المتوسط السينمائي (سيني ميد) في مونبيليه، بالتعاون مع منصة عيون، المعنيّة بالمصورين وصناع الأفلام السوريين، شهد مشاركة مزيجٍ من قرابة ٢٥ سينمائيّ/ة، من مختلف الأجيال.
إقامة المؤتمر في فرنسا حرّر الحوارات من وطأة المكان، ومن أن تكون برعاية وزارة الثقافة السورية أو مؤسستها العامة للسينما، أو أن تضع خطوط النقاش العامة، إذ كانت الكلمة الأولى هنا، حواراً وإدارة، للسينمائيين السوريين/ات والجهة المنظمة بالشراكة "عيون"، وزملاء من المؤسسات الثقافية في المنطقة كآفاق وأفلامنا. ما إذا كان ينبغي على السينمائيين السوريين التعامل مع هذه الحكومة المؤقتة ومؤسستها السينمائية، وكيف؛ كان مادة للنقاش في الكثير من لحظات هذا المؤتمر.
وبعد أن كان من المقرر مشاركة مدير المؤسسة العامة للسينما جهاد عبدو، تبيّن أنه اعتذر عن الحضور، وأرسل نيابةً عنه، الناقدة لمى طيارة، التي تعمل مستشارةً غير رسميةٍ له منذ أشهر، و رشا بركات، مديرة المهرجانات في المؤسسة. لم يكن الوجود الرسمي للسيدتين ثقيلاً على الحضور، بل بدا خجولاً إلى حد بعيد، وكان تفاعلهما مع الآخرين يجعل المراقب يتأكد مرتين مَن تمثلان هنا، الجانب الرسمي أم السينمائيين؟ إذ واظبتا على تقديم نفسيهما داعمتين للسينمائيين، وتحقيق ما هو ممكنٌ قدر الإمكان في ظلّ هذه الحكومة، التي ينظر عددٌ غير قليلٍ من السينمائيين إليها بطريقةٍ ناقدة، جذرياً.
مقابلة مع المخرجة مادونا أديب، عن فيلمها "ليلة" عن ناشطي/ات ثورة ٢٠١١
12 آب 2025
بدا التقديم لفعاليات اليوم الأول غريباً بعض الشيء، عندما أشار كريستوف كانتشيف، الصحفي المكلف من إدارة مهرجان سينيميد بالتقديم للحوارات، إلى أنّ الأوضاع السياسية في البلاد ليست مثالية، مستشهداً بـ"انتخابات" لم تصل بأيّ يهودي وبمسيحيين فقط إلى "مجلس الشعب"، محاولاً ربما التأكيد على عدم تماهيهم مع الحكومة الانتقالية في سوريا.
بعد محاضرةٍ نظريةٍ جافة للباحثة الفرنسية سيسيل بويكس، عن ظهور سينما المؤلف في سوريا وتطورها منذ السبعينيات وحتى اليوم، وصلتها بالسياقات السياسية في البلاد، صعدت مجموعةٌ من ١٠ صناع أفلام شباب للمنصة، أكبر من اللازم ربما، قياساً بوقت جلسة النقاش التي تجاوزت ٩٠ دقيقةً بقليل، التي أدارتها ديالا الهنداوي وسارة قنطار من منصة عيون. رغم ذلك، لم تخلُ الجلسة التي اتسمت بالصراحة والابتعاد عن الخطابات الإنشائية من فائدة، واختلط فيها الشخصي والعام، والحديث عن المجازر في الساحل والسويداء، مناطق يتحدر بعضهم منها، بإمكانية صناعة سينما، وضرورة إعادة تحديد دور المؤسسة العامةّ للسينما.
مشاركون آخرون، بينهم المخرجتان رند أبو الفخر ومادونا أديب، أشاروا إلى ضبابية قرارات المنع والتصريح بالعمل، وعدم ضمان سلامة السينمائيين، وإمكانية عرض أفلامٍ ذات صلةٍ بمواضيع كالكويرية أو بمناطق الجنوب السوري (السويداء تحديداً) أو تلك الناقدة للسلطة الانتقالية، موضحين أن ما يخشونه لا السلطة فحسب، وإنما أفراد وجهات غير رسمية موالية لها. المخرج زياد كلثوم، تساءل في مساهمةٍ ساخطة عمّا منع المؤسسة من إصدار بيانٍ يدين القتل في البلاد في الأشهر الماضية، كما فعلوا كسينمائيين بُعيد اندلاع الثورة. الوفد الثنائي الرسمي تجنب الرد.
في جلسة حوارٍ مزدوجة بعد ظهيرة اليوم، قدم مشاركون، ذوو خبرةٍ طويلة في صناعة السينما والإنتاج، كشفاً بأولوياتٍ إسعافيةٍ ينبغي توفيرها لتأسيس صناعة سينما سوريّة، وقلّبوا خيارات التعاطي مع المؤسسة العامة للسينما والعمل على أرشيف السينما السورية.
مخرج الأفلام الوثائقية علي أتاسي، مؤسس مشروع "بدايات"، رأى أن من حقهم العودة إلى سوريا، والتصوير، سواء بتصريحٍ أو من دونه، معتبراً المؤسسة العامة للسينما من حقهم، وأرشيفها عائداً لهم، رافضاً فرض المؤسسة الموجودة في يد السلطة الحالية أيّة قيودٍ أو بطاقة انتسابٍ عليهم. واعتبر أنه لا ينبغي أن تُترك السلطة لتسيطر على هذه المساحة، وتفرض أجندتها عليها، وإلى الكفاح كي لا تتحول إلى مؤسسة بروبغاندا في إطار النظام الجديد، مشيراً إلى العمل الجماعي عبر تجمعاتٍ ونقاباتٍ حلّاً، مؤكداً في الوقت نفسه على أنه لا ينبغي أن تكون المؤسسة العامة للسينما الممثلة الوحيدة والحصرية والشرعية للسينمائيين، بل أن تكون طرفاً من ممثلين كثر.
المخرجة والمنتجة غيفارا نمر، شاركت خبراتها في الإنتاج في أوروبا حيث تعيش، ورأت في حصر العلاقة مع السينما بالقطاع العام، ممثلةً بالمؤسسة العامة للسينما، قصوراً في الرؤية، معتبرةً أنه ليس من مهام المؤسسة العامة الإنتاج السينمائي، ولهذا السبب لا ينبغي فتح معركةٍ معها، على حد توصيفها. وباستعراض نماذج الإنتاج في ألمانيا وفرنسا، رأت أنه ليس من الضروري تبنّي نموذجٍ محدّد في سوريا، بل ربما ابتداع شكلٍ جديد، ومنح مساحة للتجريب، في ظل غياب كاتالوجٍ واضح، للوصول إلى صيغةٍ قادرة على الاستمرارية.
مخرج الأفلام الوثائقية علي أتاسي، مؤسس مشروع "بدايات"، رأى أن من حقهم العودة إلى سوريا، والتصوير، سواء بتصريحٍ أو من دونه، معتبراً المؤسسة العامة للسينما من حقهم، وأرشيفها عائداً لهم، رافضاً فرض المؤسسة الموجودة في يد السلطة الحالية أيّة قيودٍ أو بطاقة انتسابٍ عليهم. واعتبر أنه لا ينبغي أن تُترك السلطة لتسيطرعلى هذه المساحة، وتفرض أجندتها عليها، وإلى الكفاح كي لا تتحول إلى مؤسسة بروبغاندا في إطار النظام الجديد، مشيراً إلى العمل الجماعي عبر تجمعاتٍ ونقاباتٍ حلّاً، مؤكداً في الوقت نفسه على أنه لا ينبغي أن تكون المؤسسة العامة للسينما الممثلة الوحيدة والحصرية والشرعية للسينمائيين، بل أن تكون طرفاً من ممثلين كثر.
المخرجة هالة العبدالله، ذات الخبرة الطويلة، خاصة في الإنتاج السوري الفرنسي المشترك، بدت غير متفائلةٍ بما تتجه به ظروف الإنتاج في سوريا، داعيةً إلى عدم انتظار منح السلطة الحالية المؤسسةَ العامة للسينما هامش حرية، مفترضةً أن السلطة الانتقالية ستقطع الطريق عليهم حتماً، وأنّه حتى في حال سماحها بصناعة السينما، فليس لديها شخصياً استعدادٌ للعمل ضمن الهوامش التي يقدمونها، وإنما على المرء الدفاع عن حريته بأدواته، دون تقديم أيّة تنازلات، وربما التعامل مع رفض عرض أفلامه لاحقاً.
رغم ذلك، ترى أنّ هناك أملاً مرتبطاً بأناس يعملون في سوريا في مساحاتٍ صغيرةٍ يتمسكون بها، مستدركةً بأنه ربما لا يكون ثمن ذلك غالياً الآن، لكنه سيصبح غالياً بعد مدة، هكذا قد يُسجن ويعتقل ويُقتل أحدهم، "لكن من المؤكد أن المعركة مستمرة". العبدالله حثّت السينمائيين الشباب على عدم النظر إلى المؤسسة العامة للسينما على أنها مغلقة ورفض التعامل معها، بل ايجاد طريقة ل"احتلالها"، لأنها غنيةٌ جداً، وخاصّةً بفنيّيها.
ساشا أيوب، المديرة التنفيذية لمختبر "ستوريز فيلم لاب"، أشارت إلى أنّ ثمن دفع هوامش الرقابة في عهد نظام الأسد كان معروفاً، لكنه لم يعد كذلك اليوم، هم يجرّبون فحسب. "النظام كشف عن العديد من الأمور التي لا يوافقون عليها"، تؤكد، لكن ما زال لديهم المجال لتوسيع الهوامش ومساحات العمل.
ما دار في اليوم الثاني من المؤتمر، جرى وراء أبواب موصدة، بحضور القائم بالأعمال الفرنسي في سوريا، جان باتيست فافر. مدة النقاش كانت أقصر من أن تفضي إلى مخرجاتٍ واقتراحاتٍ معمّقةٍ تُقدّم للجهات الفرنسية الراغبة بالدعم، وفق انطباعات المشاركين/ات.
مدير "سي ان سي" ينفي توقيع اتفاقٍ وشيكٍ مع سوريا على غرار العراق
تزامن اليوم الأول للمؤتمر مع توقيع المركز الوطني للسينما "سي ان سي"، مذكرة تعاونٍ مع العراق، ما غذّى التكهنات بقرب توقيع اتفاقيةٍ مماثلة مع المؤسسة العامة للسينما في سوريا، وتساؤلاتٍ عما إذا كان المركز الفرنسي بصدد التطبيع الكامل مع المؤسسة، أمرٌ لم يُبدِ العديد من المشاركين/ات ضيراً منه، فيما اعتبره آخرون مثيراً للقلق، أمره طرحته سوريا ما انحكت على المدير العام لمؤسسة "سي ان سي" غيتان برويل.
بدا برويل حريصاً على التأكيد بأنهم يقفون على مسافةٍ واحدة من الجميع، وألّا يُظهر المركز مندفعاً في التطبيع والتعامل مع المؤسسة العامة للسينما في سوريا، بل يمدّ للمؤسسة يد المساعدة المشروطة بالشفافية، من دون اعتبارها الشريك الوحيد، بل جهةٌ بين طيفٍ من المؤسسات والسينمائيين/ات في الداخل والخارج. ما إذا كان ذلك سيظل سارياً في القادمات من الأشهر والسنوات، يبقى أمراً جديراً بالمراقبة.
برويل تحدث لسوريا ما انحكت باستفاضة عن ماهية اتفاقهم مع العراق، وكيف جاء تتويجاً لعامين من العمل المشترك على الأرشيف، وتوقيته الذي جاء قبيل انتخاباتٍ عراقية، لا يُعرف مدى تأثير نتائجها، ودعم فرنسا ترميم فيلم "سعيد أفندي"، الذي عُرض في قسم كلاسيكيات مهرجان كان الماضي، وتخطيط العراق لتأسيس مركزٍ وطنيّ للسينما اقتداء بنموذج "سي ان سي"، قبل أن يستدرك بأنه "ومن الواضح أننا لسنا في الوضع نفسه مع سوريا، وبالتأكيد نحن لا نتبع النهج نفسه. في سوريا، الوضع مختلف تماماً"، موضحاً أنّ هدف هذا المؤتمر خلال مهرجان "سينيميد"، فهم احتياجات السينمائيين السوريين أكثر. وبالنسبة إليهم، فالاحتياجات واضحة، وتكمن في المقام الأول في دعم السينما المستقلة والناس على الأرض والمبادرات المحلية لكن أيضاً مَن هم في الخارج، ممن لديهم أفكارٌ قوية وذات صلة.
عن مخاوف من اتخاذ "سي ان سي" المؤسسةَ العامة للسينما في سوريا شريكاً وحيداً، وألا تتعامل مع السينمائيين المستقلين، خاصة الناقدين للحكومة الانتقالية، أكد برويل أنهم سيكونون بالتأكيد إلى جانب كلّ مَن يؤمن بقوة بالسينما، وأنهم نظموا هذا المؤتمر ويوفرون هذه المنصة، لكنهم لا يقودونها، بل يريدون أن يرشدهم صنّاع الأفلام داخل وخارج سوريا إلى الطريق، موضحاً أنّ "الموضوع الوحيد الذي نناقشه اليوم مع المؤسسة العامة للسينما في سوريا هو أرشيف الأفلام، ونحن منفتحون على التوصل إلى اتفاق حول هذا الموضوع الوحيد، بشرط أن نتمكن، مرة أخرى، من مشاركة الاستراتيجية مع صانعي الأفلام، لأننا نعتقد أنهم أصحاب مصلحةٍ في أرشيف الأفلام هذا. هذه هي الرؤية التي لدينا في فرنسا والرؤية التي نريد مشاركتها. أودّ القول أيضاً إن هناك موضوعاً آخر ناقشته، لكنني لن أدخل في تفاصيله، وهو حقيقة أن دمشق تفتقر اليوم إلى سينما حقيقية".
مناقشة الجانب الفرنسي إعادةَ فتح المركز الثقافي الفرنسي ليستضيف عروضاً سينمائياً، بعد الأزمة التي خلقها تحويل وزارة الأوقاف في الحكومة الانتقالية سينما الكندي في دمشق إلى مركزٍ ثقافيّ يستضيف دورات وجلسات نقاش، كان بمثابة سرٍّ معلنٍ بين المشاركين في المؤتمر. وكان مدير المؤسسة العامة للسينما جهاد عبدو قد تعهد باستعادة السينما، قبل أن يتراجع زاعماً بأنه يريد نقل سينما الكندي إلى مكانٍ أفضل، أو دعوة المستثمرين إلى بناء قاعة عرضٍ حديثة، ما يشي بخطةٍ طويلة الأمد، لا تبدو فرصُ بلورتها إلى واقع واضحة. وكان النادي السينمائي في المركز الثقافي الفرنسي يستضيف عروضاً في السنوات السابقة للثورة.
تنظيمٌ ضبابي للمؤتمر
حضور سينمائيين/ات شباب من الداخل السوري لمؤتمر مونبيليه، كان لافتاً، رغم تكلفهم أعباء مالية تصل ل ٦٠٠ يورو عند تقديم طلب التأشيرة، كما علمنا. نظّم مهرجان "سينيميد" ومنصة عيون عروضاً لمجموعةٍ مختارة من الأفلام السورية، برز منها ذاك الذي صنعته الشابة راما عبدي. في "رقصة سمك" تأخذنا عبدي في رحلةٍ بصرية إلى عالم سمك "الجري" في دمشق، العنيد والمقاوم للموت، شأنه شأن السوريات، تقترح، إذ يظلّ لقرابة يومين في صندوقٍ بلاستيكي يتحرك ويقاوم الإمساك به، لحمه طيّبٌ كما يروّج له بائع، لكنهم لا يتوانون عن أكل لحم بعضهم بعضاً، فيما يكافحون لأجل النجاة.
لم تبدُ المعايير التي وضعت منصة عيون، وإدارة المهرجان والمركز الوطني للسينما (سي ان سي)، على أساسها قائمة المدعويين/ات واضحة، ولماذا أُغفلت أسماء وحضرت أخرى. مع ذلك، لم يدّعِ المؤتمر ومنظموه تمثيل أحد أو التحدث نيابةً عن صناع الأفلام السوريين ككل.
"الموضوع الوحيد الذي نناقشه اليوم مع المؤسسة العامة للسينما في سوريا هو أرشيف الأفلام، ونحن منفتحون على التوصل إلى اتفاق حول هذا الموضوع الوحيد، بشرط أن نتمكن، مرة أخرى، من مشاركة الاستراتيجية مع صانعي الأفلام، لأننا نعتقد أنهم أصحاب مصلحةٍ في أرشيف الأفلام هذا. هذه هي الرؤية التي لدينا في فرنسا والرؤية التي نريد مشاركتها. أودّ القول أيضاً إن هناك موضوعاً آخر ناقشته، لكنني لن أدخل في تفاصيله، وهو حقيقة أن دمشق تفتقر اليوم إلى سينما حقيقية"، يقول المدير العام لمؤسسة "سي ان سي" غيتان برويل.
أيضاً، ولكي تحقق النسخ القادمة فائدةً أكبر، سيكون من المثاليّ أن يترك كل مشارك/ة كلّ ما أنجزه في سنوات مسيرته الطويلة، خارج قاعة الحوار، وأن يدخل بهدفٍ واحد هو مشاركة المعرفة، على قدم المساواة، وافساح المجال لجميع المشاركين،من مختلف الأجيال، لمشاركة خبراتهم ومطالبهم مهما كانت محدودة، إذ بدت العلاقة العابرة للأجيال خلال بعض الحوارات، مرتبكةً في بعض اللحظات.
كان هذا المؤتمر القصير ليستحق تقييماً متواضعاً لو كان الأول والوحيد، لكنه ليس سوى بدايةٍ كما فهمنا، على أن تنظّم مؤسسة "آفاق"، المؤتمر التالي في العام القادم في بيروت، بمشاركة المركز الوطني الفرنسي للسينما (سي إن سي) مجدداً.
ولمَ لا؟ ربما تُنظم النسخة الثالثة في دمشق، إن أخطأت التوقعات، وتطور حال السينما في سوريا نحو الأفضل!






