السومرية بين الماضي والحاضر


31 تشرين الأول 2025

منار سليمان

اسم مستعار لصحفية استقصائية مقيمة في دمشق

يرتبط اسم السومرية لدى أذهان سكان دمشق باسم رفعت الأسد وسرايا الدفاع، والسومرية هي أراضٍ مملوكةٌ لعائلات المعضمية، تمّ الاستيلاء عليها عنوةً وبالاستملاك من قبل رفعت الأسد، الأخ الشقيق لحافظ الأسد وصاحب النفوذ المليشياوي في منتصف السبعينيات. بُنيت على تلك الأراضي مساكن عسكرية لسرايا الدفاع صفّ الضباط، وتولى عمليات الإنشاء سومر، ابن رفعت، وسميت باسمه، كما يشاع. إلا أنّ بعض المتنفذين من سكان تلك المساكن قاموا لاحقاً بالسيطرة على المساحات القريبة من أبنيتهم وبيعها للناس بأسعار زهيدة، ما شجّع كثيرين ممن عملوا في الجيش والوظائف الحكومية، وعاشوا في ظروفٍ اقتصادية صعبة في العاصمة، على شراء تلك الأراضي والبناء فيها تخفيفاً لأعباء التنقّل والإيجار.

بدأت عمليات البناء في أوائل عام 1981 بشكلٍ غير آمن عمرانياً أو قانونياً، فلم تكن عقود الملكية تحفظ حقّ المشترين، الذين غالباً ما كانوا يجهلون حقوقهم أو لا يأبهون بها أصلاً إذ يرغبون بالحصول على مأوىً مستدامٍ في العاصمة فقط.

يعتبر أهالي المعضمية أن خسارة أراضيهم بتلك الطريقة جرحٌ عميق لامس كل أسرة.  لؤي، أربعينيٌّ يحمل شهادة الماجستير في علم الأحياء الدقيقة ولد وعاش في معضمية الشام طيلة حياته ولم يخرج منها إلا قليلاً خوفاً من الملاحقة الأمنية ليعود بعد سقوط النظام. يملك لؤي سرديةً حزينة تخصّ كل أهالي المعضمية :"بعض العائلات خسرت كل ما تملك وكأنه لم يكن لديها شبر أرض. عشنا وكبرنا على حديث الاستملاك في المعضمية قبل الثورة ولم يملك أحدٌ الجرأة على التحدث بالأمر علناً بسبب تسلط المخابرات الجوية من سكان السومرية نفسها والمناطق المجاورة لها. لطالما شعر أهلنا بالخوف من سكان السومرية، التي تحولت بعد اندلاع الثورة إلى بؤرة تشبيحٍ تجاه المعضمية، وكانت العصا التي رفعها النظام في وجه أهالينا، الذين طالبوا منذ الأيام الأولى بإعادة أراضيهم المسلوبة".

استعادة حقوق أم تهجيرٌ طائفيّ

تقع السومرية غرب مدينة دمشق قرب مطار المزة العسكريّ، المطار الذي بُني أيضاً على أراضي المعضمية في عهد الاحتلال الفرنسيّ، وتقسّم الى أربعة أقسام؛ مساكن عسكرية قرب المطار، وحيّ يسمى الصناعة يبدأ بمحالّ أو أكشاك تجارية ذات أسقف  مستعارة، تمّ هدمها بعد سقوط النظام مباشرةً بآليات بلدية المعضمية لتكسير نقاط البيع تلك التي اشتُهرت ببيع البضائع المهربة والدخان والكحول. يتضمن القسم الثالث مجموعةً من المنازل قرب كراج انطلاق السومرية للحافلات، بينما يقع القسم الرابع على طريق دمشق بيروت وهو أسوؤها من حيث شروط العيش.

لمى، امرأةٌ أربعينية تقيم في السومرية منذ ولادتها عام 1984، تتحدث عن الهجوم على الحيّ، الذي حصل في تاريخ 27 آب/ أغسطس، لفصيلٍ بقيادة شخص يدعى (أبوحذيفة) ينحدر من المعضمية، كانت لمى تتحدث تارةً بغضب وتارةً بخوف : "كان معظم جيراني قد غادروا إلى قراهم ومدنهم ليحتفلوا بعيد الفرح الخاص بالطائفة، وكان الحيّ الذي أسكنه شبه فارغ تلك الليلة. سمعت أصوات خلع الأبواب من بعيد، صراخ النساء وبكاء الأطفال وسباب عناصر الفصائل والشتائم الطائفية بحقّ الأهالي. لم يكن بإمكاني المغادرة فقد كنت وحدي ولم أملك الشجاعة للخروج، اتصلت هاتفياً بصديقة لي لتخبرني أنهم اعتقلوا زوجها بعد أن انهالوا عليه بالضرب داخل منزله وأمام زوجته وأولاده وأعطوهم مهلة أربع وعشرين ساعةً لمغادرة الحي دون طلب أيّة أوراق ثبوتية لسكنهم".

خيّم شبح مجازر الساحل في آذار على المشهد، وتوقع السكان تكرارها في السومرية. البعض دفن وأحرق كتب الديانة العلوية الباطنية خوفاً من تسرب ما تحويه، وآخرون تخلّصوا من صور مشايخ الطائفة، وأخفى خريجو الكليات العسكرية شهاداتهم والمستندات التي تبيّن عملهم السابق لدى المؤسسة العسكرية.

تتابع لمى واصفة نهاية الاقتحام: "تكلم معي أحد  أقاربي وطلب مني ارتداء الحجاب في حال كنت أمتلك غطاء رأس، إلا أنني لم أقم بذلك مع مشاهدتي لبعض النساء العلويات يرتدينه. مع الساعات الأولى للصباح، فتحتُ باب منزلي لهم، لم يسألوني عن هويتي الطائفية وأعتقد أن السبب مرتبطٌ بكون شارعي معروفاً بغالبيته المرشدية، وغادروا فور معرفتهم أنني أقطن لوحدي. تنفست الصعداء وقلت لنفسي ليس كل مايفعلونه سيئاً، لكني استطعت أن أرى انتشار عناصر الفصيل في الشوارع بأسلحتهم وقطع أثاث مرميةٍ في الطرقات. في 29 آب استطعت الخروج من الحيّ بحقيبة ملابسي، وكان الحاجز الأمني يسمح بالخروج فقط. لم يعترضني أحد، ورأيت الكثير من الأهالي يجلسون في الشوارع أمام سيارات نقل. علمت أن الحاجز اشترط عليهم الخروج نهائياً مع الأثاث وإبقاء خزانات المياه والمدافئ".

تذكر رغدة، وهي إحدى جارات لمى، من الطائفة المرشدية وتعمل في المركز الصحي الموجود في حيّ السومرية "كنت قد سافرت إلى حمص بمناسبة العيد حين بدأت تأتينا اتصالات من جيراننا العلويين في 27 آب طالبين منا العودة إلى منزلنا  لأنه سيتعرض للتفتيش. أجرى زوجي اتصالاتٍ مع ممثلين للطائفة وأخبرني بأنه تمّ حل الأمر بالنسبة  لنا، أي أنهم لن يدخلوا إلى منازل المرشدييّن، لم نستطع معرفة تفاصيل أكثر ولم يمرّ العيد علينا مثل كل سنة فقد كان مليئاً بالتوتر والخوف. لم نكن راضين عن خروج جيراننا من العلويين خارج الحي، الناس الذين عشنا سوياً وتشاركنا كل شيء. عدنا بعد عشرة أيام وبعد أن سُمح لموظفي الصحافة والتلفزيون الرسمي ومحافظة دمشق بالدخول".

حكاية أبو عبد العزيز، الرجل الستينيّ، ترسم بعداً طائفياً لما جرى وهو السنيّ المنحدر من حي بابا عمرو في مدينة حمص "عشت في حي السومرية منذ ثلاثين عاماً، كنت قد تطوعت في الجيش السوري برتبة صف ضابط، وبعد خدمة سنواتٍ انتقلت للعمل في مؤسسة الإنشاءات العسكرية، وبنيت منزلي في منتصف التسعينات. عندما هاجم الفصيل العسكريّ الحيّ، كان من الملفت أنهم كانوا يعلمون بهويات السكان الطائفية. تحدث معي أحد العناصر وسألني من أين أنت؟ وحين أجبته دفعني إلى الأرض وضربني برجله على بطني قائلاً: (ما بتستحي تعيش مع العلويين كل هل العمر) لم يطلب أحدٌ مني أن أغادر الحي أو أيّة أوراق ملكيةٍ للمنزل وهذا ما زاد من قناعتي أن الخطة هي إخراج العلويين فقط".

حكاية أبو عبد العزيز، الرجل الستينيّ، ترسم بعداً طائفياً لما جرى وهو السنيّ المنحدر من حي بابا عمرو في مدينة حمص "عشت في حي السومرية منذ ثلاثين عاماً، كنت قد تطوعت في الجيش السوري برتبة صف ضابط، وبعد خدمة سنواتٍ انتقلت للعمل في مؤسسة الإنشاءات العسكرية، وبنيت منزلي في منتصف التسعينات. عندما هاجم الفصيل العسكريّ الحيّ، كان من الملفت أنهم كانوا يعلمون بهويات السكان الطائفية. تحدث معي أحد العناصر وسألني من أين أنت؟ وحين أجبته دفعني إلى الأرض وضربني برجله على بطني قائلاً: (ما بتستحي تعيش مع العلويين كل هل العمر) لم يطلب أحدٌ مني أن أغادر الحي أو أيّة أوراق ملكيةٍ للمنزل وهذا ما زاد من قناعتي أن الخطة هي إخراج العلويين فقط".

عيشٌ بائس

ظروف المعيشة في السومرية لم تكن كغيرها من مناطق العاصمة، فقد كانت رهينةً بقرارات الفرقة الرابعة، التي تغولت في حياة السكان، بمساعدة بعض المتنفذين من الضباط القاطنين في الأبنية العسكرية في السومرية. لسنين طويلة لم يشعر الأهالي بوجودهم في محافظة دمشق، فالفرقة الرابعة هي مَن كانت تنفذ الأعمال الخدمية في المنطقة وتقدمها كعطايا بعد دفع الأموال لضباطها.

تتحدث لمى عن نشأتها في السومرية، حيث يُعتبر والدها من مؤسّسي الحيّ: "تنحدر عائلتنا من ريف حماة الغربي، والدي يتيم الأب ولديه خمسة إخوة، وحين بلغ السادسة عشر وحصل على الشهادة الاعدادية تقدّم للتطوع في الجيش السوري كصف ضابط. عام 1970 جاء إلى دمشق وكان راتبه في تلك الفترة 300 ل.س. وحين قرر الزواج استأجر غرفةً في منزلٍ مشترك في حيّ القدم، ولد أخي الأكبر فيها عام 1976."

الصوت الضائع: سوريو المحرّر الجديد

13 حزيران 2025
"هناك أشياء لن يدركها إلا من عاشها، ومنها بتر علاقاتك ومسح صورك لأنك اخترت أن تبقى في أرضك، كمن يُقطّع أوصاله ليُبقي على روحه" هذا ما تقوله عبير ش متذمرةً...

تجمّع العديد من العلويين القادمين من المحافظات السورية في القدم والكسوة والمعضمية لأنها كانت الأقل تكلفة بالنسبة إليهم، فغالبيتهم من المتطوعين برواتب قليلة في الجيش. تتابع لمى: "عام 1983 أخبرنا صديق أبي عن منطقة السومرية وأسعار البيوت البخسة فيها. قامت والدتي ببيع ما تملكه من ذهب واشترى والدي منزلنا الذي كان عبارةً عن غرفة واحدة مع مساحةٍ يُسمح له بالبناء فيها. عشنا في الغرفة بلا كهرباء ولا ماء، على ضوء الشموع و قنديل الكاز، وبقينا على هذا النحو حتى صرت في الصف الأول الابتدائي. حينها، قام جارنا بتمديد شريطٍ من الأعمدة الموجودة  في المساكن العسكرية لسرقة الكهرباء، ورجوت والدي أن يفعل مثله. لم أنسَ أحلامي تلك الليلة بوصول الكهرباء إلى منزلنا. تمّ توصيل شريطٍ إلى المنزل، ولكن طاقته كانت شديدة الضعف فلم يستطع إلا إضاءة لمبةٍ واحدة، التففنا حولها بصمت، وكان في الزاوية ضوء شمعةٍ أقوى منها . بقينا نحصل على الكهرباء عبر السرقة لفترةٍ طويلة من الزمن".

حصل والد لمى بعد فترة من الزمن على بعثةٍ عسكرية إلى ليبيا مدتها سنتان، واستطاع من خلال المنحة المالية بناء غرفةٍ أخرى بسقفٍ مستعار، لم تكن تعزل بينهم وبين تحولات الطقس، فكانت الحرارة تصل داخل الغرف إلى 37 درجة مئوية في الصيف وتصبح شديدة البرودة في الشتاء، ترشح فيها الأمطار. كانت أعمال البناء تتمّ بعد دفع الأموال لحاجز الفرقة الرابعة للسماح بإدخال المواد اللازمة. اعتاد السكان شراء مياه المسابح من صهاريج متنقلة تعبّئ خزاناتهم، أما مياه الشرب فيحصلون عليها من الأبنية العسكرية.

نقلةٌ خدمية

برأي فراس، أحد سكان السومرية سابقاً، والذي غادرها بسبب سوء الخدمات "منعت المخابرات الجوية الأهالي من بناء طوابق جديدة لقربهم من حرم مطار المزة العسكري وبقي حيّ السومرية عالقاً بين مصالح ونفوذ الفرقة الرابعة والمخابرات الجوية. كبرنا أنا وأخوتي وقررنا أن نغادر ونبني منزلنا بشكلٍ أكثر أماناً، فأقمنا في المزة 86".

استطاع والد فراس، صف الضابط في الجيش، وبسبب علاقاته وموقعه الحساس في إدارة نقل الضباط، من الحصول على موافقة الفرقة الرابعة ومدّ خطوط كهرباء نظامية إلى الحي في 1997. في 2009 تم تمديد المياه إلى الحيّ بعد زيارة وفدٍ لمدير مكتب أمن ماهر الأسد، غسان بلال، ودفع مبلغٍ تم جمعه من كل المنازل في المنطقة. من شدة فرح الأهالي حينها، خرجوا بمسيرةٍ مؤيدة لبشار الأسد.

لم يكن لدى معظم السكان دخلٌ إضافي سوى رواتبهم الحكومية، وبقيت منازلهم من دون إكساءٍ خارجيّ، أو تنظيمٍ للشوارع أو المحالّ التجارية، وفرضت الفرقة الرابعة قيوداً أمنية ومالية حوّلت السومرية إلى مستعمرة خاصة. يذكر فؤاد، أحد سكان المنطقة، والموظف الحكوميّ المتقاعد الذي يعاني من مرضٍ عصبيّ أقعده عن الحركة "لم أنسَ جارنا الذي أراد أن يفتح محلاً لبيع الدجاج فتمّ اعتقاله وتعذيبه لمدة خمسة عشر يوماً في مقرّ الفرقة الرابعة ليدفع ما طُلب منه من مال. نحن لم نكن محكومين من الفرقة الرابعة وحسب بل من بعض جيراننا في المساكن العسكرية. كان بعض أبناء ضباط الفرقة الرابعة ممن يسكنون بقربنا يستطيعون وضع محالّ مسبقة الصنع ليحتكروا التجارة لأنفسهم ويُدخلوا بضاعتهم دون دفع الجمارك". لسنوات، عُرفت السومرية كمكانٍ تجد فيه بضائع يمنع استيرادها بأسعار رخيصة، ونافست نقاطَ البيع تلك مراكزُ تجارية كبيرة ليتحول بعضها إلى التوزيع بالجملة لكل مدينة دمشق.

بعد السقوط

في ليلة سقوط النظام قامت جرافات بلدية المعضمية بهدم المحالّ التجارية على الطريق العام للسومرية. ترأس المنطقة أمنياً فصيلٌ عسكري، استطاع بناء علاقةٍ ودية ومستقرة مع الأهالي. تغيّر الفصيل وحلّ محله  فصيل  "أبو حذيفة ". في شهر تموز/ يوليو ٢٠٢٥، مُنع دخول الخبز وقُطعت الكهرباء والماء لأيام، ثم أخليت المساكن العسكرية من السكان العلويين بينما بقي  السكان السنة من العسكريين السابقين، وحلّ محل العائلات المُخلاة أخرى، مدنية قدمت من إدلب وعائلات عناصر الأمن العام.

كثيراً ما قضّ التفكير بالمستقبل مضجع علويي السومرية لارتباط وجودهم بنظام الأسد، ليدبّ الذعر بينهم بعد ما حدث في السومرية. باع الكثيرون منازلهم في المزة 86 بنصف ثمنها، وخصوصاً بعد انتشار شائعةٍ عن حديثٍ دار بين أحد سكان السومرية الخارجين من الحيّ وأحد العناصر الموجودين على الحاجز، حيث سأل العنصر عن وجهته فأجابه أنه متجهٌ إلى 86، حينها رد العنصر "أنصحك بمغادرة دمشق لأنه قريباً سيأتي الدور على 86".

في تلك الفترة لم يقترب أحدٌ من منازل المخالفات ولم يكن أحدٌ ليتوقع ذلك رغم الكثير من تهديدات سكان المعضمية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بأنهم سيُرجعون أراضيهم التي تمّ الاستيلاء عليها.

رامي، شابّ يبلغ من العمر 27 عاماً، يحمل شهادة معهدٍ متوسط، وكان يؤدي الخدمة الإلزامية في دير الزور حين سقط نظام الأسد. حين تقدمت قوات ردع العدوان خلع بزته العسكرية ووصل إلى منزله في السومرية بعد أيامٍ قطع بعضها مشياً على الأقدام. يعمل رامي حالياً كمدرّسٍ يتابع طلاب المرحلة الاعدادية. يتحدث عن تجربته حين دخل الفصيل إلى الحيّ: "كنت وأصدقاء قد قمنا بإنشاء ممرٍّ ترابيّ بين المنازل يصل إلى خارج الحي، وهذا الطريق ساعدني في التنقل خلال شهر تموز، فكنت أدخل في الصباح وأخرج قبل حلول المساء لأجلب معي الخبز، وأوزعه على السكان الذين بقوا لمدة أسبوع دون السماح بإدخال مواد غذائية. لم يملك من بقي في الحيّ عندها رفاهية الخروج لأنهم لم يكونوا قادرين على تحمل أعباء الانتقال المادية، فكان الحد الأدنى لأجرة سيارة النقل بين 3 و5 مليون ليرة سورية، ولم يكن لدى البعض أيّ تصور عن وجهتهم  فكان الخيار الوحيد هو البقاء  تحت التهديد .هربتُ خارج الحيّ ليلة الهجوم لأني كنت عسكرياً وهذا يجعلني مستهدفاً للاعتقال خلال المداهمة".

بعد الهجوم الأخير، خرجت أغلب العائلات من السومرية، ناويةً عدم العودة بسبب الخوف من أيّ هجومٍ فصائليّ آخر. والآن، وبعد قرابة الشهرين من الحادثة، عادت العديد من العائلات العلوية من موظفي القطاع الحكومي، الذين لم يستطيعوا استكمال الإجراءات القانونية للانتقال خارج دمشق بشكلٍ نهائي. ومن ليس لديه أولاد فلا رغبة لدى الأهالي بمشاركة أولادهم مقاعد الدراسة مع أولاد عناصر الأمن خوفاً عليهم. ذهب البعض إلى المزة 86 وآخرون توجهوا إلى قراهم أو إلى مدن أخرى، لأنهم لا يشعرون بالأمان. يشير الأهالي بحسب تقديراتهم  إلى وجود نحو 4000 آلاف عائلة علوية سابقاً دون إحصاء رسمي ودون معرفة التعداد الحاليّ بعد التهجير الحاصل.

"اسمي فصل الربيع".. تقول وتضحك

28 تشرين الأول 2025
لم تكن "فصل الربيع" تدرك أنّ اسمها، هذا الذي كانت تكرهه في الطفولة، سيكون طوق نجاتها خلال سنوات الحرب السورية الطويلة. تلك الحرب التي نجت منها بحكمة "اسلبيها" كما كانت...

كثيراً ما قضّ التفكير بالمستقبل مضجع علويي السومرية لارتباط وجودهم بنظام الأسد، ليدبّ الذعر بينهم بعد ما حدث في السومرية. باع الكثيرون منازلهم في المزة 86 بنصف ثمنها، وخصوصاً بعد انتشار شائعةٍ عن حديثٍ دار بين أحد سكان السومرية الخارجين من الحيّ وأحد العناصر الموجودين على الحاجز، حيث سأل العنصر عن وجهته فأجابه أنه متجهٌ إلى 86، حينها رد العنصر "أنصحك بمغادرة دمشق لأنه قريباً سيأتي الدور على 86".

عمّ شعور الخوف كل المناطق التي ينتشر فيها العلويون في دمشق وامتدّ إلى الضواحي  كضاحية الشام حرستا (ضاحية الأسد) سابقاً. ورغم أن الأبنية فيها منظمة والتعايش بين سكانها مُرضٍ ولم تسجّل فيها أيّة حوادث على أساسٍ طائفي، إلا أن كثيرين يبيعون منازلهم فيها حالياً.

حلولٌ بعيدة

بحسب رأي أحد القانونيين، الذي لا يرغب بمشاركة هويته، "وُجد خلافٌ بين الفرقة الرابعة ومحافظة دمشق حول تسوية أوضاع القاطنين وملكياتهم في المنطقة المستملكة لصالح المحافظة في المعضمية، والتي بنيت عليها أبنية المخالفات واسمها (الشهداء والصناعة) في عام 2004، وتمّ تثبيت الملكيات بحكم محكمة، وسمحت المحافظة ببناء طوابق ثانية بعد أن تمّ منع ذلك من قبل الجهات الأمنية والفرقة الرابعة، وقبلت المحافظة اعتراضات أصحاب المنازل لتسوية أوضاع الأبنية. المشكلة كبيرة، تضيع فيها حقوق أهالي المعضمية وسكان المخالفات سوياً. سيكون ظلماً لسكان السومرية أن يتمّ التعامل مع الأمر بهدم المنازل وإعادة الأرض لأصحابها فحسب، ولا تملك الدولة مالاً لشراء المنطقة العقارية بسعرها الحالي وتعويض أهالي المعضمية. يمكن أن تشتري شركاتٌ خاصة الأراضي، وهنا أيضاً يجب تعويض أهالي السومرية بسكنٍ بديل. الأمر في غاية التعقيد مع الصعوبات الاقتصادية في البلاد".

يرى المحامي عارف الشعال، في نصٍّ نشره على صفحته في موقع فيسبوك، أنّ تشكيل هيئةٍ رسمية متخصصة لدراسة مشاكل الاستملاك وغيرها على كامل الجغرافيا السورية، والاستماع لأصحاب المصلحة وأصحاب الحقوق، واقتراح السياسات والتشريعات المناسبة لحلها، بما يكفل التوازن بين حقوق الدولة والملّاك والشاغلين ، هو أنسب ما يمكن للدولة فعله في الوقت الحالي.

لعلّ استملاك أراضي السوريين لعشرات السنين من أكبر المظلوميات في سوريا، لضياع حقوقهم وصعوبة استعادتها بعد إنشاء أبنيةٍ عليها. تقابلها مظلوميةٌ جديدة لأناسٍ عاشوا وكبروا وأسسوا لحياةٍ امتدت من الجدّ إلى الحفيد في تلك الأبنية، ما يخلّق مشكلة مركبة تحتاج إلى دولةٍ قوية يسودها القانون لحلها، الأمر الذي لا يبدو سهل المنال في المدى القصير.

مقالات متعلقة

ذنب أن تنجو بعد أن تفقد رضيعك في مجزرة

30 تشرين الأول 2025
حاولت نوال أن ترضعه، لكن الحليب جفّ في صدرها، "من كتر الرعبة انقطع الحليب، ابني عم يضعف وما قادرة طعميه". قالت لنا باكية، وهي تشعر بالعجز ينهش قلبها، والذنب يثقل...
حكاية الساعات الأخيرة في حياة الحزب القائد

29 آب 2025
على امتداد أكثر من ستين عاماً، كان السابع من نيسان/ أبريل، يترافق مع الاحتفالات والمهرجانات والشعارات والأعلام التي تحتلّ الفضاء السوري العام.. هذا العام ٢٠٢٥، كان استثناءً، إذ لم يلتفت...
عاملة منزلية... تخلّت عنها الطوائف

11 أيلول 2025
"الوجع مو إنك تنقطعي من الشغل، الوجع إنو يطلعوكِ من حياتن كأنك خطر، بعد كل هالعمر وأنا مؤتمنة على أسرار بيوتهم". هذا ما تقوله العاملة المنزلية، هند، التي انعكس التمزّق...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد