القامشلي .. محطّة السوريين الأخيرة بين الخوف والحنين

"ما راحت غير عالفقير"


رنا من ريف اللاذقية، عهد من مدينة حمص، ضياء العبد الله من قرية الثعلة في ريف السويداء؛ ثلاثة سوريين/ات من مناطق مختلفة وجدوا أنفسهم "نازحين" في مدينة القامشلي، عهد منذ عام 2012، ورنا وضياء في عام 2025. هنا حكاياتهم.

13 تشرين الثاني 2025

آريا حاجي

صحافية سورية.

عند حاجز في منطقة إثريا بين حمص وحماة: "كنت أرتدي لباساً شرعياً لتجنّب المضايقات، ولم أكن أملك هويتي التي ضاعت أثناء خروجنا. وعندما رأى عنصر الأمن التابع للسلطة المؤقتة صورتي القديمة بلا حجاب على صورة الهوية رماها أرضاً بازدراء، شعرت بالغضب، لكن الأهم أن نصل سالمين، وألا نتعرّض لانتهاكاتٍ أكبر".

هذا ما تقوله لسوريا ما انحكت رنا (اسم مستعار/ ٢٩ عاماً) وهي تستعيد تفاصيل الأشهر الماضية قبل أن تصل مدينة القامشلي شمال شرقي سوريا، قادمة من مدينة اللاذقية، هرباً من المجازر التي اجتاحت قريتها في آذار/ مارس 2025، التي شهدت مقتل 45 شخصاً في ليلةٍ واحدة. "قتلوا الجميع ثم بدأوا بالبث المباشر بعد المجزرة"،تقول أمها التي وصلت القامشلي في زيارة من مدينة طرطوس عند لقائنا معها.

فقدت أسرة رنا مصادر رزقها بعد فصلهم من وظائفهم الحكومية، مما اضطرهم للعمل في جمع الخردة المعدنية وبيعها لتأمين احتياجاتهم البسيطة. تقول: "وصلنا إلى مرحلة نلتقط التنك من الأرض لنبيعه بثمن ربطة خبز أو علبة حليب لابنتي الصغيرة. حتى الحفاضات كنّا نشتريها بالقطعة".

عملت رنا سابقاً مدرّسة بالوكالة (التدريس بالوكالة هو نظام عملٍ بالساعات لتغطية إجازات الموظفين المثبتين في المدارس)، لكنها توقفت عن العمل خوفاً من الخطف أو الأذى بعد أن شهدت حوادث مُشابهة طالت نساءً من محيطها: "رأيت وسمعت قصصاً عن قتل وخطف بحق أهالي منطقتنا، وبعد مقتل عددٍ من أقارب زوجي، فضّلت البقاء في المنزل لحماية نفسي وابنتي. في الليل، كان أي صوت في الخارج يثير فينا الفزع، وأصبحت بعض الصور التي شاهدتها عبر الهواتف لأطفال قُتلوا كوابيساً يومية".

مع تفاقم الخوف، قرّر زوج رنا ووالده التوجّه أولاً إلى القامشلي، ثم لحقت بهما رنا في رحلةٍ وصفتها بالآمنة.

تأقلم قسري وذاكرة لا تغيب

دير الزور: بورتريه محافظة منسية .. يكافح سكانها للتأقلم مع واقعها الديموغرافي الجديد

01 تشرين الأول 2025
بعد سقوط نظام الأسد وانجلاء نفوذ إيران استيقظ سكان دير الزور على توزيعةٍ جديدة للسلطة، أمرٌ تعوّدوا عليه في الأثناء، في ظلّ تبدّل السيطرات منذ اندلاع ثورة ٢٠١١. في هذه...

عهد نجّار، سيدة من مدينة حمص، نزحت مع عائلتها إلى القامشلي في آذار/ مارس 2012، هرباً من القصف والدمار والخوف من النزاعات الأهلية، "منذ بدء الحرب كان منزلي مأوى لأكثر من 32 شخصاً من عائلة زوجي. مع الوقت تدهورت حالتنا الاقتصادية ودُمّرت منازلنا، واستُشهد عدد من أقاربنا، فاضطررنا إلى النزوح، كان رجال عائلتنا يعيشون خوفاً حقيقياً من أن نتعرّض نحن نساء العائلة للخطف أو الاغتصاب نتيجة النزاعات الأهلية بين طوائف المدينة، لذا فقد كان النزوح هو الخيار الأفضل لحمايتنا".

اختارت عهد وعائلتها مدينة القامشلي للاستقرارٍ بناءً على نصيحة صديقٍ لزوجها. قال لها آنذاك إن المدينة أكثر استقراراً وتتوفّر فيها فرص عمل، فانتقلوا إليها مع 12 فرداً، فيما توزّع باقي أفراد العائلة على مدن أخرى داخل سوريا وخارجها.

"نزحنا بثيابنا فقط، تحت القصف. لم أكن أتصور أننا سنغادر بيتنا للأبد. في البداية كانت الصعوبات كبيرةً بسبب اختلاف اللهجة والثقافة، ودخلت المستشفى بسبب تدهور حالتي النفسية، لكن لم يكن أمامي سوى التأقلم".

تؤكد عهد أنها وجدت احتواءً من سكان المدينة: "أهل القامشلي غمرونا بالطيبة والكرم، رغم أن بعض الأصوات كانت تقول إننا كنازحين استحوذنا على فرص العمل، لكن الغالبية ساعدونا لنبدأ من جديد".

تمكنت العائلة بعد شهرٍ ونصف من الاستقرار في منزل صغير، ودفع الوضع المادي الصعب بصغار العائلة قبل كبارها لإيجاد عمل، ليتمكّنوا من عيش حياةٍ كريمة. تقول عهد إنها اليوم لا تفكّر بالعودة إلى حمص إلا للزيارة: "زوجي لا يزال يشعر بالغربة ويريد العودة، لكني لا أستطيع أن أبدأ من الصفر مجدداً. هنا كوّنا حياةً جديدة، وزوّجت ابنتي لشابٍّ من القامشلي. لقد أصبحت هذه المدينة بيتنا".

بين النشاط والمنفى القسري

ضياء العبد الله، من قرية الثعلة في ريف السويداء، يعمل في مجال البرمجة، ويُعرف في السويداء كشاعرٍ أيضاً، اعتقل قبل وفي بداية الحرب السورية على يد النظام السوري السابق، وكان من أوائل المشاركين/ات في مظاهرات مدينة السويداء، قبل حدوث المجازر في السويداء. قَدِم ضياء إلى مدينة القامشلي لإتمام بعض الأعمال، وتقديم بلاغ ضدّ شخصٍ من القامشلي بتهمة السرقة.

وصل ضياء إلى مدينة القامشلي في 12 تموز/يوليو 2025، قبل أن يبدأ في ال 13 منه، الهجوم على مدينة السويداء. في اليوم التالي، دخلوا إلى قريته، و"لحسن الحظ" تمكنت عائلته من الخروج من القرية التي تعرّضت للحرق والنهب وقُتل أبنائها. ولا زالت قريته تحت سيطرة الأمن العام والعشائر وجماعاتٍ من درعا، على حدّ وصفه.

"منذ تلك اللحظة، أتواجد في مدينة القامشلي، وما من أيّة طريقة للعودة إلى مدينتي السويداء، فرغم أن السفر إلى دمشق ومن ثم إلى السويداء متاح، لكن بسبب التدقيق من جرمانا على الحواجز التابعة للحكومة السورية، ونظراً لأنني مطلوبٌ للقوى الأمنية الحالية، فلا يمكنني العودة، خوفاً من التعرّض لأي انتهاك أو أذى"،  يقول لسوريا ما انحكت.

سري كانيه/ رأس العين.. مدينة فقدت ألوانها وتنوّعها

09 أيلول 2025
"النسبة الكبرى من أهالي المدينة خرجوا منها. اليوم، تبقّى فيها 55 شخصاً كردياً أغلبهم من المسنّين، وشخصٌ أرمنيٌّ وحيد، و8 أشخاص من السريان، ويوجد عربٌ في المدينة وريفها، في المقابل،...

يتابع "في لحظة وصولي إلى القامشلي، جلست مع أصدقائي الذين رافقوني إليها، منذ أكثر من 16 يوماً، ونظراً لاختلاف الوضع بيننا، فقد تمكنوا من السفر إلى دمشق، وبناءً على علاقاتهم كتجار، تمكنوا من الوصول إلى السويداء، أما أنا فقد درستُ خياراتي، وكان لدي خياران: إما البقاء في القامشلي، أو الاستقرار في جرمانا، وكان الخيار الأفضل بالنسبة لوضعي كناشط أن أبقى في القامشلي".

حتى الآن لا يملك ضياء أيّة مؤشرات تبيّن له أنّه سيتمكّن من العودة إلى مدينته وعائلته، وتمكّن أخيراً من الإقامة في منزلٍ بمساعدة أصدقائه في القامشلي، المدينة التي يصفها بأنها تشبه مدينة السويداء، حيث يشارك في الاعتصامات التي تضامنت مع أهالي مدينته، وشارك في العديد من الفعاليات والمؤتمرات التي تتناول الوضع السوري الحالي، ولا يزال مستمراً في نشاطاته، على أمل العودة في وقتٍ قريبٍ إلى مدينته.

"لا أشعر بالغربة هنا، التعامل هو نفسه مع كلّ الشرائح، التقيت مع كل الأطياف والحركات السياسية، وتتم دعوتي باستمرار للتواجد في الفضاء العام، وهناك انفتاحٌ كبير على الآخر المختلف، والألم الحقيقي هو غيابي قسرياً عن مدينتي"، على حد توصيفه.

في القامشلي، بدأت رنا وزوجها العمل في مدجنة لأكثر من أربعين يوماً، "لم تكن المهنة عيباً، لكنها كانت صعبة عليّ بعد التدريس وعلى زوجي الاختصاصيّ في المناهج. عملنا في مدجنة، ومع الوقت وجدنا عملاً أفضل، وتمكّنا من استئجار منزلٍ متواضع". تتابع رنا "في اللاذقية كنت أملك غرفةً واحدة فقط لكنها كانت عالمي الصغير، وأكثر ما أفتقده هو غسالة الملابس، فمنذ وصولي إلى القامشلي أغسل كلّ شيء بيدي. خرجت من منزلي بملابسي فقط، وبقينا ثلاثة أشهر في الصيف من دون براد، نتحسر على كأس الماء البارد. كل ما أتمناه أن أعود إلى قريتي ومنزلي، أن نشعر بالأمان فقط".

أما أم رنا التي تزورها لحظة إجرائنا اللقاء معها، فقد تمسّكت بالبقاء: "ما راحت غير عالفقير… الروس الكبار طلعوا من البلد، ونحن بقينا بالفقر والتعتير، بنتعرض لانتهاكات تصل للقتل، وبنحلم باليوم اللي نقدر نطلع فيه من هالبلد، هالبلد اللي ما عاد ينقعد فيها، وليكبر حزننا، حتى الشجر احترق، وكل يوم بناكل همّ من وين رح نجيب حق الخبز".

رنا من اللاذقية، عهد من حمص، وضياء من السويداء — ثلاث قصص تبحث عن أمانٍ مفقود، مع ذاكرةٍ لا تنطفئ مع ابتعاد المسافات، والقامشلي، المدينة التي استقبلت هؤلاء جميعاً، تحوّلت إلى مدينةٍ تجمع الجراح والأمل معاً، فهي منفىً داخل الوطن لا يقلّ قسوةً عن الغربة خارجه، وأمنٌ يخالطه وجع الأمل بالعودة.

مقالات متعلقة

بعيدا عن عيون داعش.. التعليم سرًّا

16 تموز 2025
أحضرنا سبورة وأقلامًا، وبدأنا تعليم الأطفال خفية. لكن شيئًا فشيئًا، ازداد عدد الطلاب، فانتبه إلينا بعض عناصر داعش. جاءوا إلى منزلي، وطلبوا مني الحضور إلى أحد مقرّاتهم الخاصة.
سقط النظام .. لكن عائلة كوردية سورية تواصل ماراثون نزوحها اللا منتهي (صور)

17 كانون الأول 2024
فيما كانت هيئة تحرير الشام تشق طريقها إلى دمشق منطلقة من ريف حلب، شنت فصائل "الجيش الوطني" التركية هجومًا على مناطق في ريف حلب تسيطر عليه قوات سوريا الديمقراطية، وسيطرت...
حكاية الساعات الأخيرة في حياة الحزب القائد

29 آب 2025
على امتداد أكثر من ستين عاماً، كان السابع من نيسان/ أبريل، يترافق مع الاحتفالات والمهرجانات والشعارات والأعلام التي تحتلّ الفضاء السوري العام.. هذا العام ٢٠٢٥، كان استثناءً، إذ لم يلتفت...
عاملة منزلية... تخلّت عنها الطوائف

11 أيلول 2025
"الوجع مو إنك تنقطعي من الشغل، الوجع إنو يطلعوكِ من حياتن كأنك خطر، بعد كل هالعمر وأنا مؤتمنة على أسرار بيوتهم". هذا ما تقوله العاملة المنزلية، هند، التي انعكس التمزّق...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد