مآسي عاملات الريجي في الساحل السوري

حرائق وفصلٌ تعسفيّ وقراراتٌ ارتجالية


"الراتب كان يردنا عن الشحادة، يعني بالكاد يكفي. السؤال الأهم: شو بدنا نعمل هلا؟" هذا ما تقوله إحدى العاملات اللواتي قضين أكثر من عقدٍ من الزمن بين جدران المعمل، يعالجن تبغ السوريين بأيديهن، هذا التبغ الذي كان يعيل السوريين والسوريات من قبل ولادة الوطن السوري، والذي لمؤسسته (الريجي) حكايةٌ مع كلّ سلطةٍ حكمت هذه البلاد، مؤسسةٌ تترنّح اليوم تحت وقع الحرائق والسرقات والقرارات الارتجالية.

22 تشرين الثاني 2025

كمال شاهين

صحفي وكاتب سوري

(اللاذقية)، بينما عاشت مدينة اللاذقية ساعاتٍ طويلةً من الإشاعات والقلق ليلة سقوط نظام الأسد الابن في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، كان الدخان المُتواصل مع الرياح الشمالية يصل إلى بيت ديمة مُسبّباً لها اختناقاً طفيفاً.

من شبّاك مطبخها الصغير راقبت بحزنٍ وصمت التهام النيران لمعمل السجائر المعروف باسم الريجي والواقع قرب محطة البولمان في اللاذقية، حيث قضت عشر سنواتٍ من عمرها فيه، قبل أن يأتي في السابع والعشرين من آب/ أغسطس 2025، القرار ٢٥٣٣، الصادر عن الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، لينهي أيّ أملٍ متبقٍّ لها ولأكثر من عشرة آلاف عامل وعاملة من المتعاقدين مع شركات ومؤسسات القطاع العام.

"تلقينا النبأ في المعمل أثناء جلوسنا تحت الأشجار. صدقاً ودون مبالغة، أغمي على ثلاث سيدات عند سماع القرار، "تقول ديمة التي كانت قد أُجبرت قبل ذلك على أخذ إجازةٍ مفتوحة لم تقبض خلالها سوى راتب واحد، وهي التي لم يتجاوز راتبها 28 دولاراً (280 ألف ليرة سورية)، لأنها من الفئة الخامسة (أدنى درجات الهرم الوظيفي).

ليلة سقوط النظام، لم تكن ديمة تدرك أنّ الحريق الذي شاهدته سيمتدّ ليلتهم عملها وعمل زملائها وزميلاتها، وإن أدركت آنذاك من شدّة الدخان أنه ليس مثل حرائق سابقة ضربت المؤسّسة. ولم يكن الوحيد وقتذاك، إذ تبعه حريقٌ آخر بالتوقيت نفسه في مستودعات مخزون ورق التبغ في مرفأ اللاذقية قرب شركة سيريتل. وهي الحرائق التي قالت عنها إحدى العاملات "الله يحرق قلبو للي حرق المعمل، هو حرق ما بس المعمل، حرق قلبنا لأن بالأخير نحنا يلي ح ندفع التمن".

حكاية الساعات الأخيرة في حياة الحزب القائد

29 آب 2025
على امتداد أكثر من ستين عاماً، كان السابع من نيسان/ أبريل، يترافق مع الاحتفالات والمهرجانات والشعارات والأعلام التي تحتلّ الفضاء السوري العام.. هذا العام ٢٠٢٥، كان استثناءً، إذ لم يلتفت...

بعد ذلك كان اقتحام مستودعات تخزين الإنتاج قرب جامعة تشرين، إذ كُسرت الأبواب الحديدية وبدأت السرقات بنهمٍ شديد. كان مشهد الهجوم على مستودعات المنتجات سوريالياً؛ سياراتٌ ودراجاتٌ نارية وأفرادٌ يحملون ما استطاعوا من كراتين "الحمرا الطويلة" و"القصيرة" و"الشرق" وأنواع عديدة من عبوات السجائر التي توقّف إنتاجها في المؤسسة، التي كانت تُوزّع في الأشهر الأخيرة قبل سقوط النظام على التجار والمؤسسات العامة والخاصة (بالقطارة) عدداً محدوداً من كروزات التبغ الوطني بالتحديد. في الأيّام التالية لسقوط نظام بشار الأسد المفاجئ امتلأت شوارع اللاذقية بمئات بسطات الدخان الوطني وبيعت المنتجات "بتراب المصاري". تابعت ديمة ما تراه بصمت وهي تتساءل عن مستقبلها ومستقبل أربعة آلاف أسرةٍ أخرى بعد هذا الخراب.

على بعد بضعة كيلومترات، وبينما كانت المعامل الإنتاجية تحترق، بدأت مأساةٌ أخرى، حين أقدم آخرون على سرقة قطع تبديلية في معمل "الريدرينغ"، التجفيف) التابع لمؤسسة التبغ نفسها قرب سقوبين، 2 كم شمال مدينة اللاذقية)، متجاهلين أنّ هذه المؤسسة التي تحترق وتُسرق خدمت الناس قبل الاقتصاد بأقصى ما يمكنها من طاقة، "ومن حرق أو سرق، دقّ مسماراً في نعش أكبر مؤسسة إنتاجية سوريّة. فما جرى في معمل التجفيف باللاذقية سرقةٌ منهجية لقطع غيارٍ ومعدات ثمينة، كأنما هناك من يعمل على تأكيد الموت النهائي لهذا الصرح العملاق الذي يكمل مئة عامٍ من العمر فأكثر"  كما يقول المهندس محمد الحسين، من إدارة المؤسسة لسوريا ما انحكت، فيما تقول سمر بيهس وهي طالبة جامعية تدرس الحقوق في جامعة تشرين، سنة ثالثة، متعاقدة مع المعمل من الفئة الخامسة وهي تشير بيدها إلى صالة ريدرينغ: "من سرق القطع الإلكترونية صغيرة الحجم لآلات المعمل يعرف تماماً ماذا سرق ويعرف قيمته المالية والصناعية، فمن دونه لن تعمل الآلة، وليس من السهل تأمين بديل، لذلك يمكننا التخمين من فعلها".

التبغ السوري.. حكاية طويلة

بدأت زراعة التبغ وصناعته في سوريا منذ القرن الثامن عشر، استجابةً للتوسّع الصناعي الاستعماري. ومع الانتداب الفرنسي ١٩١٨ استمرّت زراعته وتصديره حتى تأسّست "إدارة حصر التبغ والتنباك" مطلع العام 1935 في سوريا ولبنان بإشراف فرنسي، وفقاً ليوسف الحكيم في كتابه "سورية والانتداب الفرنسي"، وهي ما عُرف لاحقاً باسم "الريجي". بقيت هذه المؤسّسة تمتصّ جهود الفلاحين والعمال وتصدّر التبغ الخام إلى فرنسا حتى تأميمها خمسينات القرن العشرين، كما جاء في كتاب "تكوّن جمهورية" لمحمد هواش.

شكّل عمال هذه المؤسسة إلى جانب عمال الغزل والنسيج والجلود قاعدة للطبقة العمالية في سوريا، إذ يسجّل لعمال وعاملات الريجي أحد أشهر الإضرابات في تاريخ الحركة العمالية السورية مع تجمّع أكثر من مئتي عاملٍ وعاملة في 3 حزيران/ يونيو 1935 منطلقين من باب السريجة في دمشق، ومعهم نساؤهم وأطفالهم في مظاهرة صاخبة وهم يصرخون: "نحن جياع، بدنا نأكل جوعانين، بدنا خبز بدنا طحين" وانضم إليهم في إضرابهم عمال النسيج والأحذية والجلود في دمشق.

حضنت الريجي في أعوامها الأخيرة آلاف العمال المباشرين، هذا عدا عن آلاف أخرى في السلسلة الاقتصادية، من مزارعين وتجّار وصناعيين وغيرهم. واقتصادياً، يُصنّف التبغ ثالث أهم محصول زراعي في سوريا بعد القمح والزيتون، ويُشكّل مصدر دخلٍ أساسي للعديد من العائلات الريفية في الساحل وسهل الغاب وريفي حلب وإدلب. وبسبب توّزع المناطق المزروعة بهذا الشكل أقيمت معامل للتبغ في حلب وطرطوس واللاذقية وجبلة والقرداحة. ووفق أرقام وزارة الصناعة السورية فإنّ قيمة إنتاج مؤسسة التبغ للموسم 2021-2022 بلغت 7572 طناً بقيمة 30 مليار ليرة من مساحة 95 ألف دونم، في حين بلغت نسبة الأرباح المقدّرة 18 مليار ليرة، (ما يعادل 1.3 مليون دولار.)

حصاد الدم: عن مجزرة مشقيتا

07 تموز 2025
"استيقظتُ على صوت ياسر يقول لي أنت عايش روميل؟ عايش؟" هذا أخر ما يتذكّره الناجي الوحيد من مجزرة مشقيتا روميل زوباري، التي راح ضحيتها خمسة مواطنين سوريين بتاريخ 26 أيار/...

حصة اللاذقية لوحدها من إجمالي الإنتاج 3400 طن أي تقريباً نصف الإنتاج السوري الإجمالي. من هنا ندرك حجم الخسارة التي أصابت الساحل السوري، إذ لم يتم هذا العام شراء ورق التبغ من سكانه الفلاحين. ووفقاً لمزارعين في قرى ريف بانياس (بستان الحمام، العنازة، وغيرها)، لم يجر استجرار سوى جزءٍ بسيط من المحصول فيما تُركت مئات الأطنان من ورق التبغ من دون استلام على حدّ قول المزارع ممدوح ابراهيم من بستان الحمام، وهذا العام "لم نزرع مشاتل دخان سوى للاستهلاك المحلي بما يكفي حاجتنا".

بعد الحرائق والسرقات توقف معمل السجائر وبعض أقسام الريدرينغ في اللاذقية، ولأكثر من سبعة أشهر، ذهبت ديمة إلى الدوام لتجلس مع مئات أخرياتٍ في ساحات المعامل من دون عمل فعلي، فـ"الدوام إجباري وأي يوم غياب قد يكون سبباً للفصل"، تقول السيدة الأربعينية.

خلال سنوات عملها كانت ديمة تُسابق الزمن، تستيقظ باكراً كلّ يوم لتصل إلى دوامها في قسم الورق. ترتدي ثياب العمل بسرعة في المشالح وتغوص في معركةٍ يومية مع ورق تبغ (أبو ريحة (و(فرجينيا)، تنزعه من خيطان القنب وتصفّفه طبقاتٍ فوق طبقات. هذه الأنواع هي الأكثر استخداماً في صناعة التبغ السوري. عندما تنتهي تقوم عاملاتٌ أخريات بنقله إلى قسم الفرم حيث يتحوّل هناك إلى ما يُعرف باسم "دخان مفروم" قبل أن ينتقل إلى فرن التخمير. تستمر ديمة مع مئات السيدات اللواتي يمارسن العمل اليدوي نفسه حتى الثالثة والنصف ظهراً إذا كان الدوم صباحياً. العمل ليلاً بنظام الورديات كذلك كان موجوداً. بعضهنّ قضين خمسة عشر عاماً ضمن هذه الدائرة اللانهائية.

أنواع العقود وحقوقها

تعيّنت ديمة ومئاتٌ من الموظفات والموظفين مثلها مع الريجي وفق نظام العقود المؤقّتة التي بدأت في سوريا منذ خمسة عشر عاماً على الأقل، وهدفت وقتها لدعم القطاع الإنتاجي بعمالٍ وعاملات من دون دفع الدولة مزيداً من التكاليف مثل التأمينات والعلاج الطبي وغير ذلك. تروي الأنسة ملك محمود من قسم الشؤون القانونية في شركة الريجي تفصيلاتٍ عن هذه العقود فتقول لسوريا ما انحكت: "هناك ثلاثة أنواع لها: العقود السنوية وهذه تحصل على تأشيرة من الجهاز المركزي للرقابة والتفتيش، وبذلك يحقّ لأصحابها الترفيع كلّ عامين، أي يزيد راتبهم بمقدارٍ معيّن محسوب وفق قانون العاملين الأساسي للدولة. والعقود الموسمية، مدتها ثلاثة أو ستة أشهر، والعقود اليومية، وهذين النوعين لا يحقّ لهما أيّة زيادة على الراتب ولا ترفيعة وظيفية ولا أيّ نوع من الحقوق الأخرى مثل الطبابة أو الحوافز أو النقل". كذلك لا يحقّ لهؤلاء العمال، رغم أنهم الشريحة الأوسع، الحصول على وجبةٍ غذائية دائماً، وبالمثل، فإنّ الحوافز الإنتاجيّة كانت تساعد في فترة  من الأوقات ولكنها انقطعت منذ عدّة سنوات وفق قول ملك حمود.

حصة اللاذقية لوحدها من إجمالي الإنتاج 3400 طن أي تقريباً نصف الإنتاج السوري الإجمالي. من هنا ندرك حجم الخسارة التي أصابت الساحل السوري، إذ لم يتم هذا العام شراء ورق التبغ من سكانه الفلاحين. ووفقاً لمزارعين في قرى ريف بانياس (بستان الحمام، العنازة، وغيرها)، لم يجر استجرار سوى جزءٍ بسيط من المحصول فيما تُركت مئات الأطنان من ورق التبغ من دون استلام على حدّ قول المزارع ممدوح ابراهيم من بستان الحمام، وهذا العام "لم نزرع مشاتل دخان سوى للاستهلاك المحلي بما يكفي حاجتنا".

الكلام السابق، تؤكّده ديمة بقولها: "نحن عاملات بنظام العقود حيث كل يوم محسوب من العقد. كل ما أعرفه أنه إذا سجّلوني غياب ليوم واحد لأي سبب، سينقص راتبي عشرين ألف ليرة".

رغم خطورة العمل فإنّ غالبية عمّال هذه الأقسام من النساء، تشرح ملك: "خلال العقد الماضي غالبية الشباب كانوا في الجيش أو المعارك ولذلك لم يكن أمام النساء سوى تعويض الغياب بالعمل للحصول على حدٍّ أدنى من الرواتب التي لا تكفي أسبوعاً للحياة". يشير إحصاءٌ سريع من قبلنا للأعداد في هذه الأقسام، وليس في مؤسسة الريجي فقط، إلى أنّ أكثر من 90% من هذه الأقسام من النساء اللواتي تتراوح أعمارهن من عشرين سنة حتى الستين تقريباً.

الوضع الصحي قبل وبعد

تقوم العاملات وفق هذه العقود بأكثر أنواع العمل مشقةً وصعوبة، وبأدنى الأجور. ولذلك يعزف عنها الكثيرون ولا يقوم بها سوى من انقطعت به السبل تقريباً. تروي السيدة هند (52 عاماً) وهي أم لثلاثة أطفال أيضاً: "أنا عمري خمسين سنة، مريضة ضغط ولا معي حتى جيب حق الدوا. والريجي هي السبب بالضغط من ورا صوت الآلات القوي اللي يشبه صوت هدير الطائرة".

عاملة منزلية... تخلّت عنها الطوائف

11 أيلول 2025
"الوجع مو إنك تنقطعي من الشغل، الوجع إنو يطلعوكِ من حياتن كأنك خطر، بعد كل هالعمر وأنا مؤتمنة على أسرار بيوتهم". هذا ما تقوله العاملة المنزلية، هند، التي انعكس التمزّق...

في العام الماضي، كما تروي هالة. إ، وهي من أصحاب العقود القديمة حيث قضت ثلاثة عشر عاماً في قسم التنسيل بالريجة. تعرّضت زميلتهم "ازدهار"، وهي عاملة من فئة المتعاقدين مع المعمل عقوداً ربعية، أي لثلاثة أشهر، حادثة كادت تودي بإحدى عينيها: "علّق الخيط الذي عليه الأوراق ببعضه. وفيما حاولت الصبية تفكيكه نسيت أنها تحمل في يدها الثانية مسّلة فولاذية ونتيجة حركتها السريعة أصابت عينها اليسرى بجرحٍ عميق".

في مستوصف المؤسسة أعطوها إسعافاً أولياً ولكن هذا لم يكن كافياً لوقف النزيف. بكاء وألم ازدهار ذات الأربعين عاماً استرعى انتباه مهندسٍ في الشركة فتبرّع بإجراء علاجٍ للسيدة وعلى حسابه الشخصي في مشفى خاص. لا يغطي راتب ديمة ولا ازدهار كلفة أيّ عمل جراحي إسعافي حتى في مشفى حكومي.

لا يلغي "قانون العاملين الموحد" في سوريا الحقوق الأساسية للعمال المؤقتين بشكل كامل، ولكن يختلف نطاق هذه الحقوق مقارنة بالعمال الدائمين، حيث قد تقتصر حقوقهم على ما هو منصوص عليه في عقد العمل أو في الأنظمة الخاصة بالجهات العامة التي يعملون فيها. بشكل عام، قد لا يتمتّع العمال المؤقتون بالمزايا وحوافز العاملين الدائمين نفسها، مثل المكافآت والزيادات السنوية، إلا إذا تمّ النص على ذلك في عقد العمل أو في لوائح الجهة التي يعملون لديها.

في السنوات الأخيرة باتت الطبابة في القطاع العام في أسوأ أحوالها. وبعد أن كانت من الحقوق التي اكتسبها العمال والعاملات بنضالهم الطويل، تحوّلت إلى مسرب للفساد والسرقة. تقول هالة في اللقاء معنا: "نحن لا يحق لنا الطبابة لأننا غير مثبتات رغم أننا قضينا على الأقل عشر سنوات في العمل ورغم كون العديد من إصاباتنا ناتجة عن العمل نفسه". كما تؤكّد وديمة وغيرها هذ الكلام.

القرار الأخير... لم يعد الفصل مجرّد تهديد

مع توقّف معامل اللاذقية من الريجي إلى الغزل إلى الخيوط القطنية، بدأت التهديدات من الإدارات بالفصل للعمال والعاملات "القاعدين دون شغل" كما قال لنا مدير فرع في شركة الخيوط القطنية، طلب عدم ذكر اسمه. ووفق كلام المدير الفرعي، وهو مهندس كهرباء فإنّ هناك "دفع رواتب على الفاضي من دون أيّة إنتاجية".

وكان قرارٌ قد صدر عقب سقوط النظام نهاية شباط/ فبراير 2025 بمنح العاملين والعاملات في عدد كبير من المؤسسات الحكومية إجازةً مأجورة لثلاثة أشهر ثم مدّدت ثلاثة أشهر أخرى حتى شهر آب  25.

التهديدات بالفصل، وهو ما كان يخشاه العمال، تحوّلت إلى واقع ٍ بعد صدور القرار 2533، الذي ينص على "عدم تجديد العقود المؤقتة في حال انتهاء مدتها أياً كان نوعها إلا في ضوء الحاجة العامة، وبموافقة الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية حصراً". لم يكن هذا القرار منعزلاً، بل جاء في إطار ما سمي "التوجهات الحكومية لتحسين كفاءة الجهاز الإداري"، والتي تضمنت أيضاً تجميد التعيينات ووقف تمديد الخدمات. قرارٌ واحد شمل قطاعات الصناعة العامة كافة - الريجي، الغزل، النسيج، وغيرها - محوّلاً مأساة معمل محترق إلى نموذج لأزمة نظامية تهدف إلى "ترشيد الموارد البشرية" على حساب الفئات الأكثر هشاشة.

رغم خطورة العمل فإنّ غالبية عمّال هذه الأقسام من النساء، تشرح ملك: "خلال العقد الماضي غالبية الشباب كانوا في الجيش أو المعارك ولذلك لم يكن أمام النساء سوى تعويض الغياب بالعمل للحصول على حدٍّ أدنى من الرواتب التي لا تكفي أسبوعاً للحياة". يشير إحصاءٌ سريع من قبلنا للأعداد في هذه الأقسام، وليس في مؤسسة الريجي فقط، إلى أنّ أكثر من 90% من هذه الأقسام من النساء اللواتي تتراوح أعمارهن من عشرين سنة حتى الستين تقريباً.

تقول ديمة: "تلقينا النبأ في المعمل أثناء جلوسنا تحت الأشجار. صدقاً ودون مبالغة، أُغمي على ثلاث سيدات عند سماع القرار". لم تكن ديمة وحدها. العشرات من زميلاتها في أقسام الورق والتجفيف والتنسيل تلقين الإشعار نفسه. سيدات قضين أكثر من عقد من الزمن بين جدران المعمل، يعالجن تبغ السوريين بأيديهن، وجدن أنفسهن فجأة أمام باب موصد. كان البند (ج) شهادة وفاة لكرامة آلاف الأسر.

تعلّق هند على القرار: "فجأة،. صار معي ومع رفاقي صدمة. حتى اللي منا مثبتة عطوها إجازة مأجورة، واللي عقودهم 3 شهور أو سنوي فصلوهم كمان. شو ذنبنا نحنا؟ صرلنا عمر بهذا الشغل وهيك كافئونا".

مئات المناشدات والاحتجاجات قام بها العمال والعاملات من دون فائدة. تقول هند: "من أسبوع، نزلنا عند محافظ اللاذقية حوالي مئة عامل وعاملة، لكن ما في فايدة، الكل نزل واحتج، لكن القرار لم يتغيّر ولن. وتقول: "رسائل أخرى وصلتنا "نحن عمال مؤسسة التبغ عقود موسمية منذ أكثر من 16 سنة وملتزمين بعملنا الإنتاجي نتأمل من سيادة الوزير تجديد عقودنا".

أحوال ما بعد الفصل..

تقول ديمة وهند وازدهار بما معناه: "الراتب كان يردنا عن الشحادة، يعني بالكاد يكفي. السؤال الأهم: شو بدنا نعمل هلا؟ عمري خمسين سنة.. شو بدي اشتغل؟"

لا تمتلك النساء خبراتٍ عملية يمكن لهنّ بها البدء بمشروعٍ جديد أو مكانٍ جديد. وفي الأصل فإنّ المئات منهنّ لديهنّ أزواج انضموا على الأرجح إلى سوق العطالة والبطالة. تروي السيدة سعاد من قسم قص البواكي، الريجي (46 عاماً)، متزوجة ولديها طفلان): "أنا أول الناس لاحول ولاقوة ساكنة إيجار وعندي طالب جامعة وبنتي بالمدرسة وأب ماعندن. أفكر إذا كان ممكناً العمل لدى طبيب يحتاج موظفة استقبال لقد انتهت كل مدخراتي وآخر قبض كان في شهر حزيران الماضي".

وبينما تبحث ديمة وزملاؤها عن لقمة عيشهن في أعمال متفرقة، ما زال هناك نقابيون يعملون بصمت لتحريك النقابات في الساحل للاحتجاج والإضراب. لكن دون هذا الحال كثيرٌ من العقبات التي يجب تجاوزها ومنها التنظيم الذي يبدو غير متاح وسط ظروف الساحل الحاليّة.

 في ظلّ هذا الوضع تحولت حياة العاملات إلى جحيمٍ يومي. تعمل فاطمة (38 عاماً) في تنظيف المنازل مقابل دولارين في اليوم. تقول: "أعمل 12 ساعة متواصلة، وأحياناً لا أستلم الأجر كاملاً. لكن ماذا أفعل؟ هذه آخر محطة قبل الشحادة".

مقالات متعلقة

أنا ميسون لكن اسمي سارة

06 أيار 2025
"كنت أداوم في "سانا" صباحاً، وألتحق بالمظاهرات بعد الدوام" هذا ما تقوله الصحفية والناشطة، ميسون المصري، في شهادتها عن نشاطها خلال الثورة، في سوريا وفي المنفى، حيث عملت ونشطت تحت...
ذنب أن تنجو بعد أن تفقد رضيعك في مجزرة

30 تشرين الأول 2025
حاولت نوال أن ترضعه، لكن الحليب جفّ في صدرها، "من كتر الرعبة انقطع الحليب، ابني عم يضعف وما قادرة طعميه". قالت لنا باكية، وهي تشعر بالعجز ينهش قلبها، والذنب يثقل...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد