في ملف العام صفر بعد الأسد، تلقي سوريا ما انحكت نظرة على عام انقضى في محاولات للبداية من جديد، تراوحت فيها خطوات للأمام مع انتكاسات مؤلمة. نرصد بعدسات عريضة، كيف اختبر عناصر من النظام السابق الانهيار غير المتصور لمنظومة اعتقدوا أنها ماضية نحو الأبد، وتراقب المساحات الإيجابية التي فتحها سقوط الدول الأمنية، ودور الأديب/ة في هذه المرحلة، ومحاولات النهوض من بين الركام، مدنياً وثقافياً، دون أن تغفل المجازر التي طالت الساحل والسويداء، والعدالة الانتقالية المتعثرة، وبواعث القلق من تغير هوية البلاد.
(القامشلي)، بعد مرور ما يُقارب عاماً على سقوط النظام السوري السابق، بدأت ملامح مرحلةٍ مدنية جديدة تتكشّف، عاد التواصل بين دمشق وشمال شرق سوريا ليأخذ شكلاً مباشراً لأوّل مرّة منذ سنواتٍ طويلة، والمساحات التي كانت مغلقةً تماماً أمام العمل المدني تحوّلت إلى فضاءٍ أكثر انفتاحاً، لكنه لا يزال هشّاً وغير مستقر.
انفتاح دمشق، فتح الباب أمام زياراتٍ ولقاءاتٍ مُتبادلة بين الفاعلين المدنيين عبر الجغرافيا السورية، ليُعيد طرح سؤالٍ جوهري: هل يمكن لجسور المجتمع المدني أن تساهم في تجاوز خطوط النزاع التي رسّختها أربع عشرة سنةً من العزلة؟
التجارب التي حملها ناشطون وناشطاتٌ من شمال شرق سوريا خلال عامٍ من الانخراط في فعالياتٍ ولقاءات داخل دمشق تكشف مزيجاً مُعقّداً من الانفتاح الحذر، والتحديات البنيوية، والفرص غير المسبوقة. فبينما تُبدي المنظمات قدرةً أكبر على الحركة وبناء الشراكات، ما تزال الفجوات المعرفية، واختلاف الأطر القانونية، وخطاب الكراهية، والتسييس، تعيق عملية التشبيك بين الطرفين، في وقتٍ يبدو فيه التعاون العابر للمناطق ضرورةً لا بديل عنها في مرحلةٍ انتقالية لم تتّضح معالمها بعد.
تغيّر طبيعة العمل المدني بعد السقوط، انفتاح الجغرافيا وتباين التجارب
تؤكد شيرين إبراهيم، مديرة المشاريع في رابطة دار لضحايا التهجير القسري أن التعاون مع الناشطين والناشطات المدنيين قبل سقوط النظام كان شبه معدوم. و أن مشهد ما بعد 2011 وسّع من مساحة التعاون بين المبادرات المدنية: "لم نصل إلى صيغةٍ واضحة لتعاونٍ أو اتفاقٍ على تغطية احتياجٍ محدد في اللقاءات التي قمنا بها. لكنْ، هناك وعودٌ بيننا، وتواصلات افتراضية مستمرة، والآن نقوم بالتحضير لزيارة مجموعةٍ من المحامين إلى مناطق شمال شرق سوريا، للعمل على بعض قضايا الحوكمة وآليات الانتخابات وغيرها".
الطفل الذي توقّف عن الركض
29 تشرين الثاني 2025
تعتبر شيرين ما جرى بعد السقوط "تحوّلاً نوعياً"، إذ أصبحت المنظمات قادرةً على التحرك في معظم الجغرافيا السورية و"بناء شراكاتٍ فيزيائية كانت مستحيلةً في السابق". لكنها تُذكّر بأن الانفتاح الجديد رافقه أيضاً تحدياتٌ ناشئة، بينها المنافسة على الموارد والتفاوت بين ظروف المناطق، ومحاولات أطرافٍ سياسية التأثير في المجتمع المدني.
الناشط المدني مورياب حدو يقدّم وصفاً مختلفاً للمرحلة السابقة، لكنه يصل إلى نتيجةٍ مشابهة: "كان أغلب العمل يجري دون ظهورٍ إعلاميّ خوفاً من الملاحقات الأمنية. اليوم الوضع مختلف؛ صار بالإمكان التحرك بحريةٍ أكبر داخل المناطق التي كانت سابقاً خاضعة للنظام، والظهور في لقاءاتٍ ومنتديات كانت مستحيلة".
ويرى مورياب أن احتكاك منظمات دمشق مع منظمات شمال شرق سوريا "لم يكن ممكناً قبل سنوات"، وأن سقوط النظام فتح الباب لتواصلٍ جديد. لكن، وحسب رأيه، "يصعب تحديد مستوى الانفتاح بدقة" لأن المنظمات ما تزال في طور إعادة هيكلة عملها وتوزّعها الجغرافي.
بالنسبة لسيماف حسن، مسؤولة التواصل والمناصرة في "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة"، "المعرفة النظرية واحدة بين النشطاء، لكن التطبيق كان يخضع لتعقيدات كل منطقة". تشير سيماف إلى أنّ هامش النقاش في القضايا الدستورية والحكم المحلي في شمال شرق سوريا كان أوسع خلال السنوات الماضية، بينما لم يكن ذلك متاحاً في مناطق النظام حتى لو وصلت إليها المعرفة نفسها.
هذا الانفتاح لم يُثمر تعاوناً حقيقياً حتى الآن، إلا أن محاولة توحيد الجهود قائمة، ترى سيماف، مشيرةً إلى إقامتهم مجموعة جلساتٍ في عدة مناطق سورية خلال العام الفائت، حضرها ممثلون/ات لمنظماتٍ حقوقية من كافة المناطق السورية، عن "العدالة الانتقالية في السياق السوري"، أظهرت تباين وتنوع الأولويات والرؤى بين الأطراف المشاركة.
"في شمال شرق سوريا، كان الحديث عن ضحايا العمليات العسكرية المدعومة من تركيا. وفي دمشق وريفها، كان الحديث عن التدخل الروسي وانتهاكاته. وفي الجنوب عن التدخل الإسرائيلي. هذا الاستنتاج دفعنا لعقد جلساتٍ أكثر مع فئاتٍ مختلفة ومن مناطق مختلفة، سعياً للوصول إلى فهمٍ أوسع حول رؤية السوريين/ات للعدالة واللا عدالة"، تقول سيماف.
ويرى بلند أن غياب حرية التنقل، وعدم ضمان حماية العاملين، وهيكلية الحكم المتغيرة على امتداد البلاد، تمنع بناء تعاونٍ فعّال. ورغم ذلك، يرى أن هناك فرصاً يمكن البناء عليها، من بينها "المساحات المدنية التي تدعم التفاوض، والزيارات المتبادلة، والقدرة على العمل على ملفاتٍ مشتركة كالمياه، والطاقة، والحوكمة، والعدالة الانتقالية، والتعافي الاقتصادي".
الصحفي عمار ديوب المقيم في دمشق، يرى المجتمع المدنيّ في شمال شرق سوريا منفتحاً بشكل أكبر على المجتمع الغربي ولديه شبه استقلاليةٍ عن نظام دمشق، ويقوم بمشاريع معلنة وواضحة، بينما كان عمل المنظمات في دمشق والمناطق الأخرى، سرياً، في ظل الرقابة.
"هناك قدرٌ من التسييس في شمال شرقي سوريا، بينما ظل عمل المنظمات أقرب لأعمال المجتمع المدني وبعيداً عن السياسة في دمشق، وفي الحالتين لم تتحقق نتائج واسعة في تغيير بنية الوعي وقيمة النساء، والقضايا المتعلقة بالمواطنة والتعليم وغيرها"، يقول عمار.
بالمقابل يرى بلند ملا، المدير التنفيذي لمنظمة HDC، غير حكومية، أن تباين الأوضاع في المنطقتين قبل السقوط لم يكن مرتبطاً فقط بالرقابة الأمنية، بل أيضاً بمسار التمويل: "كان للحكومة سلطةٌ على المشاريع والخدمات، وأيضاً على التمويل، إلى جانب غياب الحيادية في تقييم الاحتياجات، خاصة فيما يتعلق بـ (أوتشا، مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية). رغم ذلك، شهدت مناطق شمال شرق نشاطاً مدنياً في قضايا الحوكمة والسياسات العامة".
ويشير بلند إلى أن الانفتاح الجغرافي سمح بتبادل الرؤى وبناء أرضيّةٍ معرفية مشتركة، رغم أن هذا الانفتاح "لم يصل بعد إلى مستوى الانفتاح الجريء والجاد على قضايا شمال شرق سوريا"، على حد توصيفه.
القامشلي .. محطّة السوريين الأخيرة بين الخوف والحنين
13 تشرين الثاني 2025
في الساحل السوري، وبرؤية مختلفة، تجد مريم عطالله خبيرة التدريب وباحثة في مجال السلم الأهلي، أنه اليوم، وبعد سقوط النظام السوري السابق، تقلّص الحيّز المدني في كافة المناطق لأسباب مختلفة، تذكر منها القيود الأمنية، والتشرذم السياسي، ونقص التمويل، وتضييق مساحة العمل المدني، وأصبح التحرك محكوماً بالممولين والمانحين، وخُلقت مجتمعاتٌ مدنية متوازية بحسب خطوط السيطرة، عوضاً عن بناء جسمٍ مدنيّ واحد.
"العمل المدنيّ في الساحل منخفض الصوت، ومحكومٌ بالموافقات والرقابة، لذا يُجبر الناشطون على العمل ضمن هوامش صغيرة ومتغيرة، لكنّ هناك خبراتٍ عالية في مجال الاستجابة الإنسانية، مع وجود ضعفٍ في مفاهيم الحوكمة والعمل السياسي"، تقول مريم.
وتعتبر مريم أن المناطق التي كانت خارج سيطرة النظام السوري السابق "أكثر نضجاً" وقدرةً على فهم الواقع وتحليله، وأنّ "استنتاجي هذا مبنيٌّ على لقاءاتٍ أجريتها مع ناشطين/ات من مناطق مختلفة من شمال شرق سوريا وإدلب وغيرها من المناطق التي كان هامش العمل فيها أفضل".
تحديات الانفتاح وفرص التعاون، بين خطاب الكراهية وضعف المعرفة وتسييس القضايا
تتفق معظم الآراء على أن ما تحقق خلال العام الماضي مهمّ، لكنه هشّ، وتختلف بواعث القلق عند مَن تحدثنا معهم، ما يعكس تعدّد الطبقات التي تعيق بناء جسورٍ متينة بين دمشق وشمال شرق سوريا، فبالنسبة لشيرين إبراهيم، تبدأ التحديات من الإرث الثقيل للفصل بين المناطق خلال السنوات الماضية.
"العزلة السياسية والجغرافية بعد 2011 خلقت فجوةً في التفاهم بين السوريين، كما أنّ انتشار الخطاب التحريضي بعد هروب الأسد وغياب المعلومات الموثوقة عن شمال شرق سوريا شكّل عائقاً أمام الانفتاح"، تقول شيرين، وتضيف أنّ اختلاف الأطر القانونية والإدارية وانعدام الحركة السلسة بين المناطق يزيد من صعوبة بناء تعاونٍ مستدام.
طبقةٌ أخرى من التحديات يشير إليها مورياب حدو، تتعلق بتأثير الصراع على العلاقات الاجتماعية ذاتها، إذ يرى أنها تشكّل عائقاً لا ينبغي إغفاله:"هناك حاجزٌ نفسي واجتماعي تشكّل خلال سنوات الحرب، ليس فقط بين دمشق وشمال شرق، بل بين كل السوريين تقريباً".
ورغم ذلك يؤكد مورياب أن الفرص باتت أكبر من أي وقتٍ مضى: مساحة حركةٍ أوسع، ورغبةٌ مؤسساتية بالتقارب، وقضايا مشتركة يمكن العمل عليها.
لكن سيماف حسن تذهب أبعد في النظر إلى المرحلة الحالية بانتقاد، وتعتبر أن التحدي الأكبر اليوم هو استمرار تهميش مناطق شمال شرق سوريا في الملفات الوطنية، قائلة:"لا يوجد اختلافٌ حقيقي في منح الأولويات، لأن المنطقة ما زالت مستثناة. لم يُدعَ ضحايا شمال شرق سوريا للجلسات التي عقدتها الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية أو هيئة المفقودين".
سيماف حسن تذهب أبعد في النظر إلى المرحلة الحالية بانتقاد، وتعتبر أن التحدي الأكبر اليوم هو استمرار تهميش مناطق شمال شرق سوريا في الملفات الوطنية، قائلة:"لا يوجد اختلافٌ حقيقي في منح الأولويات، لأن المنطقة ما زالت مستثناة. لم يُدعَ ضحايا شمال شرق سوريا للجلسات التي عقدتها الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية أو هيئة المفقودين".
وتحذر سيماف من خطر إعادة إنتاج المركزية السابقة عبر "تمركز النشاطات في العاصمة"، في وقتٍ يحتاج فيه السوريون إلى معرفة واقع بعضهم بعضاً على الأرض، لا عبر الاجتماعات الافتراضية، وتجد أنّ خطاب الكراهية والتنميط أحد أخطر التحديات أمام بناء الجسور.
من جهته، يعتبر بلند ملا أن التحدي الأبرز هو تسييس القضايا الإنسانية، يقول: "لم نرَ انفتاحاً كبيراً وجريئاً على قضايا شمال شرق سوريا لأن كثيراً منها جرى تسييسه، وغالباً ما يتم التعاطي مع قضايا المياه، والمخيمات، والحقوق، والسكن والملكية بقدرٍ من التحفظ أو المعارضة".
ويرى بلند أن غياب حرية التنقل، وعدم ضمان حماية العاملين، وهيكلية الحكم المتغيرة على امتداد البلاد، تمنع بناء تعاونٍ فعّال. ورغم ذلك، يرى أن هناك فرصاً يمكن البناء عليها، من بينها "المساحات المدنية التي تدعم التفاوض، والزيارات المتبادلة، والقدرة على العمل على ملفاتٍ مشتركة كالمياه، والطاقة، والحوكمة، والعدالة الانتقالية، والتعافي الاقتصادي".
"هناك اهتمامٌ وانفتاح غير متوازن على القضايا السورية في المجتمع المدني السوري، وكلٌ يهتم بقضاياه المباشرة، بينما يبقى التفاعل بين المناطق محدوداً، نتيجة الاستقطاب السياسي والإعلامي، وضعف القنوات الجغرافية والتواصلية" تقول مريم.
وتصف المجتمع المدني في دمشق بـ "المنضبط والمراقَب"، لذا فإنّ قدرته على التفاعل مع مناطق أخرى "محدود للغاية"، وتلخّص مريم التحديات أمام بناء جسور التواصل بين المجتمع المدني السوري بالاستقطاب السياسي والجغرافي، وغياب الثقة المتبادلة، والقيود الأمنية من كل الأطراف، والاعتماد على الممولين، وغياب إطارٍ وطنيّ جامع.
أما عن الفرص، فتقول مريم: "هناك الكثير من القضايا التي يمكن أن تجمع المجتمع المدني السوري، منها التوثيق والعدالة الانتقالية، ودعم المبادرات الشبابية والتعليمية، وتمكين النساء، والمناصرة الدولية المشتركة، وبرامج بناء السلام المحلي، وغيرها".
مسارٌ مفتوح… لكنه غير مضمون
تُجمع شهادات الناشطين/ات على أنّ العام الأول بعد السقوط شهد انفتاحاً حقيقياً، لكنه ما يزال محكوماً بتعقيدات السياسة وانقسامات المجتمع وخطوط النفوذ. وبينما يرى البعض أن التعاون يمكن أن يتطور تدريجياً إذا استمر التركيز على القضايا الحقوقية والإنسانية المشتركة، يحذر آخرون من احتمال تقلّص المساحة إذا اتجهت الحكومة الانتقالية نحو مركزيةٍ أكثر تشدداً، وأنّ استدامة مسار الانفتاح هو رهن قدرة الناشطين/ات على تجاوز الانقسام الجغرافي والسياسي.
ورغم اختلاف زوايا النظر، يتم اللقاء عند نقطةٍ واحدة: لا يمكن بناء مستقبلٍ مدنيّ مشترك ما لم يعرف السوريون بعضهم بعضاً، ويتجاوزوا إرث الانعزال، ويبنوا قنواتٍ دائمة للحوار والعمل المشترك.







