”بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوريّ“، هي سلسلةٌ تهدف إلى تسليط الضوء على أصوات منظمات المجتمع المدنيّ السوريّ والناشطين/ات والصحفيين/ات، والذين يدافعون عن الحلول الإيجابية وحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ووضعها في سياقها الصحيح.
السياق:
لأول مرّة، انعقد مؤتمر "يوم الحوار مع المجتمع المدني السوري" (بروكسل 9) في دمشق يوم 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2025. ابتدأ تنظيم هذا المؤتمر منذ العام 2017 في بروكسل في إطار المؤتمر السنوي لدعم مستقبل سوريا. وهو يُعدّ منصةً تفاعلية تجمع منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، العاملة داخل البلاد وفي دول الجوار، بهدف تبادل الخبرات ووجهات النظر، والمساهمة في صياغة السياسات التي توجّه الدعم الدولي المخصّص للسوريين.
وجاء هذا المؤتمر الأول بعد سقوط نظام بشار الأسد أواخر عام 2024، بتنظيمٍ مشترك بين الحكومة السورية الانتقالية والاتحاد الأوروبي، وركز على تمكين المجتمع المدني السوري للقيام بدورٍ فعّال في مسار المرحلة الانتقالية. وقد شارك فيه أكثر من 500 مشارك، بينهم مستقلون وممثلون عن 355 منظمة مدنية، بما في ذلك منظماتٌ من مناطق "الإدارة الذاتية" الكُردية لشمال وشرق سوريا، فيما قاطعته المنظمات العاملة في السويداء، جنوب سوريا. وشاركت الحكومة الانتقالية في المؤتمر ممثلةً بوزير الخارجية أسعد الشيباني ووزيرة الشؤون الاجتماعية هند قبوات وغيرهما. من جانبها، شاركتْ الجهات الدولية بممثلين عن الاتحاد الأوروبي، والدول الأعضاء فيه، والدول المجاورة، والأمم المتحدة، والمنظمات غير الحكومية الدولية.
تناول المشاركون الأولوياتِ الرئيسية للمرحلة الانتقالية في سوريا، وتحديداً العدالة الانتقالية، والتماسك الاجتماعي، والانتقال من المساعدات الإنسانية إلى التعافي الاجتماعي الاقتصادي.
ورغم تأكيد منظّمي المؤتمر على أنه يمثل خطوةً هامةً من الاتحاد الأوروبي في دعمه لحيّزٍ مدنيّ آمن، تمكينيٍّ ومستقلّ في سوريا، ويدل على استعداد الاتحاد لمواكبة السوريين في طريقهم نحو المصالحة والتماسك الاجتماعي، وإشادة العديد من المنظمات بانعقاده على أنه نافذةٌ لإيصال أصواتهم داخل سوريا، وتعبيرٌ عن آرائهم واحتياجاتهم؛ برزت أيضاً أصواتٌ ناقدة، متسائلةً عن مدى استقلالية المجتمع المدني في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها البلاد، مشددةً في الوقت ذاته على ضرورة ألا تتحول المنظمات المدنية إلى امتدادٍ لأجنداتٍ سياسية.
وانتقدت هذه الأصوات آليةَ الانعقاد والمشاركة، مشيرةً إلى استبعاد مكوّناتٍ كاملة، فضلاً عن حضور بعضها بشكلٍ صوري، مشككين في تمثيل المؤتمر السوريين جميعاً بصورةٍ حقيقية وفعّلية.
مشاركةٌ واسعة من المجتمع المدني
في اليوم السابق لانعقاد المؤتمر، 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، أصدرت تسع منظماتٍ مدنية ورقة موقفٍ مشترك تنتقد فيها الجمود السياسيّ على الصعيد الداخلي مقارنةً بالتقدم السياسيّ على الصعيد الدوليّ، وطالبت بإعادة فتح مسار الحوار الوطني على أسس شفافة وتشاركية، وصياغة برامج وطنية للمصالحة المجتمعية، ومراجعة الإطار الدستوري المؤقت لضمان الفصل بين السلطات والحدّ من تركّز الصلاحيات بيد الرئيس الانتقاليّ، فضلاً عن تعزيز استقلال القضاء، والسعي لضمان التمثيل الشامل لكافة المكوّنات. كما شدّدتْ على ضرورة تمثيل النساء بنسبةٍ لا تقل عن 40% في مؤسسات المرحلة الانتقالية، وتفعيل آليات رقابة ومكافحة الفساد، واستبعاد مموّلي اقتصاد الحرب من التعاقدات العامة.
وغلبت الإشادات والتعليقات الايجابية بين ردات فعل المنظمات المدنية، التي رصدها سوريا ما انحكت، واعتبر المنظمون والمشاركون أن انعقاد المؤتمر في دمشق يمثل "نقطة تحوّلٍ تاريخية"، وخطوةً نحو دعم العملية الانتقالية التي يقودها السوريون.
منظمة "يداً بيد" للإغاثة والتنمية، المشاركة في المؤتمر، رحّبت بانعقاده داخل البلاد، معتبرةً أن ذلك يشكّل "باباً وأفقاً جديداً" للعمل المدني في البلاد بعد سقوط نظام بشار الأسد، مؤكدةً أنها ترى في مشاركتها جزءاً من دورها كشريكٍ فاعل في تعزيز العمل المدنيّ ودعم جهود التعافي، بما يسهم في بناء مستقبلٍ أكثر استقراراً وإنصافاً لجميع السوريين.
أيضاً، أكدت منظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة" أنّ المؤتمر شكّل مساحةً للتواصل المباشر والتنسيق مع الفاعلين في المجتمع المدني السوري، حيث تم تبادل الخبرات ومناقشة رؤىً مشتركة لبناء سوريا ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وتعزز المشاركة المدنية والمواطنة المتساوية، مشيرةً إلى أن الحوار هو الخطوة الأولى نحو تحقيق سوريا عادلة وشاملة، مشددةً على أنّ نجاح العملية الانتقالية يتطلب إرادةً سياسيةً حقيقية، واعترافاً بحقوق كل السوريين.
كذلك، اعتبر المحامي مازن درويش، رئيس "المركز السوري للإعلام وحرية التعبير"، وأحد المشاركين في المؤتمر، أنّ أهمية الحدث تكمن في كونه "المرة الأولى التي يجري فيها حوارٌ مباشر بين المجتمع المدني والحكومة السورية داخل سوريا، حول ملفات وقضايا فيها مجموعةٌ من التحديات الكبرى التي تواجه السوريين عموماً".
أكدت منظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة" أنّ المؤتمر شكّل مساحةً للتواصل المباشر والتنسيق مع الفاعلين في المجتمع المدني السوري، حيث تم تبادل الخبرات ومناقشة رؤىً مشتركة لبناء سوريا ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وتعزز المشاركة المدنية والمواطنة المتساوية، مشيرةً إلى أن الحوار هو الخطوة الأولى نحو تحقيق سوريا عادلة وشاملة، مشددةً على أنّ نجاح العملية الانتقالية يتطلب إرادةً سياسيةً حقيقية، واعترافاً بحقوق كل السوريين.
شهدت جلسات الطاولة المستديرة الحوارية في المؤتمر نقاشاً للعديد من القضايا والمواضيع التي تهم السوريين/ات وبناء مستقبلهم. وركّزت بعض المنظمات، وممثليها المشاركين، على بناء شراكةٍ عملية مع المؤسسات الحكومية، وطرحوا عدة توصيات. ففي ملف العدالة الانتقالية والمفقودين، أكد محمد رضا جلخي، رئيس "الهيئة الوطنية للمفقودين"، على تعقيد هذا الملفّ ومن ثم، ضرورة ربطه بالعدالة الانتقالية لتحقيق سلامٍ مستدام، ومصالحةٍ حقيقية.
من جانبها، قالت رنا شيخ علي، مديرة مبادرة “دارة سلام”، إنها كانت فخورةً بتقديم تجربتها كمواطنةٍ وناشطة في المجتمع المدنيّ، حيث تحدثت في الطاولة المستديرة الخاصة بالحوكمة وإشراك الفئات المهمشة وبناء المؤسسات، مؤكدةً على أهمية الشفافية كأساسٍ لاستعادة الثقة بين المواطنين والدولة، ودور القانون وسيادة القانون في خلق بيئةٍ تشجع على المشاركة الفاعلة، مشيرة إلى أنّ هذه المبادرة تمثل خطوةً أولى من بين العديد من الخطوات الضرورية لضمان وصول صوت الناس والمساهمة في قيادة التغيير.
وتناول أحمد موسى الهشلوم، مدير منظمة “إنماء”، دور المجتمع المدني في حماية الحيّز المدني، مؤكداً ضرورة تعزيز الأطر القانونية لحماية عمله، إلى جانب معالجة أبرز التحديات واستحداث آلياتٍ واستراتيجياتٍ مناسبة.
انتقاداتٌ متعددة المستويات للمؤتمر
كان من اللافت محاولة منظمي المؤتمر التأكيد على أنه تشميليّ. هكذا شارك ممثلون عن منظماتٍ عاملة في المناطق الكُردية في شمال وشرق سوريا، ولوحظ استخدام اللغة الكُردية في الترجمة الفورية للمؤتمر للمرة الأولى في حدثٍ رسميٍّ بهذا المستوى.
إلا أن ما سبق ليس كافياً لاعتبار المشاركة متاحةً للجميع، وفقاً للعديد من المنظمات والنشطاء. خلال مشاركة منظمة "بيل-الأمواج المدنية" في المؤتمر، تحدث ممثلها في طاولتي تمكين الشباب والحوكمة المؤسساتية عن أهمية التشاركية والتمثيل والاعتراف الدستوريّ بالتنوع اللغويّ، منتقداً غياب نشطاء وممثلين أكراد كمتحدثين رئيسيين، واحتكار الحكومة للمسارات الانتقالية، داعياً إلى تشبيك منظمات المجتمع المدني لقيادة مسارٍ موازٍ يُصحّح العملية الانتقالية، ويوسّع إطار العدالة الانتقالية، ويضمن شمولية المساءلة لجميع الأطراف المتورطة في الانتهاكات السابقة والحالية.
بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوري: الحلقة التاسعة
03 تشرين الثاني 2025
كما انتقدت، الناشطة والعاملة في المجتمع المدني، ناز حمي، ذلك من بين جوانب أخرى في المؤتمر، واعتبرت أن "غياب صوت منظمات السويداء وغياب تمثيل النساء والمكوّنات الكُردية في الموائد المستديرة، رغم توفر الترجمة الكُردية، تمثل فجواتٍ عدة أكثر من كونها مجرد تفاصيل عابرة، بل تمثل جزءاً من المشكلة"، مؤكدةً أن الالتزام الحقيقي بالديمقراطية وحقوق الإنسان يتطلب احترام التعددية الاجتماعية واللغوية والثقافية، وأن اللغة الكُردية تمثل حقاً أساسياً وليس مجرد إضافةٍ شكلية ضمن خدمات الترجمة، وعليه، فإن الطريق لا يزال طويلاً لتحقيق حوارٍ وطنيّ شامل وصادق يمثّل الجميع.
وكتب الصحفي جاندي خالدي أن غياب ممثلين ومتحدثين من المكوّن الكرديّ عن الجلسات الرئيسية جعل الحوار مبتوراً ومنقوصاً وغير متوازنٍ أوعادل. بينما قال شيار نيو، مدير البرامج في مؤسسة "آرتا" للإعلام والتنمية، إنّ إشراك الحكومة السورية في تنظيم المؤتمر بين الاتحاد الأوروبي والمجتمع المدني يشكّل من جهةٍ مؤشراً إيجابياً على انفتاح الحكومة على إشراك المجتمع المدني في بناء الدولة ومؤسساتها، لكن من جهة أخرى، قد يضع المنظمات تحت رحمتها وهيمنتها، ليس فقط عبر متطلبات الترخيص والتمويل، بل أيضاً من خلال التدخل في توجهاتها وأولوياتها وإدارتها، وبالتالي يجب حماية استقلالية المجتمع المدني وضمان عدم خضوعها لأيّة هيمنة سياسية.
من جانبه، قال فرهاد احمي، مدير منظمة "بيل-الأمواج المدنية"، لـ حكاية ما انحكت، إن انعقاد مؤتمر "يوم الحوار" هذا العام في دمشق يحمل أهميةً رمزية، ويشكّل منصةً للتعارف والتشبيك بين المنظمات المدنية السورية، لكنه لا يلبي الطموحات في المشاركة الحقيقية المنظمة والمستدامة في النقاشات حول مستقبل البلاد، مبيّناً أن الوقت المخصص للنقاشات كان محدوداً، ولم يلاحظ مشاركة المنظمات في التحضير لوضع أجندة المؤتمر أو تحديد القضايا الأساسية التي تستوجب النقاش، خاصةً ما جرى في الساحل وتالياً السويداء. وخلص إلى أن السوريين بحاجةٍ إلى حوارٍ حقيقيٍّ وشامل، لا إلى فعالياتٍ ذات طابعٍ رمزيّ وصوريّ، بحاجةٍ إلى معالجة التحديات الكبيرة لضمان مستقبلٍ مشتركٍ وعادلٍ للجميع.
استبعادٌ ومقاطعاتٌ للمؤتمر
في المقابل، رأت الناشطة المدنية تيما عيسى أن المؤتمر كشف عن مشكلاتٍ جوهرية، أبرزها غياب معايير واضحة لاختيار المشاركين، وطغيان الطابع السياسي بعد افتتاحه واختتامه من الحكومة الانتقالية، منوّهةً إلى غياب الإعلاميين والفنانين والنقابات عن الدعوات، ما جعل تعريف المجتمع المدني ضيقاً ومحدوداً. واعتبرت عيسى أنّ مخرجات الجلسات لم تكن دقيقة، وأنّ أدوار الأطراف الثلاثة بقيت منقوصة: المجتمع المدني بلا تأثيرٍ فعّلي، والاتحاد الأوروبي لم يضغط لتصحيح التمثيل، بينما أضاعت الحكومة فرصةً لبناء تواصلٍ جديّ مع مختلف المكوّنات.
محمد العبدلله، المدير التنفيذي لـ"المركز السوري للعدالة والمساءلة"، انتقد أيضاً اختيار الحكومة الانتقالية المشاركين في المؤتمر، وقال لسوريا ما انحكت، إنّ وزارتي الخارجية والشؤون الاجتماعية في الحكومة الانتقالية قامتا بمراجعة قوائم المرشحين، وحذفتا عدداً من أسماء الشخصيات والمنظمات التي رشحها الاتحاد الأوروبي. وأوضح أن "اسمه كان مطروحاً كمتحدث"، لكنه استُبعد كما يبدو، معتبراً أن "السلطة ليست مهتمةً كثيراً بسماع رأيٍ محايد".
قال فرهاد احمي، مدير منظمة "بيل-الأمواج المدنية"، لـ حكاية ما انحكت، إن انعقاد مؤتمر "يوم الحوار" هذا العام في دمشق يحمل أهميةً رمزية، ويشكّل منصةً للتعارف والتشبيك بين المنظمات المدنية السورية، لكنه لا يلبي الطموحات في المشاركة الحقيقية المنظمة والمستدامة في النقاشات حول مستقبل البلاد، مبيّناً أن الوقت المخصص للنقاشات كان محدوداً، ولم يلاحظ مشاركة المنظمات في التحضير لوضع أجندة المؤتمر أو تحديد القضايا الأساسية التي تستوجب النقاش، خاصةً ما جرى في الساحل وتالياً السويداء. وخلص إلى أن السوريين بحاجةٍ إلى حوارٍ حقيقيٍّ وشامل، لا إلى فعالياتٍ ذات طابعٍ رمزيّ وصوريّ، بحاجةٍ إلى معالجة التحديات الكبيرة لضمان مستقبلٍ مشتركٍ وعادلٍ للجميع.
وقد أعلنت عدة منظمات مجتمعٍ مدني في السويداء مقاطعتها للمؤتمر، في بيانٍ صدر بتاريخ 9 تشرين الثاني/نوفمبر، حيث طالبت فيه بإدراج موقفها ضمن وثائق الفعالية وقراءته أمام الحضور، معتبرةً أن مشاركة الحكومة الانتقالية، المتهمة بارتكاب “انتهاكات جسيمة” في السويداء، تُفقد الحوار معناه، مؤكدةً أن أيّة عملية حوار لا يمكن أن تُبنى "في ظلّ الإفلات من العقاب"، وبأنّ جرائم القتل والاغتصاب والتهجير والخطف المرتكبة في المحافظة موثقة، وأن إشراك الجهات المسؤولة عنها يناقض مبادئ الاتحاد الأوروبي.
كما انتقد البيان “التناقض” بين أجندة المؤتمر وقيم العدالة والحوكمة التي يطرحها، وبين ممارسات الحكومة على الأرض، داعياً المنظمات السورية إلى تحمّل مسؤوليتها الأخلاقية وعدم الصمت عن الانتهاكات، ومطالبة الاتحاد الأوروبي بمراجعة نهجه لضمان ألّا يتحوّل “الحوار” إلى غطاءٍ سياسيّ يتجاوز الضحايا، وتجديد الالتزام بعدم الشراكة أو الحوار مع المنتهكين قبل تحقيق مساءلةٍ وعدالةٍ حقيقيتين.
قائمة منظمات المجتمع المدني والناشطين الرئيسيين المدرَجين في هذه المقالة:
ورقة موقف مشتركة من منظمات مدنية لمؤتمر "يوم الحوار"
منظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة"
منظمة "يداً بيد" للإغاثة والتنمية
"المركز السوري للإعلام و حرية التعبير"
رنا شيخ علي، مديرة مبادرة “دارة سلام”
الناشطة والعاملة في المجتمع المدني، ناز حمي
الناشط ومدير البرامج في مؤسسة "آرتا" للإعلام والتنمية، شيار نيو
الناشط ومدير منظمة "بيل-الأمواج المدنية"، فرهاد أحمي
محمد العبدلله، المدير التنفيذي لـ"المركز السوري للعدالة والمساءلة"






