أقر المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي في مؤتمره عام 2005 التوّجه العلني نحو اقتصاد سوق اجتماعي، بعد أن كان أرسى أسسه عمليا منذ سنوات سابقة، دون أن يوّضح بشكل تفصيلي المقصود بآليات الانتقال من اقتصاد موّجه وممسوك من قبل الدولة إلى اقتصاد سوق اجتماعي. وهو أمر كان مقصوداً كما بيّنت التجربة اللاحقة، التي أدت إلى الانفجار فوجدنا أنفسنا أمام "اقتصاد سوء اجتماعي" مهّد عمليا للانتفاضة السورية، ذات الجذور اجتماعية اقتصادية قبل أن تكون سياسية، إذ رغم أن الظاهر اليوم على سطح الأحداث السورية يعطي الأولوية للعامل السياسي، متجسداً بشعار إسقاط النظام وإزالة الاستبداد، فإنه لا يمكن تجاهل حقيقة أن الوصول إلى دولة مدنية علمانية ديمقراطية لا يمكن أن يكون دون تغيير النظام الاقتصادي الاجتماعي، الذي شكلّ جوهر الاستبداد، باتجاه نظام آخر يحقق العدالة الاجتماعية، ويعيد توزيع الدخل بما يتناسب مع كل الفئات السورية، لتصب سلال النمو في جيوب الطبقة الكبرى من المجتمع، أي الفقراء والمهمشين الذين ثاروا عملياً لأجل الخبز والكرامة، وليكون السؤال المطروح هنا: هل يمكن لاقتصاد السوق الاجتماعي الذي تم إقراره أن يكون نظاماً اقتصادياً مقبولاً في سوريا المستقبل؟
لم يكن اقتصاد السوق الاجتماعي الذي طبّق في سوريا اقتصاداً بالمعنى المعروف عنه، بل نسخة مشوّهة بشكل مطلق، لأن السلطة السورية التي اتخذت قرار التحوّل نحو هذا النموذج لم تتخذه لأنها اقتنعت بضرورة هذا التحوّل وأهميته، بل لأنها رأت فيه نوعاً جديداً من الهيمنة التي تحقق لها إيديولوجية تناسب التحوّلات السورية التي جرت عبر عقود، على طبقة رجال المال في سوريا وعلى بنية النظام والقوى الحاكمة فيه من الداخل. فإذا كان اقتصاد السوق الاجتماعي يتطلّب حداً من الليبرالية السياسية والانفتاح على قوى السوق، مع ضرورة الحفاظ على مكتسبات الطبقات الاجتماعية الدنيا من المجتمع بما يتعلق بالحاجات ذات الصلة الأساسية بحياة المواطن، فإن النموذج السوري حاكى النموذج من شقه الاقتصادي بعيداً عن شقه السياسي/ الأمني الذي بقي ممسكاً بكل شيء ومجيّراً الاقتصاد والثروة لصالح السلطة، بحيث صار الحيتان الكبار الذين ولدوا من رحم دولة الفساد نفسها وأبناء المركب الأمني التجاري، هم المتسيّدون في البلد، وأضحى النظام الأمني مجرد حارس لممتلكاتهم ومشاريعهم، حيث تم تجيير الاقتصاد السوري ليصب في صالحهم، بما يعني أن التحرر الاقتصادي الذي جاء تحت اسم اقتصاد السوق لم يكن إلا وهماً، جاء ليلّبي مطامح هذه السلطة بالاستيلاء على ما تبقى من القطاع العام ومؤسسات الدولة بعد أن كان آباؤهم من أشدّ المدافعين عنه خلال عقود "الاشتراكية"، لأنه كان مصدر إثراؤهم الوحيد، فاخْتُزل اقتصاد السوق الاجتماعي بذلك إلى تسلطية سياسية مترادفة مع تحرير مدروس يصب في صالح المركب الأمني التجاري الجديد ويقترب من حدود الاحتكار الاقتصادي أكثر مما يقترب من حدود التحرير، بدلاً من النموذج الأساسي القائل بإصلاح سياسي يتناسب مع التحرير الاقتصادي، لخلق منافسة اقتصادية بين رجال المال بعيداً عن سلطة الدولة التي يترك لها أمر الاهتمام بالقطاعات الأساسية، وضمان مصالح الفقراء والطبقة الوسطى عبر الحفاظ على القطاع العام ومنع القطاع الخاص من احتكار مشاريع البنية التحتية والمشاريع ذات الصلة بحياة المواطن الأساسية ( صحة، مياه، كهرباء، خبز، مواد أساسية للعيش..)، مع ضرورة الاهتمام بقطاعات الصناعة والزراعة، سواء عبر دعم الأخيرة أو تهيئة الأجواء المناسبة لتشجيع المستثمرين على الاستثمار في هذين القطاعين، لتكون الأولوية لهما بدلاً من التجارة أو صناعة الخدمات التي لا توّسع قاعدة الإنتاج ولا تنعكس إيجابياتها على قطاعات واسعة.
بالعودة، إلى سؤال: هل يصلح اقتصاد السوق الاجتماعي لسوريا بعد الحرب؟
إن الانطلاق من واقع الحال الذي تعكسه أرقام الاقتصاد السوري المأساوية اليوم، وفي ظل ضعف الدولة وتراجع قدراتها المالية، وهو ما يمكن تبيّنه من مؤشرات كثيرة تشي بتحّول السلطة إلى مجرد ناهب يبحث عن أي منفذ يسمح له بنهب أموال المواطنين رغم كل فقرهم وتعتيرهم، مثل قانون دفع البدل وقانون الاستيلاء على أموال المعارضين وغيرها من القرارات التي تعكس مدى حاجة الدولة للمال، بما يعني ذلك أن الدولة بعد توّقف الحرب ستكون عاجزة عن قيادة عملية إعادة الإعمار وتدوير العجلة الاقتصادية بما يحقق مصالح الفقراء، الأمر الذي يجعل الحاجة ملّحة لرأس المال الوطني المهاجر أو القائم في البلد للمشاركة في هذا الأمر، ليتفرع سؤال: كيف يمكن جذب المال الخارجي وتشجيع المال الداخلي على الاستثمار في بيئة غير مستقرة سياسياً وخارجة للتو من حرب مدمرة؟
يمكن للبداية أن تكون من تحديد شكل النظام السياسي ( مدنية، علمانية، إسلامية..) أولاً، والاقتصادي الاجتماعي (موّجه، حر، اقتصاد سوق اجتماعي) ثانياً، وإصدار دستور وقوانين توّضح بما لا يدع مجالا للشك: الفصل بين السلطات من جهة وخضوع هذه السلطات للقضاء المستقل الذي يجب أن يكون صاحب السلطة العليا للفصل في المنازعات الاقتصادية بين الدولة وقوى السوق من جهة، وبين رجال السوق من جهة ثانية دون أن يكون لأي منهم حظوة لدى هذا القضاء كما حصل في ظل العقد الأخير، حين كان السيد رامي مخلوف يفرض خمسته بالمئة الشهيرة على كل مشروع ويجيّر القضاء لصالحه، كما في الخلاف الذي جرى بين وزارة الاتصالات السورية وشركة سيريتل.
نعتقد أن اقتصاد السوق الاجتماعي هو الأكثر مناسبة لسورياً بعد توّقف الحرب، على شرط أن يتم تحديد وتوضيح كل التفاصيل المتعلّقة به، وعلى أن يترافق الأمر مع نظام سياسي ديمقراطي يعطي المجال للحريات السياسية والإعلام والنقد، ويحدد اقتصاديا مجالات تدخل الدولة التي يجب أن تعيد اهتمامها بالقطاع العام وتأهيله، بما يضمن احتكارها للنفط والغاز والكهرباء والمياه والثروة المعدنية والمواد ذات الصلة الأساسية بحياة المواطن السوري وغيرها، على أن تتم مشاركة القطاع الخاص في قطاعات أخرى مثل الصحة والتعليم شرط أن تبقى يد الدولة هي العليا بما يحقق الضمان الصحي والتعليمي والحياة الكريمة لكافة المواطنين، مع ضمان ألا يتم تخريب هذين المجالين لصالح القطاع الخاص كما جرى في سوريا بعد اتخاذ قرار بالسماح بالجامعات الخاصة، التي يجب أن تخضع لمراقبة حقيقية من وزارة التعليم لأن وضعها الحالي يخرّب العملية التعليمية حيث يهتم أصحابها بجمع المال أكثر مما يهتمون بجوهرها و بالبحث العلمي، وعلى أن تكفل الدولة بشكل حقيقي حقوق المواطنين العاملين في القطاع الخاص عبر تحديد الحد الأدنى للأجور بما يتناسب مع الأسعار التي ستكون سائدة في سوريا المستقبل، مع ضرورة وجود مساحة هامة للمجتمع المدني ليأخذ دوره بالاعتراض على سياسات الدولة والقطاع الخاص اقتصادياً حين تمس مكتسبات القطاع الأكبر من السوريين، بما يدفع هذا المجتمع للتحرك لدفع الدولة نحو اتخاذ قرارات تضمن مصالحه ضد تغّوّل السوق.
اقتصاد السوق الاجتماعي يعتمد على ثلاث قوى تحقق له التوازن: الدولة القوية ذات التوّجه الواضح اقتصاديا وسياسيا، وقوى السوق ذات التوّجه الوطني بما يعيد إنتاج البرجوازية الوطنية التي تلعب دوراً سياسياً بناءاً من جهة واقتصادياً من جهة أخرى عبر إحياء القاعدة الصناعية، ورعاية مشاريع يعود ريعها للمجتمع الذي يعود له الفضل في تكوين ثروات هؤلاء، والمجتمع المدني الذي يشكل صوت القاع بوجه السلطتين السابقتين، ليكون القضاء المستقل هو ميدان الفصل بين الثلاثة في حالات التوتر والصدام.