ثلاث سنوات والحصار يطبق على الريف الدمشقي، خاصة بعد دخول قوات النظام إلى بلدات "البويضة" و "الحجيرة" و "سبينة" وما حولها، ما جعل المنطقة ممسوكة جيدا من قبل النظام الذي حرم دخول الغذاء إلى تلك المناطق عبر قناصة منتشرين على مداخل القرى والشوارع لقنص ليس من يفكر باختراق الحصار فقط، بل بالعمل في أرضه التي تقع على أطراف المدن والبلدات حيث لقي عدد من الفلاحين حتفه وهو يعمل في أرضه تفاديا لجوع قادم.
وإذا كان البعض تمكن رغم القصف والدمار ومواجهة الموت من زراعة جزء من أرضه ما أبعد عنه شبح الجوع جزئيا، فإن قسما كبيرا من الناس لا يملكون الأراضي لزراعتها، وقسما آثر الابتعاد عن أرضه الواقعة تحت منظار القناص حماية لروحه، الأمر الذي دفع الجميع للبحث عن حل ما لمشكلة الغذاء المنتج من الزراعة، كما يقول الإعلامي "أبو فاروق" لحكاية ما انحكت.
قبل الثورة كانت أسطح البيوت في البلدات مكانا للسهر أو زراعة الورد وبعض الخضروات أحيانا، إلا أنها اليوم غدت أراض صالحة للزراعة، حيث أقدم الأهالي على تحويلها إلى مزارع بيتية إن صح التعبير، من خلال "افتراش السطح بكميات كبيرة من التراب ليصبح حقلاً، ومن ثم يحصلون على البذور إما عن طريق معبر بلدة ببيلا أو بالاعتماد على البذور المحلية الموجودة في البلدة، ويقومون بزراعة البندورة والفليفلة والباذنجان والخيار وغيرها من أنواع الخضار الأكثر نجاحاً في زراعة السطح".
ثمة صعوبات كثيرة تواجه الزراعة هذه، أهمها صعوبة نقل التراب إلى السطح وتأمين البذور الصالحة للزراعة والأدوية والأسمدة، إضافة إلى تأمين الماء اللازم لسقاية المزروعات بسبب عدم توّفر الكهرباء إلا لساعة واحدة في اليوم، حيث يتم الاعتماد على المولدة الكهربائية ذات التكلفة العالية بسبب ارتفاع أسعار المحروقات، وهو ما يجعل قلة من الناس قادرة على دفع تكاليفها، مما يضطرهم للاعتماد على ماء الآبار البعيدة، بكل ما يعني ذلك من صعوبة نقل الماء من البئر إلى السطح عبر مسافة طويلة، في ظل قصف لا يتوقف قد يعطل عملية نقل المياه التي تخضع لتقدير الجو الأمني والعسكري في المدينة في نهاية المطاف، لأن استمرار القصف يعني توقف التفكير بأي شيء سوى النجاة من الموت، ناهيك عن احتمال تعرض الأسطح نفسها للقصف وآثار المعارك فيضيع كل التعب في لحظة جنون الاستبداد.
ولأن الأمل والتشبث بالحياة هو كل ما تبقى لهم، فإن كل الصعوبات لا تعيقهم عن المتابعة والعمل على حماية مزروعاتهم ورعايتها، ما خفف عنهم عبء شراء الخضروات القليلة والغالية التي تصل إلى البلدة من المعبر، "حيث يزرع ثلاثين بالمئة من السكان في يلدا على الأسطح، وهذا ما جعلهم مكتفين إلى حد ما" كما يقول أحمد أبو فاروق لحكاية ما انحكت.
الزراعة على السطح هي تعبير مكثف عن شعارات طالما رفعها السوريون في تظاهراتهم "الموت ولا المذلة" و "الجوع ولا الركوع"، إذ في كل منعطف تبتكر الدكتاتورية وسيلة ضغط جديدة، ليبتكروا بدورهم وسيلة مقاومة لها تعينهم على الصمود وعلى حفظ كرامتهم، إذ "لا خير في أمة تأكل ما لا تزرع"، كما يقول أبو فاروق المحاصر في جنوب دمشق حتى هذه اللحظة، يزرع وأهل بلدته الأمل الأخضر على أسطح منازلهم وكأنهم يقولون للطيار: سنبقى نزرع الحياة مهما زرعت من قذائف!
وكأنهم بطريقة أو بأخرى استمرار للحظة يعرفها كل السوريون حين قدم أهالي داريا أغصان الزيتون لجيش ظنوا أنه لن يرميهم بالرصاص.
إنها المقاومة ذاتها، مع تعدد أساليبها.