بات واضحاً أن الأرض السورية اليوم قد غدت أكثر من أرضٍ لمعركة بين نظام ومعارضة، وبين قوى متطرفة وقوى معتدلة، إذ يبدو أن رقعة الشطرنج السورية قد بدأت تستهوي الكثير من اللاعبين في الخارج، فازدحمت البيادق والأحصنة والفيلة على هذه الرقعة، وبدأت معارك إثبات الوجود والنفوذ، مع تجاهل حقيقي للهدف الأساسي من هذه المعركة ألا وهو ( الكش ملك ).
وفيما أصبحت سورية اليوم مقسمة إلى أربع أو خمس مناطق نفوذ مابين فصائل معتدلة ومتطرفة وقوات تابعة للنظام أو لداعميه من ميليشيات شيعية وقوات إيرانية، بدا أن التدخلات الخارجية تزداد تسارعاً في الفترة الأخيرة، فبعد أسابيع قليلة على إعلان تركيا دخولها المعادلة العسكرية ومواجهة تنظيم داعش ومقاتلي الفصائل الكردية المسلحة في الشمال تحت عنوان (حماية وتأمين الحدود الجنوبية لتركيا)، حسمت روسيا كل التكهنات والاحتمالات التي زاد طرحها مؤخراً حول تراجعها عن موقفها الداعم للنظام السوري، وأكدت استمرارها في دعمها لنظام الأسد من خلال إرسال تعزيزاتها العسكرية إلى السواحل السورية، وهبوط الطائرات الحربية الروسية في مطار اللاذقية الذي تمت صيانة مدرجاته وإعادة تأهيلها لملائمة الطائرات الروسية.
الدعم الروسي المتزايد تحت ذريعة الاتفاقيات العسكرية وصفقات السلاح السابقة بين الجيشين الروسي والسوري قامت روسيا أمام الرأي العام العالمي بإلباسه ثوب دعم نظام الأسد في محاربة الإرهاب المتمثل بتنظيم داعش، وبدا ذلك واضحاً من خلال بعض الغارات الجوية لطائرات النظام السوري مؤخراً على مواقع للتنظيم في سعي لترسيخ فكرة أن النظام السوري يحارب الإرهاب، وهو الذي نأى بنفسه طويلاً عن استهداف التنظيم ومواقعه إلا فيما ندر، هذا التحرك كان بمثابة تأكيد الفكرة ظاهرياً بأن روسيا تساعد الأسد في حربه ضد الإرهاب، روسيا التي تسعى دون كلل لترسيخ وجودها في الشرق الأوسط من خلال سوريا، وهي التي أكدت فيما سبق أن تدخلها العسكري قائم دوماً في ظل أي تهديد لمصالحها على أي بقعة من هذا العالم، وليست خطوتها الأخيرة في سوريا إلا استمراراً لسياسة الاقتطاع الروسية للأراضي، والقصد من ذلك ترسيخ وجودها بشكل فعلي وملموس على جزء من الأراضي التي تعتبرها أولويات استراتيجية بالنسبة لها، وهذا ما قامت به سابقاً من خلال تدخلها في أوكرانيا وقبلها في جورجيا. ولعل التوقيت الآن كان هو الأنسب في تسارع التحرك العسكري الروسي في سوريا، خصوصاً بعد إعلان تركيا تدخلها في الشمال السوري والعمل إقامة منطقة عازلة لحماية حدودها، هذا التدخل كان بداية جرس الإنذار بالنسبة لنظام الأسد مع تأييد غربي للتدخل التركي في سوريا كان ولا شك الدافع الأكبر لتدخل روسي يخلق نوعاً من التوازن العسكري ويمنع أي خطوة متقدمة مستقبلاً سواء من تركيا أو من قوات التحالف تستهدف النظام السوري في الساحل السوري، أو في دمشق العاصمة على أبعد تقدير، ولا ننسى أن الصمت الأمريكي والأوروبي والتردد في اتخاذ قرار من شأنه أن يحسم الأمور في سوريا، كانا بمثابة ورقة موافقة غير معلنة من الغرب على الخطوة الروسية الأخيرة، وإن بدأ التنديد بها والاعتراض عليها في وقت متأخر.
لا شك أن روسيا تطمح لإبقاء النظام السوري في الحكم، فطالما الأسد يحكم البلاد، ستبقى الحرب السورية دائرة دون توقف، وهذا من مصلحة الروس الذين استفادوا من الصراع السوري وطول أمده، سواء سياسياً حيث برهنت روسيا في قراراتها بشأن الصراع السوري أمام الغرب على أنها كانت ولا تزال لاعباً أساسياً في المنطقة، وتمكنت من العودة إلى الواجهة السياسية الدولية، أو من خلال الاستفادة من صفقات السلاح التي وقعتها مع النظام السوري والتي تقدر قيمتها بالمليارات، إضافة إلى طرح نفسها كداعم للنظام السوري في حربه ضد داعش متذرعة بفشل التحالف في تحقيق أي تقدم في حربه على التنظيم والتي بدأت منذ عام تقريباً.
مع هذا، فإن التدخل الروسي لن يكون كافياً لعكس مجريات الأمور على الأرض، ولا لمساعدة النظام السوري في استعادة ما فقده من أراضٍ، بل فقط الحفاظ على وضعه الحالي بالحد الأدنى، فروسيا تدرك أن سيطرة النظام السوري إلى ما لانهاية على البلاد أمرٌ مستحيل، وهي لا تخطط بتعزيزاتها العسكرية لحمايته بقدر ما تخطط لإطالة أمد الحرب الحالية في سبيل تدعيم وجودها في المنطقة والتمهيد لإحداث اوراق تفاوضية رابحة بيدها في ظل حدوث أي تغيير مستقبلي في البلاد. الروس لا يطمحون لتكرار خطأهم في ليبيا بعد موافقتهم على تمرير مشروع التدخل العسكري الغربي والذي أدى إلى فقدان دورهم هناك بشكل كامل، إضافة إلى أن سوريا اليوم بالنسبة لروسيا تعد أهم وربما آخر قاعدة في الشرق الأوسط تراهن عليها في المستقبل، وما تشييد قاعدة جوية روسية جديدة في مدينة جبلة إلا تأكيد على أن الإقامة الروسية لن تكون عابرة في سوريا ولا قصيرة الأمد، بل إقامة دائمة بعيدة المدى هدفها تعزيز الوجود الروسي أولا في الشرق الاوسط، وفرض القرار الروسي على الدول الغربية بشأن المسألة السورية ثانياً، وإكساب الطرف السوري مع حليفه الروسي صبغة المحاربين للإرهاب أخيراً.
على جانب آخر، يبدو أن الطرف الأمريكي قد آثر وضعية المتفرج حتى اللحظة، وعلى عكس التكهنات، يبدو أن هناك مباركة أمريكية خفية للعمليات العسكرية الروسية الأخيرة في سوريا، على الأقل ربما إلى حين توضّح معالم الإدارة الأمريكية القادمة بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، وسط تفاوت في آراء المرشحين بين تيارين الأول ديمقراطي ووجهه الابرز هيلاري كلينتون التي أعلنت أن أولى أولوياتها في سوريا ستكون فرض حظر جوي والعمل على حل المشكلة السورية مع ترك كافة الاحتمالات السياسية والعسكرية مفتوحة بما فيها تقديم السلاح النوعي للمعارضة «المعتدلة»، وآخر ديمقراطي على رأسه جورج باتاكي يسعى للاستمرار في سياسة المراقبة للوضع السوري وتأييد السير في طريق الحلول السياسية والمفاوضات، الأمر الذي يجعل من أي رد فعل أمريكي على التحركات المختلفة اليوم في سوريا وخصوصاً العمليات الروسية أمراً مستبعداً إلى حين انتهاء معركة السباق نحو البيت الأبيض على أقل تقدير.
عندما شعرت روسيا بخطر جورجيا بادرت إلى التدخل في الشمال الجورجي عام 2008 ودعم دولة أوسيتيا الجنوبية وإحداث توازن على الأرض كخطوة استباقية لنشر الدرع الصاروخية الأمريكية في الأراضي الجورجية. وفي عام 2014، وبعد تزايد التوتر في أوكرانيا وتخلي الحكومة الأوكرانية عن الحليف الروسي السابق، بادرت روسيا إلى دخول شبه جزيرة القرم بقواتها العسكرية أيضاً تحت ذريعة حماية الرعايا الروس المتواجدين في القرم، وهي خطوة أخرى لإحداث توازن آخر على الأرض بعد تيقن روسيا أن لا مجال لاستعادة الطرف الأوكراني كحليف لها بعد قيام الثورة في اوكرانيا. وإن كانت تلك التدخلات لا تحمل شكل الحروب العسكرية بل هي أقرب إلى الحرب الباردة قياساً بالحروب التي خاضتها روسيا تاريخياً، فإنها ساهمت ولا شك في تدعيم الموقف الروسي والحيلولة دون أي خسارة تذكر على الأرض في أي بقعة تهم المصالح الروسية.
اليوم في سوريا هناك تحالف غربي ضد داعش، وتدخل تركي في الشمال ينادي بتأمين الحدود الشمالية لسوريا ويطالب الغرب بتوسيع العمليات لتستهدف النظام السوري كسبب رئيسي للصراع، إضافة إلى وجود قوى متطرفة مسيطرة بشكل فعلي وواسع على الأرض السورية تتمثل بتنظيم داعش وجبهة النصرة بالدرجة الأولى، كل هذه التداخلات تضع روسيا أمام ضرورة استراتيجية تدفعها للتواجد في سوريا بشكل فاعل على الأرض من أجل الحفاظ على أوراقها المتبقية في الشرق الأوسط، ومنع أي تحرك عسكري غربي قريب ضد نظام الأسد «وإن كان مستبعداً»، وضمان دورها في سوريا ما بعد الأسد، وما هذا التدخل العسكري الروسي الأخير في سوريا إلا استعادة لتوازن القوى في المنطقة وفرض القرار الروسي على الغرب في رسم شكل المنطقة مستقبلاً بشكل يخدم المصلحة الروسية ويضمن لها تواجداً مستقبلياً لطالما سعت وتسعى إليه.
مسرح الحرب الباردة الروسية الغربية المقبلة سيكون سورياً...