على ضفاف الفيدرالية التي يجري الحديث عنها بشكل متواتر اليوم، يجب الانتباه أن في سورية اليوم أعلام عدة يتمترس السوريون خلفها، الأول هو العلم الرسمي الذي يمثل السلطة ومؤيدوها، والثاني هو علم الثورة الذي ترفعه القوى المعارضة في مظاهراتها، والثالث هو العلم الكردي الذي يرفعه الكرد في مناطقهم ومؤسساتهم التي تشكلت، والرابع هو علم الإسلاميين باختلاف تنويعاتهم السياسية من داعش إلى أحرار الشام مرورا بجبهة النصرة وفصائل جيش الفتح، ما يعني أننا أمام واقع لم يعد فيه العلم "الرسمي" يمثل "جميع" السوريين.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن العلم في أذهان السوريين، طالما كان رمزا للوحدة الوطنية فإنه اليوم لم يعد كذلك، الأمر الذي يطرح مسألة في غاية الأهمية، تتعلق بكيفية التعامل مع الأعلام في سورية الجديدة، عبر أسئلة تطرح نفسها: هل ثمة ضرورة لعلم مركزي واحد؟ وهل يضير "الوطنية السورية" أن يكون هناك عدة أعلام إلى جانب العلم الأساسي؟ وكيف سيتم التعامل مع هذه المسألة في سورية الجديدة؟
إلى جانب مسألة العلم، هناك مسألة اللغة، إذ بات واضحا أن اللغة الكردية باتت اللغة الأولى في المناطق والمدارس الكردية، في حين أن اللغة العربية هي اللغة الأساس في مناطق المعارضة العربية ومناطق النظام على السواء، وفي ظل إصرار الكرد على الاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية في مؤسسات الدولة، تبرز إشكالية التعامل مع اللغة في سورية المستقبل، ما يطرح على الفكر السوري ضرورة إيجاد توافقات مبدعة وخلاقة للتعامل مع هذه المسائل التي طرحت نفسها على الواقع السوري اليوم.
ثمة نماذج عدة في العالم، يمكن قراءة تجربتها في هذا السياق، والاستفادة منها، فهناك تجارب مثل الولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا وبلجيا وإسبانيا وإيطاليا، حيث نجد لغات متعددة وأعلام متعددة إلى جانب الأعلام واللغات الرئيسية، فهل يمكن الاستفادة من تلك التجارب وإسقاطها على الواقع السوري، ففي جزيرة سردينا الإيطالية مثلا نجد في مؤسسات الدولة علم خاص بسردينيا وعلم إيطاليا وعلم الاتحاد الأوربي، متجاورة إلى جانب بعضها البعض.
في ظل الحديث المتواتر عن الفيدرالية اليوم، لا يمكن إسقاط هذه المسائل من الحوار، إذ يبدو أن السجال حول الفيدرالية ينحو منحى إيديولوجيا أكثر مما هو واقعيا يأخذ كل ما يعتمل في دواخل الفيدرالية واللامركزية من أسئلة تطرح نفسها، الأمر الذي يستوجب نقاشا واسعا ومعمقا حول هذه المسائل وغيرها، نوجزها بالأسئلة التالية:
-كيف يمكن حل مسألة العلم السوري؟ وهل يضير سورية أن يكون هناك علما وطنيا يصطف خلفه الجميع إلى جانب أعلام أخرى تصطف خلفها الأحزاب والقوميات؟ وهل يمكن أن يرفع أكثر من علم على مؤسسات الدولة الرسمية؟
-هل وجود أكثر من علم، ينتهك الوطنية أو السيادة، خاصة أن بعض الأعلام تشير بطريقة أو بأخرى إلى ما هو خارج حدود الدولة الوطنية، فالعلم الكردي هو جامع للكرد في كافة الدول التي يعيشون ظلها، ما يعني أنه كيف يمكن التوفيق بين هذه المسائل، وهو أمر ينطبق أيضا على الأحزاب العربية التي ترفع شعار الوحدة العربية وتتبنى أعلاما وفكرا يحن إلى الوحدة السورية- المصرية وغيرها؟
-هل يمكن لسورية أن تكون متعددة اللغات ( عربية، آشورية، كردية، أرمنية..) وكيف يمكن حل هذا الإمر في إطار ضرورة أن يكون للدولة لغة رسمية تجري معاملاتها الرسمية بها؟ فهل يمكن أن يكون هناك أكثر من لغة رسمية في مؤسسات الدولة، وكيف السبيل العملي لجعل ذلك ممكنا، بحيث لاتشعر أي قومية أو جهة أنها مغبونة؟
-أين تندرج المسائل السابقة ضمن مسألة الفيدرالية واللامركزية التي يجري الحديث بشأنهما اليوم، فهل الفيدرالية أو اللامركزية تتطلب بالضرورة الاعتراف بأعلام عدة ولغات عدة؟ وكيف يصار إلى ضبط الأمر بين سيادة الدولة ووطنيتها؟
هذه المسائل، وغيرها مما يتماس معها، نطرحها اليوم في هذا الملف على جملة من المفكرين والباحثين، بهدف تحفيز الوعي نحو التفكير بإيجاد حلول مبدعة وخلاقة لمسائل تطرح نفسها في واقع معقد وصعب، ناهيك عن كون هدفنا يتمثل أيضا بالنفاذ إلى ما يعتمل داخل خطاب الفيدرالية واللامركزية من إشكالات ينبغي البحث عن حلول لها والتفكير بها، بدلا من حصر "الحوار" بالجانب الإيديولوجي الذي يزيد الشقاق والخلاف بدلا من أن يبحث فيه بترو وتعقل بما يصب في مصلحة كل السوريين دون إقصاء أحد أو ظلم أحد على أرضية المواطنة والمساواة، ما يعني السعي لجعل الحديث المتشنج عن الفيدرالية واللامركزية حديثا عقلانيا وهادئا ذي نتائج بدلا من هذا الردح الذي نراه على وسائل التواصل الاجتماعي.