خلف أنواع المقاومة الظاهرة للمجتمع السوري ضد سلطته المتمثلة بالتظاهرات و ورمي المنشورات والفعاليات الواضحة الأهداف والساعية لإنهاء نظام الاستبداد من خلال تنظيمات التنسيقيات ومجموعات العمل الثورية على الأرض، ثمة مقاومة صامتة من نوع آخر، مقاومة لا تراها وسائل الإعلام و نادرا ما يسلّط الضوء عليها، إنها مقاومة دعم مقاومة المجتمع الأهلي والمدني الذي يتعرض لأقصى عنف من قبل السلطة لاحتوائه الحراك المدني أولا والمسلّح لاحقا، إذ تعمل السلطة على تركيع هذه البيئات بحرمانها من الطعام والشراب عبر فرض حصار خانق، الأمر الذي يعرّض الأهالي لخطر الموت، ويعرّض الأطفال لـ "ضغوط نفسية نتيجة الدمار الذي خلّفه القصف على المناطق ورؤيتهم للمناظر البشعة"، فوجب العمل على إقامة مشاريع تدعم صمود المجتمع من جهة، وأخرى تشمل الأطفال "ليعبّروا عما بداخلهم وينسوا الألم ولو ليوم واحد" كما تقول إحدى الناشطات العاملات في مجال أنشطة التفريغ النفسي الموجهة للأطفال في منطقة المليحة المحاصرة، والمعرّضة لقصف شبه يومي من قوات النظام، وذلك في حوار مع موقعنا "سيريا أنتولد Syria untold".
يسعى كل من النظام والمعارضة على الفوز بهذا المجال، لإدراك كل منهما مدى دور الحاضنة الشعبية في دعم مطالبه، ليحتل دورا بارزا في استراتيجيات كل منهما، حيث يوزع النشطاء نشاطهم بين العمل الميداني بمواجهة النظام وبين مساعدة بيئاتهم الاجتماعية على الصمود، بمقابل عمل النظام على تفتيت تلك الفئات وحرق مقاومتها لدفعها دفعا وعنفا نحو نبذ الحراك المدني أو العسكري، محاولا بذلك خلق إسفين داخل شق الانتفاضة السورية، وهو ما لاحظنا بعض منه في مخيم اليرموك والمعضمية حيث كان التجويع وسيلة للضغط على الحاضنة الشعبية لتضغط بدورها على كوادر الانتفاضة سواء كانت سلمية أو مسلحة.
وهنا بات دعم الأهالي والنازحين والأطفال أحد الأجندة التي يتصارع عليها الطرفان، حيث يسمح النظام بهذا العمل في المناطق التابعة لسيطرته لتجميل وجه استبداده من جهة، ودفع الأهالي للخروج من المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة باتجاه مناطقه ليتسنى له الاستفراد بالنشطاء ومواجهتهم بعيدا عن أي دعم أو حواضن اجتماعية، حيث يقوم بقصف تلك المناطق ومهاجمتها إن تسنى له عسكريا.
"سيريا أنتولد Syria untod" حاول الوصول إلى أحد تلك المناطق المحاصرة لتوثيق هذا النوع الصامت من المقاومة المدنية، ففي مدينة المليحة التابعة لريف دمشق والخاضعة لحصار عنيف والتي تضم على أرضها معارك يومية بين الطرفين أقدم نشطاء رغم كل الخطر على تبني قضية الأطفال ومحاولة إقامة دورات تفريغ نفسي لهم، كنوع من دعم الحاضنة الشعبية للانتفاضة وأطفالها، بهدف رسم "البسمة على وجوه أطفالنا، وكي نعيدهم إلى طفولتهم التي سلبت منهم" لأن هذا الأمر يساهم في تخفيف العبء أيضا عن العائلات المشغولة بأبنائها الناشطين وبالحفاظ على حياتها وسط هذا الحصار والجنون، رغم أن الأهالي في البداية كانوا حذرين جدا "نتيجة خوف الأهالي عليهم نتيجة الوضع الغير الآمن" إلا أنه تم تجاوز الأمر فيما بعد، و"الدليل طلب الأطفال وأهاليهم لنا بعمل هذا المشروع كل فترة".
شمل المشروع الذي أقيم في المليحة حوالي ستين طفلا تم تقسيمهم إلى ست مجموعات ويكون لكل مجموعة نشاط خاص بها، على أن يتم تبادل النشاطات في يوم آخر.
عملية اختيار المكان وتجهيزه هي الأصعب، لأنه يجب البحث أولا عن مكان آمن وبعيد عن القصف حتى يؤمّن الأهالي على أطفالهم وأن يكون بعيدا عن الاكتشاف من قبل المخبرين وأن يتم العمل بسرية ما أمكن، إضافة إلى العوائق الاقتصادية، إذ "كنا نقوم بتمويل ذاتي للمشروع"، والاجتماعية إذ "كنا نخشى عدم إقبال الاطفال على النشاط نتيجة خوف الأهالي عليهم نتيجة الوضع الغير الآمن".
بعد تأمين المكان يعمد الناشطون على تنظفيه وتأهيله ليتلاءم مع النشاط، حيث يتم "توزيع المهام من خلال تفرغ البعض لتجهيز المكان والبعض الاخر لشراء احتياجات المشروع، ليبدأ البرنامج بجمع الطلاب في صف مناسب، حيث وضعنا اتفاقا على القواعد التي يجب أن تسيّر العمل، بعد أن طلبت منهم الاقتراحات، وكل اقتراح تم إقراره عبر التصويت عليه، حيث تم الاتفاق على عدم نطق ألفاظ بذيئة, وعدم الشغب و عدم الاصطدام والخلاف خلال النشاطات و المشاركة من قبل الجميع في النشاطات"، لنكون أمام أول تجربة تعمل على تعزيز الديمقراطية للأطفال من خلال إشراكهم في صنع القرار، لأن الديمقراطية في نهاية المطاف ثقافة أو بذرة برسم الزرع وليست ثمرة برسم القطاف كما يقول المفكر السوري جورج طرابيشي.
النشاطات التي رعتها " المنظمة السورية للمراة والطفل my right " و التي أقرت لمساعدة الأطفال على نسيان الأوضاع المحيطة بهم من قتل ودمار هي: "ألعاب المعجون، كرة القدم، رسم حر على رول ورق ألصقناه على الحائط، لعبة الكراسي (الدوران حول الكراسي الـ9 ونقر على دف وعندما نتوقف يأخذ كل شخص موقعه على الكرسي ومن يبقى بلا كرسي يخرج من اللعبة )، لعبة النط على كرة كبيرة، تلوين على الوجه، وكان معظم الرسوم التي طلبت مني هي رسم علم الاستقلال رغم أني حاولت اقتراح رسمات مختلفة"، إضافة إلى "نفخ بوالين وتقديم مسرحية "جحا وحماره عن طريق الدمى".
القائمون على المشروع لا يضعون عملهم بمواجهة العمل العسكري كما يقولون لنا، لأنه "عمل إنساني" بالدرجة الأولى، وهو ما دفعهم لعدم "التنسيق مع أيّ من المجموعات المسلحة المعارضة" وهم المعرّضون لعنف النظام الذي "لا نستطيع تفادي عنفه ( النظام) لأنه نظام ظالم لا يعرف المشروع الانساني من اللا إنساني".
ورغم تصنيفهم لعملهم بأنه إنساني بالدرجة الأولى، وهو أمر صحيح، إلا أنه يشكل أحد خطوط المقاومة الخلفية والصامتة للمجتمع بوجه العنف المسلّط عليه جرّاء المعارك الدائرة والحصار والقصف الذي يهدف إلى تدمير تلك البيئات الحاضنة للانتفاضة انتقاما من جهة، وسعيا لفك جذور الترابط بين الانتفاضة وبيئتها من جهة ثانية، ولهذا كانت المقاومة المدنية شوكة بوجه النظام مهما كان نوعها وحجمها، ولا تزال.