عن الماراثون الرقمي في سوريا

سباق نحو التعافي أم محاولة بناء منزل على أرض متحركة؟


بعد سقوط نظام الأسد تكاثرت الفعاليات الخاصة بالاستثمار وسوق العمل، ضمن سعي سوريين وسوريات في الخارج إلى نقل خبراتهم وتوطين معرفتهم التقنية داخل سوريا. ووسط التحديات الكثيرة التي تعاني منها سوريا، أثارت هذه الفعاليات أسئلة كثيرة تقاربها هذه المادة.

25 تموز 2025

ملك الشنواني

كاتبة وباحثة وصانعة أفلام، مهتمة بقضايا التهميش والحريات في سوريا.

"سبعة أيام، يعمل فيها المشاركون على الأفكار المقبولة في الفعالية، ينضمون إلى فرق، ويطورون أفكارهم ضمن أحد الحلول الستة المختارة لدفع التعافي المبكر".

بابتسامةٍ واسعة ووجه متفائل يشرح أحمد سفيان بيرم، خلال لقاء زووم تفاصيل فعالية هاكاثون سوريا، الحدث الذي يأتي ضمن عددٍ من فعالياتٍ خاصة بالاستثمار وسوق العمل بدأت بعد سقوط النظام، ضمن سعي سوريين وسوريات في الخارج إلى نقل خبراتهم وتوطين معرفتهم التقنية داخل سوريا. وهاكاثون كلمة ترمز لسباق تطوير الحلول والتطبيقات، الذي يُقام في عددٍ من الدول لخدمة مجالاتٍ رقمية محدّدة.

تبع أيام هاكاثون، مؤتمر خصب "خطوات صناعة وبناء" الهادف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي بين السوريين في الداخل والخارج، وسبقها مؤتمر SYNC’25 بمبادرةٍ من سوريين أمريكيين يعملون في وادي السيليكون في كاليفورنيا لتبادل المعرفة التقنية ودراسة فرص الاستثمار، بين الداخل والخارج أيضاً. تزاحمت هذه الفعاليات بسرعة في الأشهر الأولى بعد السقوط لهدف واحد: تقييم الوضع وبحث فرص الاستثمار، تحديداً بعد انزياح العبء الأمني الذي منع كثيرين من العودة أو العمل في بلدهم، وإثر بدء الحديث عن رفع العقوبات وتحسين البنى التحتية. لكنها ليست المرّة الأولى التي يفكر فيها السوريون بالاستثمار بالتكنولوجيا كرافعةٍ اقتصادية لهم، فما الذي تغيّر؟

قبل أعوام وفي شوارع برلين، كان يسير السوري الألماني جنكيز خان حسو صاحب الرغبة الجادة بدعم البلد، إلى درجة استثمار ما يستطيع من ماله الخاص في دعم مشاريع بسيطة تُشغّل النساء فيها، مفكّراً في سبل الاستثمار المتاحة، ومحاولاً إقناع رهطٍ من رفاقه بضرورة الاستثمار في سوريا، فيطرح التطبيقات الرقمية كإحدى المجالات البديهية للبدء بذلك. "من دون رأسمال كبير قد تستطيع تلبية حاجة وإصابة ربحٍ كبير، وربما تحقيق تغيير اجتماعي. التكنولوجيا الرقمية هي أمل الفقراء".

اليوم وبعد تغيّر أحوال السياسة، لا تزال أولى أبواب الاستثمار التي يطرقها السوريون في ٢٠٢٥ هي الرقمية منها، القطاعان العام والخاص يتسابقان ليحقّقا وجوداً رقمياً عبر تجريب حلول ذكية وعبر ريادة الأعمال. أعلنت وزارة الاتصالات أخيرًا عن تحالف لحاضنات ومسرّعات الأعمال السورية، وسمحت بإطلاق التطبيقات من دون الحاجة للتراخيص، وتعمل على تهيئة البنية التحتية بالإعلان عن مشروع يهدف إلى إيصال شبكة الألياف الضوئية مباشرة إلى المنازل والمكاتب، وبإطلاق خدمة الجيل الخامس 5G تجريبياً.

الصوت الضائع: سوريو المحرّر الجديد

13 حزيران 2025
"هناك أشياء لن يدركها إلا من عاشها، ومنها بتر علاقاتك ومسح صورك لأنك اخترت أن تبقى في أرضك، كمن يُقطّع أوصاله ليُبقي على روحه" هذا ما تقوله عبير ش متذمرةً...

بينما تنحسر المحاولات في القطاع الخاص على إجراء المقابلات مع المسؤولين حول فرص التعاون ومحاولة فهم الوضع الحالي لقطاع الرقميات وإقامة المؤتمرات. عقدت الفعاليتان (هاكاثون وخصب) بشكلٍ هجين، افتراضي وفيزيائي، لتضمن مشاركة السوريين/ات الشبان والشابات في المهجر الراغبين بإنقاذ أوطانهم من وراء البحار. بشعرٍ مرفوع وبساطةٍ وعفوية تطلّ إحدى المنظمات لهاكاثون هيفاء ياسين، من بيتها لا من مكتب كما أحمد، في جلسةٍ تعريفية عبر الإنترنت:" هناك عطش للابتكار، يرغب الشباب والشابات بتعمير البلد والمساعدة بالتعافي. هناك حوالي 2000 شخص موجودون في أكثر من 35 بلداً سيشاركون في ورشات تعقد في عشر محافظات. فعاليتنا ليست افتراضية فقط، والناس موجودون على الأرض".

أقام فعالية الهاكاثون سفيان وعدد من الشبان والشابات ممن عملوا منذ 2013 فأنشأوا منظمة Startup Syria، والتي يدل اسمها على احتضانها لروّاد الأعمال، بتركيزٍ على الرقمية منها. نتج عن الفعالية ستة مشاريع معظمها اجتماعي القاعدة، يهدف إلى ربط شبكات أصحاب المصلحة ببعضهم، المستثمرون من جهة ومن هم بحاجة لسكن عمل أو غيره من جهة أخرى. مزنة الزهوري إحدى المؤسِّسات للمبادرة، والناشطة الشرسة في مناصرة قضايا الاعتقال واللجوء، تصف Startup Syria كمبادرة إنقاذ لسوريا من الحجب، "مجموعة رواد أعمال في الخارج يريدون المساعدة في حلول لمشاكل الصحة والتعليم وجمع قدرات السوريين في الخارج مع الداخل".

واليوم، تكثر المنظمات المعنية بالهدف نفسه، SYNC هي منظمةٌ أخرى مقرّها وادي السيليكون، كاليفورنيا، تعمل على خلق 25 ألف فرصة عملٍ تقنية داخل سوريا على مدى السنوات الخمس المقبلة وسدّ الطلب العالمي بمواهب محلية غير مستغلة. بينما تقوم ديجيتال سوريا وهي منصة سورية تجمع الخبرات والكفاءات في الداخل والخارج بدعم إعادة الإعمار التقني وريادة الأعمال، والمساهمة في بناء حكومة رقمية ذكية، وتعزيز الأمن الرقمي، ومكافحة الفساد. توحي الاستثمارات الرقمية بأنّها طريق سريع لتحقيق النجاح، فحتى القطاع الحكومي يكرّسها كمنجزات، رغم عدم قدرتها على انتشالنا من الواقع. تقدّم وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل تطبيقاً لربط أصحاب العمل بالباحثين عنه كخطوة مهمة في إطار عملها ومسؤولياتها، رغم عدم توفّر فرص عمل جديدة بعد خارج إطار الدولة والمنظمات الإنسانية.

عمل عبد الرحمن الشعار كمحلّل بيانات في عدد من الشركات السورية، ما أهّله عبر السنوات للعمل في أخرى إقليمية، الأمر الذي درج عليه المطوّرون والعاملون في القطاع الرقمي خلال العقد الماضي لتحصيل دخلٍ أفضل، راضين باستغلال الشركات لرخص عمالتهم، ومستمرين ببناء حياةٍ مهنية في عالم يلفظ بلدهم تقنياً. كتب عبد الرحمن منشوراً شاركه عددٌ كبير من المقيمين في سوريا عن تجربة حضور فعالية SYNC Syria & Silicon Valley: "القاعة كانت مليانة بسوريين عاملين إنجازات كبيرة بأمريكا وأوروبا، أبحاث علمية، شركات ناشئة، مواقع قيادية. شخصياً بلشت معي الأسئلة الوجودية - ليش ما كنت واحد منهم؟ - هل اللي ظلّوا بالداخل خياراتهم كانت محدودة، وصاروا نسخة "أقل" من إمكانياتهم الحقيقية؟"

 على المستوى الداخلي لا زال نقص الطاقة معطّلاً أساسياً للوصول، ويقف انخفاض مستوى المعيشة عائقاً أمام حيازة التجهيزات والتطبيقات اللازمة، في حين تلعب أميّة استخدام الأجهزة الذكية والحواسب دورها في حرمان قطاعاتٍ واسعة من استخدام الوسائل الرقمية، وينخر الفساد في مفاصل الحوكمة الإلكترونية لدينا حتى تصبح أقدم طرق العمل أكثر ملاءمةً في بعض الأحيان.

ويعزف السوريون عن التفاؤل عند تقديم تطبيقات جديدة وربطها بشؤونهم، فلهم تجربة سيئة مع الفساد المُرتبط بها من تطبيق البطاقة الذكية إلى منصات التسجيل على جواز السفر، وكان عليهم عبر السنوات تطوير أدواتهم ضمن واقع صعب، فابتكروا أساليب التفاف، كالاتصال عبر تطبيقاتٍ وسيطة لولوج مواقع أٌغلقت في وجوههم أو مُنعت، وقرصنة التطبيقات والأنظمة، واكتفوا بتطبيقاتٍ قليلة يعتاشون عبرها بشكلٍ أساسيّ من تخديم عملاء محليين.

ليس من السهل نقل هذا السوق، ابن بيئته، إلى حالٍ أخرى بسهولة؛ العقبات الخارجية لا تزال هي الأساس، بعقوباتٍ لا زال الالتزام الجائر يكدّسها أمام وصولنا إلى متاجر التطبيقات أو حتى القيام بعمليات تحويلٍ بنكية لازمة لشراء الخدمات، أو نيل سبل التعليم اللازمة، كما تبدو التقنيات القائمة على السحابة أبعد فأبعد عنا ضمن لائحة الاستخدامات المعتادة.

على المستوى الداخلي لا زال نقص الطاقة معطّلاً أساسياً للوصول، ويقف انخفاض مستوى المعيشة عائقاً أمام حيازة التجهيزات والتطبيقات اللازمة، في حين تلعب أميّة استخدام الأجهزة الذكية والحواسب دورها في حرمان قطاعاتٍ واسعة من استخدام الوسائل الرقمية، وينخر الفساد في مفاصل الحوكمة الإلكترونية لدينا حتى تصبح أقدم طرق العمل أكثر ملاءمةً في بعض الأحيان.

يروي الاقتصادي أنور حمودة قصصاً عن تحديات المهندسين حوله في الاستثمار فيما يسمى مزارع تعدين العملات الرقمية أو خوادم الذكاء الاصطناعي، حيث إنّ توليد الكهرباء الضرورية لعملها يزيد من تكاليف الإنشاء كثيراً، والاستغناء عنها يعطل العمل ويقلل هامش الربح. "الاستثمار الرقمي في سوريا حالياً هو مثل محاولة بناء منزل على أرض متحركة. الطموح موجود، والمواهب موجودة، لكن الأسس غير مستقرة، وهذا يجعل التحديات تفوق بكثير أيّة فرصٍ حقيقية للاستثمار بالمعنى التجاري أو التنموي واسع النطاق. التغيير الجذري في بنية الاقتصاد والسياسة هو الشرط الأساسي لأيّ نهوض رقمي مستقبلي."

استطاع عبد الرحمن وبعضٌ من مختصي البيانات في سوريا فكّ شيفرة بعض التحديات مع شكٍّ كبير بالجدوى والالتزام بشروطٍ واقعية لعملهم فأنشأوا تجمّعاً لدعم علم البيانات: " كيف يمكننا أن نحكي عن (علوم البيانات) في سياق بلد متعب، ما زالت الأولويات فيها محسوبة على أساس الاحتياج اليومي؟ لكن مع كل جلسة، ومع كل شخص يحضر ويفكر ويشارك، صار من الواضح أكثر أن هذا المجال ليس رفاهية أو موضة. البيانات أداة. وسوريا، إن أرادت العودة للوقوف على قدميها وتبني مستقبل فيه عدالة وكفاءة وفرص، عليها أن تتعامل مع البيانات كأولوية، لا كتفصيل جانبي، وأن نزرع فكرة: إن ذلك ممكن وضروري، ويمكننا البدء من الآن."

لا تنقص مؤسسي المنظمات الرقمية الثقة والتفاؤل، وهي وإن كانت مطلوبة لتجاوز عبثية وقلق الخطى الأولى في تنشيط اقتصاد وإعادة إعمار، إلا أنها لا تغمر جميع السوريين والسوريات، وبشكل خاص من هم داخل سوريا. لابُدّ أنّ التعاون حاجة والتفكير بحرق المراحل ضرورة، لكن القفز فوق الممكن قد يعني إتلاف طاقة كبيرة من الإقبال والحماس، للشباب الذي يحترف السرعة والملل. تمكننا الرقميات من أكثر ما نرجو، فإتاحة المعرفة فيها فرصةٌ لا مثيل لها بالنسبة لسوريين حالمين ومجدين، لكن التعامل مع تحدياتنا والالتصاق بواقعنا وحاجاته، لا تزال من الضرورة بمكان.

يقول أحد من شاركوا منشور عبد الرحمن عن مؤتمر السيليكون فالي قصي مقلد: "بيني وبين نفسي، حسّيت بنوع من الحزن أو قلة التقدير لأني ما كنت ضمن المدعوين، بس بنفس الوقت مقتنع إنو الشغل الحقيقي ما بيبدأ بمؤتمر، وإذا فعلاً بدي قدّم شي للبلد وعندي النية والإمكانية، فالموضوع مش بالتواجد بقائمة المدعوين وإنما بالشغل الفعلي."

مقالات متعلقة

"حرقوا قلبي": عن أمهات سوريات غيّب الإعلام أحزانهن

23 تموز 2025
تظهر الأم السورية المفجوعة بفقدان أبنائها في وسائل الإعلام، باعتبارها قوية، جبارة، صامدة، صابرة...، أمٌّ لا يُحتفى بألمها بل بـ "دورها التعبوي"، لتُختزل إلى تمثالٍ صامت في مسرحٍ وطني، تتكلّم...
عندما تتحوّل الحرب إلى منتجٍ تقنيّ

11 تموز 2025
إنّ الأسلحة المعتمدة على الذكاء الاصطناعيّ المبنيّة على منطق رأس المال الاستثماريّ تعتبر الحرب مرحلةً تجريبيّة والفشل تقدّماً.
بقعة ضوء على المجتمع المدنيّ السوريّ : الحلقة الخامسة

22 تموز 2025
تفاعل المجتمع المدني السوري على نطاق واسع مع حرائق الغابات الضخمة التي اندلعت في ريف اللاذقية، في الساحل السوري. ولملمت هذه الكارثة البيئية شتات السوريين/ات، من المؤيدين للسلطات السورية الجديدة...
الورطة السورية... من سياسات المدن إلى الأيديولوجيا

10 تموز 2025
لا يمكن نفي أنّ لقمعية حكم الأسديين الطويل واستئصاليته دورهما في تعميق الأزمة السورية. ولكن، وبعد سقوط الأسد، لا يبدو أنّ السياسة السورية قد خرجت من أزماتها، حيث إن ضعف...

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد