يكاد مخيم اليرموك يختصر حكاية الوجع الإنساني بأكمله: حكايات متداخلة داخل رواية كبرى، كأنّ على الفلسطيني/ السوري أن لا يستقر في أرض أو بلد أو مكان، فالروح تيمّم وجهها صوب فلسطين التي أصبحت حلما ينأى أو يكاد، والجسد تتقاذفه المنافي والمخيمات، دون أن يفقد التوق لكرامة وحرية لم تغنيا عن جوع يكابده أهل المخيم الفلسطيني القريب من دمشق اليوم وسط الحصار المفروض عليهم منذ أشهر في سياسة "التجويع أو الركوع" المطبّقة من قبل الحكومة لإخراج المسلحين من المخيم، وعقوبة لهم لانضمامهم لثورة الكرامة بوجه الطاغية، ليفتك الجوع بالأطفال والشيوخ ويزلزل القناعات لرجال شيّعوا أطفالهم الذين ماتوا بين أحضانهم وهم عاجزون عن تأمين لقمة خبز لهم، فأصبح اللسان يقول:"ماعاد بدي فلسطين ولا القدس ولا مكة" لترد عليه أخرى: " تحملنا الجوع والعطش عشان فلسطين"، وليصرخ صبي من أمام جثمان شهيد الجوع " لن نسقط حق العودة"
إنه الحصار والجوع وما يفعله بالبشر، حيث بات المخيم يصدّر كل يوم قافلة من ضحايا الجوع الذين بلغ عددهم 63 حتى تاريخ 25/1/2014، الأمر الذي دفع بعض أهالي المخيم إلى توقيع طلب لجوء إنساني مطالبين الأمم المتحدة من خلاله بضمان حقهم بالعودة إلى فلسطين أو اللجوء الإنساني إلى أي بلد آخر على اعتبار أنهم من رعايا الأمم المتحدة.
عملت الحكومة ما بوسعها لإركاع أهل المخيم ودفعهم للرضوخ بشروط مذلة، إلأ أن الأهالي رفضوا مقايضة جوعهم بكرامتهم، إلى حد أن بدؤوا بأكل الصبار حيث تناقلت وسائل الإعلام صورة لامرأة فلسطينية تقف أمام عربة ملأى بالصبار كتب بجانبها: " وتنتقي ورقة غضةً/ تفكر كيف تطبخها لأبنائها الجوعى ؟؟ /سيكبر الأطفال/ و يقسمون لحبيباتهم أنّ أمهم الحنونة قد أطعمتهم الصبّار في الطفولة/ لن يصدقهم أحد/ لن يستطيعوا بعد الآن انتزاع بقايا الشوك العالق في الأمعاء و الذاكرة/ سيقفون بين يدي الله يوم الحساب / و يصرخون: يا رب ....نحن أكلنا الصبّار".
ورغم ذلك لم ينقذهم الصبّار من الجوع، فبدؤوا يقدمون أرواحهم على مذبح الحرية، مرفقة بصرخات واحتجاجات وفعاليات لإيصال أصواتهم الجائعة للعالم، وقد نجحت هذه الفعاليات المعمّدة بدم الفلسطينيين/ السوريين وجثامين "شهداء الجوع" بلفت أنظار الخارج و المؤسسات الإنسانية مما شكّل رأي عام ضاغط عززته حملات إعلامية كثيرة مثل "أنقذوا مخيم اليرموك" و "اليرموك خيمتنا الأخيرة" و "حملة قاوم"، والتي ساهم في نقلها للعالم ناشطون إعلاميون ( الجنود المجهولون) لازالوا في المخيم، عبر وسائل التواصل الاجتماعي مثل " عدسة المخيم" وفجر برس ، وأغلب هذه الصفحات يديرها ناشطون ينتمون إلى ما بات يعرف بـ "صحافة المواطن".
إذ ذاك بدأت النشاطات والاعتصامات والتقارير الإعلامية تسلط الضوء على المخيم، وبات الحديث يجري عن الضغط على إدخال المساعدات إلى المخيم، مرفقا مع ضغط الرأي العام على قياداته كما حصل حين صرخ طالب فلسطيني في جامعة بيرزت: "كندرة بنت صغيرة.. بتسوى أكبر رأس في القيادة"، وهو ما عبر عنه الفنان "ياسر أبو حامد" في كاريكاتير ملفت يصوّر قيادي فلسطيني يتأمل لاجئا يغرق!
إلا أن السلطات السورية بدلا من إدخال المساعدات وقتها قامت بإلقاء برميل متفجر على أهالي المخيم، فقام الناشطون والأهالي بتنظيم مظاهرة مكان سقوط البرميل، هاتفين "واحد واحد واحد.. فلسطيني وسوري واحد" لمواجهة الدعوات القائلة بتحييد المخيم وفصله عن الهم السوري، ومؤكدين تمسكهم بشعارات الانتفاضة الأولى. إضافة إلى أن أول محاولة لإدخال الطعام تعرضت لإطلاق نار مجهول المصدر بعد أن رفضت السلطات إدخالها من المدخل الأساسي للمخيم، مما دفع الفنان "هاني عباس" لرسم رغيف خبز على شكل غيمة تعبر إلى المخيم وخلفها قذيفة! في حين عبر الفنان "خليل أبو عرفة" عن الأمر ببراميل متفجرة تسقط على باص المساعدات في كناية واضحة عن مسؤولية النظام السوري.
https://www.youtube.com/watch?v=VGnGXHcgVnw
بعدها بأيام تم إدخال 75 سلة غذائية من أصل 200 سلّة كان مقدرا لها أن تدخل لإسكات جوع 6000 آلاف عائلة! فقام الأهالي الذين استلموا السلل بتقاسمها مع الآخرين في مشهد إنساني نادر من تكاتف الجوعى مع بعضهم البعض، حيث قاموا بطهي الطعام في قدور كبيرة وتوزيعها على الجميع ، ليسمح النظام بعد أيام بإدخال دفعة أخرى من السلل الغذائية التي لا تفعل إلا أن تمنع الموت لأيام عن الذين رؤوا وجه عزرائيل يقترب، لذا يخشى أهل المخيم اليوم أن يكون إدخال السلل مقايضة تمنع فك الحصار الذي لا يزال مفروضا على المخيم وأهله، وهو ما دفع الفنان "أسامة نزال" لتصوير المساعدات المقدمة على أنها أكفان!
https://www.youtube.com/watch?v=as2aZEpifyA
المبدعون والفنانون السوريون والناشطون سلّطوا الضوء على قضية المخيّم من خلال الغرافيتي واللوحات المعبّرة التي تم تناقلها على وسائط التفاعل الاجتماعي لنكون أمام مقاومة إبداعية تساند المقاومة المدنية وتردفها لتساهما معا في فضح دكتاتورية الجوع، حيث رسم الفنان "ياسر أحمد" لوحة "الإعدام جوعا" مقدما لوحة لرجل يعدم عبر ملعقة طعام!
ما بين براميل الموت القادمة من السماء وسياسة "الجوع أو الركوع" يعيش السوريون والفلسطينيون معا، مقاومين الموت والاستبداد والقتل، ومتحدين الدكتاتورية بأكثر الشعارات التي تكرهها ( واحد واحد سوري وفلسطيني واحد، الشعب السوري واحد) لأنها تثبت فشل سياسة "فرق تسد" التي حاول زرعها ليبقى، وحين فشل وزّع الموت بالتساوي. وهذا ما التقطته ريشة الفنان "حكم الوهب" حين رسم شاهدتي قبر الأولى كتب عليها "مات قصفا في حلب" والثانية "مات جوعا في مخيم اليرموك".
"تعددت الأسباب والموت واحد". وهذا ما يدركه السوريون/ الفلسطينيون جيدا، لذا يصرون على رفض مقايضة جوعهم وقتلهم بحريتهم وكرامتهم.