من شخص ملول وغير منضبط ولا يلتزم ببرنامج زمني معين، حوّلته الثورة السورية إلى شخص "أكثر انضباطاً وأكثر التزاما"، فالأمر الذي كان يستحيل حدوثه قبل الثورة أضحى ممكنا في ظلها، إذ أصبح الفنان الفلسطيني السوري "ياسر أبو حامد" يرسم كل يوم تقريبا، وهو ما تبيّنه تواريخ لوحاته ومواضيعها، حيث رسم مؤخرا الكثير من اللوحات الساخرة من ترشح الدكتاتور للانتخابات الرئاسية خلال أيام قليلة، وهو أمر "كان يستحيل حدوثه لولا الثورة السورية" كما يقول لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold".
الفنان الذي ولد في مخيم الرمل الفلسطيني بمدينة اللاذقية انتبه إلى أن لوحاته التي بدأ ينشرها على صفحته عبر الفيسبوك في ظل الثورة، تستقطب اهتماما وانتباها ومتابعة، فقرر أن يهتم "أكثر بالتفاصيل والتنفيذ"، لتبدأ لوحاته الخارجة من طزاجة الحدث السوري تولد وهي ممهورة بأحداث وتفاصيل حياة وثورة السوريين التي يعتبرها الفنان "جزء من ثورات الربيع واندلاعها كان متوقعا، لا بل كان قيام الشعب السوري بثورة من المسلمات بالنسبة لي".
رغم توّقع الفنان أن الثورة آتية لا ريب، إلا أنه لا يخفي ارتباكه وتناقض مشاعره لحظة انطلاقها، معتبرا أنه شعور عام أصاب الجميع مؤيدين ومعارضين، لأن لحظة الحقيقة والمواجهة جاءت، ووصل الجميع نقطة اللاعودة، حيث تحوّل "الجنين إلى طفل كامل النمو يتنفس ويتكلم ويتألم ويضحك. وعلينا أن نحافظ عليه ونرعاه. كان هناك أمل وخوف. أمل بأن تنجز الثورة أهدافها بأقل الخسائر كما حدث في تونس ومصر، وخوف من أن تتحوّل الثورة إلى حرب أهلية".
يصف الفنان بدايات تجربته بأنها غير حافلة بالإنجازات، ففي المرحلة الابتدائية كان مولعا بالكارتون والرسوم المتحركة، وشارك في معرض المدرسة برسوم لشخصيات ديزني المشهورة، ومعارض أخرى بذكرى الثورة الفلسطينية في مخيّم الرمل الفلسطيني حيث عاش، حيث بقيت رسوماته تقليدية طيلة هذه الفترة، ولم يحصل أي " تطوّر دراماتيكي لمهاراتي إلى أن تجاوزت المرحلة الثانوية"، ليتوقف الفنان عن الرسم التقليدي ويدخل عالم الديجيتال وتصميم الغرافيك والرسوم المتحركة والتصاميم ثلاثية الأبعاد، حيث اقتصر عمله على الإعلانات إلى فترة ما قبل ثورات الربيع العربي بقليل، حيث كان حافزه للعودة هو "وجودي على شبكات التواصل الاجتماعي، وأنا لا أحب النقاشات الطويلة وكما يقال (الأخد والرد) ، فقررت أن أرسم رأيي وموقفي رسما أنشره على صفحتي. ومن هنا بدأت".
هذه البداية الجديدة جعلت من فنه إحدى "آليات التعبير عن الرأي" لتكون لوحته موزعة بين عالمين هما "الظلم والعدل" و "الحرية والاستبداد"، حيث مواضيع لوحاته مستمدة من هذه المفاهيم، كنتيجة لارتباط الفنان بما يؤمن به، ولتكون لوحته صدى رأيه وضميره المنحاز لثورة حفرت تفاصيلها وأحداثها في ألوانه، كما في اللوحة التي تصوّر الطفلة الشهيدة "فاطمة مغلاج"، وهي لوحة لقيت صدى إيجابيا لدى الجمهور، حيث انتشرت سريعا على مواقع التواصل الاجتماعي لارتباطها بصورة وحدث مؤثرين.
تعمل لوحة الفنان المقيم اليوم في استراليا على التقاط تفاصيل تحفر في الروح سريعا، تارة ليخلدها وتارة ليسخر منها، كما هو حال لوحته التي تصوّر الدكتاتور وهو يقف على بوط عسكري يأخذ شكل حافة تترنح، في سخرية واضحة من تقديس المؤيدين للبوط العسكري الذي يأخذهم إلى الهاوية. وفي لوحة أخرى تسخر من الانتخابات نرى الدكتاتور وهو يبحر على صندوق الانتخابات في بحر من الدم، أو تلك التي تظهر صورة الدكتاتور بجانب كلمة "سوا" التي اختارها عنوانا لحملته الانتخابية وهي تقطر دما.
لوحة "الحقد" المشكلة من البراميل المتساقطة من طائرة النظام تأتي لتضعنا في حيرة وذهول من قدرة هذا الفنان على صناعة كل هذا الإبداع من قلب الألم، إذ يستل من الموت الهابط من سموات الجحيم فكرة تفضح الدكتاتور وتسخر منه في آن، دون أن تفقد اللوحة جماليتها رغم مباشرتها الواضحة من جهة، ورغم الأدوات البسيطة التي يرسم بها الفنان، فهو يقوم "بتحضير سكيتش سريع للوحة بقلم الرصاص على ورق، وبعدها أقوم بتحمليها على الكمبيوتر وأنهيها على برامج خاصة للرسم" كما يقول لـ"سيريا أنتولد Syria untold".
لا تقتصر لوحات الفنان على الحدث السوري بل تتعدى ذلك إلى الفضاء الإنساني العام، إذ لا يكاد الفنان يترك حدثا يمر دون أن يترك بصمته عليه، ففي يوم المرأة العالمي رسم لوحة معبّرة لرجل يصرخ على زوجته "أنا رجال البيت" في الوقت الذي يبدو فيه وكأنه يرتدي زيا نسائيا في لقطة مدهشة تكشف ازداوجية الذكورة وصراخها الفارغ من المعنى في مجتمعاتنا.
هذه الذكورية التي لا ينسى الفنان إظهارها حتى وهو يفضح الدكتاتور العائلي بشواربه التي تحوّل العائلة إلى مسخ، يهتدي بعابرة القرود الشهيرة: " لا أرى ... لا أسمع .. لا أتكلم".
"ياسر أبو حامد": فنان فلسطيني/ سوري خرج من أزقة مخيم الرمل المعتمة في مدينة اللاذقية إلى ضوء العالم، فأبهرت لوحته الساخرة هذا الضوء بدل أن يبهره، وكأنه يسخر من هذا العالم الذي حرمه وطنه مرتين، فكان وطنه لوحة بانتظار ولادة وطن الحري