شبان سوريون وعرب وأجانب يطبعون أرقاما على جباههم!
هل يلعبون؟
هل يلونون جباههم احتفالا بعيد ما، أم؟
لمن هذه الأرقام؟ ولم ينطقون بعبارة "السوريون ليسوا أرقاما"؟
عيونهم ونبرة وجوههم لا تشي بأي فرح، بل بغضب مكبوت، وحزن جم، وإرادة مجنونة ناجمة عن عجز ما!
إنها أرقام مكتوبة بلون الموت والعجز في آن: الموت القادم من معتقلات النظام على هيئة صوّر باتت النازية والفاشية أمام هولها مجرد تاريخ، والعجز عن إيقاف هذا الموت البطيء الصامت لمن بقي في المعتقلات، العجز أن "ترى صديقك أو قريبك رقمًا، جثّة هامدةً موثّقة بالصورة بعد أن أمضى عامين من التعذيب وتتعرّف عليه من شامةٍ أو من شكل حاجبه بعد أن تغيّرت ملامحه،.. أن تتأمّل مقتولًا وتدقّق في عدد الضربات التي تلقّاها على وجهه، وعدد الطعنات التي اخترقت جسده، وأن تتخيّل كل ساعةٍ قضاها في السجن لأنه كان متظاهرًا أو ربّما حتى لم يكن، أخذوه صدفة من بين من أخذوهم، وعادَ بعد ذلك هكذا. هذه العبثيّة اللامتناهية المرتبطة بقوة بالعجز، خاصّة وإن 11 ألف قتيلٍ تحت التعذيب لم يحرّكوا شيئًا في نفوس هذا العالم كما فعل مقتل الكساسبة أو مقتل صحفيي شارلي إيبدو!"، ليتحوّل العجز إلى "خلايا نحل موزعة حول العالم في ظاهرة غريبة" حيث هذا "الكم الهائل من السوريين وقد توحّدوا على شيء ما"، مطلقين حملة "السوريون ليسوا أرقاما" التي تحولت من فكرة مرتجلة حين وضع بعض الشباب والصبايا صورهم مع أرقام على جباههم للتضامن مع صور الضحايا الخمسة والخمسين ألفا التي سربها "قيصر" وعرضت في العاشر من آذار مارس 2015 في المقر الرئيسي للأمم المتحدة في نيويورك، موثقة مقتل إحدى عشر ألف سوري تحت التعذيب.
ليحول النشطاء الظاهرة إلى حملة منظمة عبر بدء العمل "على عدة مشاريع كيلا نكون أرقامًا، ثم تطوّرت بفعل التراكم وكثافة الآراء والخبرات لتصبح ملفًّا حقوقيًا كبيرًا يقدم لمحكمة دولية، وأضيف إليها حشد شعبي سوري وعربي وعالمي في وقفات تضامنية، بالإضافة إلى ملف توثيقي لقصص شهداء التعذيب في كتاب مترجم إلى عدة لغات" كما يقول "رامي العاشق" لحكاية ما انحكت.
مع تبلور الفكرة في أذهان الناشطين ، لم يعد هناك مجال "للتوقف"، فبات "التنظيم يأتي لوحده، غرام تنشئ صفحة الحملةـ أنا (رامي) أكتب صيغتها وأهدافها، ليات تدعو وتحشد، تامر يصمم الصور، نور يصنع الفيديوهات، إياد ينسّق في أمريكا، فادي يحشد لمظاهرة في دوسيلدروف، شباب يرسلون صورهم وقد أقاموا وقفة بعينتاب، صحافيون يتواصلون ليغطّوا الحملة، العدد بالآلاف، صحافيون أجانب يعرضون خدماتهم في الترجمة والحشد، فنانون سوريون يرسمون للحملة" التي تمكنت خلال وقت قصير جدا من جمع الآلاف على وسائل التواصل الاجتماعي، وفرضت نفسها على وسائل الإعلام ضمن الأخبار الأولى، واستفزت النظام إلى درجة تلقي النشطاء "تهديدات ووعيد لم نره مسبقًا: رسائل للصبايا تحديدًا وشتائم" وهو الأمر الذي دفعهم لإغفال أسماء العاملين في الداخل حماية لهم من بطش النظام، دون أن يحد ذلك من عزيمتهم، فـ"قرار الاستمرار أكبر".
المصاعب الاقتصادية كان لها تأثيرها على الحملة، خاصة أن الأنشطة (كتب، الموقع، أفلام) التي يود نشطاء الحملة إنتاجها مكلفة، الأمر الذي يدفعهم للقيام بكل ما يمكن القيام به مجانا أو عبر شراكات مع مواقع ومؤسسات مثل "موقع السوري الجديد" بهدف إنشاء موقع خاص بالحملة للتوثيق والنشر والعمل بشكل رسمي وخاص به، وحملة "كوكب سوريا" التي تنطلق من فكرة أن "ما يجري في سوريا لا يصدق وكأنه في كوكب آخر". ( سيكون لنا وقفة معها)، في حين ترحب الحملة برعاة لمخرجاتها الأخرى، "ولكن لن نقبل بتبنّي الحملة من قبل أحد".
حدة المصاعب الاقتصادية خفّف منها نسبيا الدعم الذي لقيته الحملة من صحفيين أجانب ترجموا المواد والأفلام و ساعدوا بالحشد غير العربي في بلدانهم وأرسلوا رسائل بصرية بلغاتهم، وحقوقيون ساعدوا في الشأن الحقوقي.
أهم ما في الحملة أنها تعمل على الانتقال من الجانب المدني التحريضي ضد النظام من جهة، وتعريف الناس في العالم بما يحصل في سوريا من جهة ثانية، إلى الجانب الحقوقي العملي، معتبرة أن "ملف صور شهداء التعذيب من أقوى الملَفّات القضائية التي تدين النظام السوري، كما يعتبر وثيقة قوية خاصةً فيما يتعلق بالسورِيين الذين يحملون جنسيات أُخرى و استشهدوا تحت التعذيب يمكن لبلدانهم الثانية رفع دعوى قضائية على النظام السوري و إدانته في محكمة الجنايات دون الُوقوع في فخ الفيتو مجددا"، ليقدم النشطاء على التواصل مع أهالي المعتقلين ومع جهات حقوقية، بالتوازي مع العمل على "ملفات حقوقية تتعلق بتوثيق أسماء الجناة والذين قاموا بتعذيب المعتقلين".
يضع النشطاء نصب أعينهم وهم يسابقون الزمن للضغط على الجهات الدولية لتضغط بدورها على النظام، المعتقلين الباقين على قيد الحياة حتى الآن، آملين أن لا يكون مصيرهم كمصير من رحل وتحوّل إلى مجرد رقم، ساعين لأن يتوقف العالم عن "عدّ الضحايا، آن له أن يتحرك خطوة تجاه إنسانيّته، ولو أننا نشكّ في ذلك"، و آملين من كل سوري أن يعمل على "إيصال حقيقة ما يجري في بلده للمواطن الغربي أو للرأي العام" ليشرحوا لهم أن السوريون لم يشردوا في كل منافي العالم لأنهم "سائحين" بل لأن هناك نظاما يقتلهم تحت التعذيب "لأنهم يريدون الحرية." لا غير.