في كل أنحاء العالم، يكون المهرجان السينمائي مناسبة للفرح وتوزيع البهجة والمتعة والفائدة والاحتفاء بالإنجاز، إلا في سوريا، وتحديدا في مدينة حمص – حي الوعي المحاصر، "فإقامة هكذا مهرجانات ثورة أيضاً".
ربما من العار أن تدخل البشرية في القرن الواحد والعشرين، ولا يزال ما هو طبيعي في كل مكان، "ثورة" في مكان ما، إذ تأتي الثورة/ المهرجان هنا، لتقول أشياء عن فضيحة العالم وخواء ضميره وصمته. فحين يستعير المحاصرون السينما لتكون وسيلة فك حصارهم عبر "صورة مختلفة عمّا اعتادوا رؤيته، صورة تنقل كواليس الحدث لا الحدث فقط، وكل ذلك لا يكون بصورة أو ريبورتاج أو تقرير .. إنما بفيلم ينقل حياة الناس، آلامهم وآمالهم"، إنهم بذات الوقت – سواء عن قصد أو لا- يستخدمون المهرجان ليصبح الناطق باسمهم والمعبّر عن آلامهم وأحزانهم، والمشير إلى أن ثمة بشر يعشقون السينما ويحبون الحياة، ولكنهم يعيشون في ظل حصار إنساني خانق تغيب عنه أبسط وسائل الحياة، ليصبح المهرجان فعلا ثورة من خلال إرادة بشر يتحدون "ماسلو" وهرمه، فالسينما حاجة مثل الغذاء والماء لبشر محاصرين من قبل استبداد لا يرحم، فما بالك حين يكون ثمة أفلام منتجة في ظل هذا الحصار أيضا، وتعرض في ظل حصار أشد؟
قرر مجموعة من الشباب والنشطاء السوريين أن يقيموا مهرجانا للسينما، تحت اسم "مهرجان حمص للأفلام التسجيلية- Homs Documentary Film Festival"، وأين؟
في حي الوعر المحاصر منذ سنة والذي يضم أربعة عشر ألف عائلة تضم خمسة وسبعين ألف شخص رفضوا الخروج من الحي الذي كان يضم قبل ذلك خمسمئة ألف مواطن، إضافة إلى وجود 2200 نازح في إحدى عشر مركزا لإيواء نازحين من باب عمرو وحمص القديمة نزحوا إلى الحي قبل حصاره من قبل قوات النظام، ليغدو السؤال عن سبب قيامهم بذلك وكيفية تحقيق ذلك وإنجازه أمرا مشروعا؟
الجواب بسيط بساطة الماء، إنها الإرادة العاشقة للحياة، والباحثة عن "نقل صورة للنظام و العالم أجمع بأننا مازلنا أحياء، ونمارس جنوننا على هذه الأرض رغم هدير الصواريخ ودرب آلامنا الذي لم يتوقف لحظة"، و كي يرى المحاصرون صورة مختلفة عما اعتادوا رؤيته "كما يقول أحد منظمي المهرجان لحكاية ما انحكت، ليحوّل مسؤولو المهرجان السينما إلى فعل مقاوم بوجه الحصار والنظام في آن، إذ كتبت إيمان محمد: " من حي يقال عنه محاصر، تنبعث الحرية بصوت.. من عاصمة الثورة.. تستمر الثورة".
بدأت فكرة المهرجان في شباط 2015، ليبدأ التحضير له رسميا منذ بداية آذار تقريبا، ويتم إشهاره رسميا في الأول من نيسان من خلال صفحة رسمية على الفيسبوك، في "محاولة لخلق أفقٍ جديد عند حملة العدسات"، وليكون للكاميرا "طريقتها في الثورة"، ليتم استقبال الأفلام وفق معايير، هي: تحقيق الشروط الخاصة بالمسابقة، عنوان الفلم وفكرته، مضمون الفلم وقدرته على توصيل الفكرة للناس، السيناريو الخاص بالفيلم، المشاهد الموجودة في الفيلم, ومدى خدمتها وتطويعها لهدف الفيلم، المونتاج، المؤثرات الصوتية، الإخراج، التصوير، رسالة الفلم، إضافة إلى معايير فرعية وثانوية.
حيث شاركت في المسابقة خمسة أفلام هي: "ريحان"، و"الجندي المجهول"، و"الخنادق الخضراء"، و"زناد وقلب"، و"رحلة"، مع أفلام ضيوف هي: "دفاتر العشاق"، "خبر غير عاجل"، "فكرة جميلة"، و"يوم وزر" و"اغتيال حلب" الذي افتتح المهرجان في الخامس عشر من نيسان في مركز دار السلام الثقافي"، حيث جاء في كلمة الافتتاح: "حين تجتمع العين والأذن والقلب والعقل معاً، نمشي ونركض ونطير، ونحلق ونضحك ونبكي، ونحن هنا في مكاننا، في مقاعدنا جالسون، مشدودون للمشهد، مأخوذون بالصورة والصوت والكلمة، ننظر ونسمع ونشعر ونرتقي"، ليعرض في اليوم الأول في السادس عشر من نيسان (2015) "اغتيال حلب"، وفي اليوم الثاني "دفاتر العشاق" الذي سجل أول عرض له في سوريا، حيث كتب أصحابه: "أكثر ما حلمنا به أثناء عملنا على الفيلم "دفاتر العشاق"، حلمنا كان أن يعرض فيلمنا في سوريا، بينكم أنتم ولكم أنتم، شكرا لأنكم معنا، وشكرا لمن أعطانا فرصة أن نكون معكم"، في حين خصص اليوم الثالث لعرض الأفلام المشاركة في المسابقة وما تبقى من أفلام ضيوف.
ليس مصادفة أن يكون اختتام المهرجان هو الثامن عشر من نيسان، فهذا اليوم أكثر من تاريخ لحمص والسوريين، لأنه اليوم الذي تحدى فيه السوريون الحمصيون النظام علانية واعتصموا في ساحة الساعة محاولين إيجاد "ميدان تحرير" يليق بثورتهم ضد الطاغية، الذي لم يطق أن يسمع كلمة حرية فحوّل الساعة إلى مهرجان دم، وليصبح هذا اليوم "تاريخا لن يُنسى في دفتر الصمود والاستمرار، ليس مصادفة أن نختار هذا اليوم كما ليس مصادفة أن نختار اسم "حمص" ليكون عنوانا لمهرجان أردناه تذكرةَ وصولٍ لمرافئ حنين، أعادتنا إلى لهفتنا الثورية الأولى، إلى توقنا لاستعادة انعتاق روحي وحقيقي من ظالمين أوغلوا في تجريحنا وإيلامنا دون رادع أو ضمير" كما جاء في كلمة ختام المهرجان، الذي أعلن فوز فيلم "ريحان" لمهند الخالدية، بالجائزة الأولى و"الخنادق الخضراء" في الجائزة الثانية، مع تكريم للأفلام الثلاثة الأخرى.
مواضيع الأفلام لم تخرج عن سياق الحدث السوري المفتوح على ألم وتحدي، حيث تحدث "زناد وقلب" عن أسباب حمل السلاح من قبل بعض الشبان، حيث بيّن الفيلم أن القصف العشوائي الذي أدى إلى هدم البيوت وفقدان الأحبة سببا أساسيا في حمل السلاح، في حين تحدث فيلم "الجندي المجهول" عن عيون لا تنام على منافذ الحي. وحكى فيلم "الرحلة" عن بدايات الثورة في الأحياء الواقعة تحت سيطرة النظام اليوم، في حين يقول مخرج ريحان عن فيلمه بأنه "وثائقي من داخل حمص، يحمل كمية من تناقضات المشاعر، سيبكيكم كما لم تبكوا من قبل، وسيرسم ابتسامات على محيّاكم تمتزج بالدمع، لتعرفوا كم أن الأمل باقٍ رغم الألم، وسيبقى"، في حين تحدث فيلم "الخنادق الخضراء" لفريق عمل "مراسلون في الحرب" عن "حياة المقاتلين على الجبهات, سردَ معاناتهم وصمودهم تجاه المصاعب والظروف القاسية".
الملفت أن المهرجان لقي حضورا واحتضانا شعبيا يعكس مدى توق البيئات المحاصرة لنسمة إبداع حرية، فإذا كانت الحرية محاصرة بفعل الحصار، فإن السينما تأتي هنا لتكسر الحصار وتقول: "أننا مستمرون, وبأننا بهذه الأرض لسنا مجرد أرقام .. بل روح تنبض وتستمر ".