بعد إفلاس جمعات الانتفاضة المطالبة بالتدخل الخارجي والحماية الدولية، أدرك الناشطون السوريون والتنسقيات الفاعلة على الأرض السورية وجمهور عريض من الانتفاضة السورية، أنه لا بد من تفعيل الاعتماد على الذات وتصعيد النضال السلمي بوجه النظام المستبد، فبدأت عملية مراجعة ذاتية لما أجري سابقا، وبدأت عملية البحث في إمكانية تفعيل الإضراب كوسيلة من وسائل النضال السلمي بهدف إسقاط النظام المستبد، أو بهدف استرداد الثورة لـ "داخلها الوطني"، المقصود به" جملة الإمكانات ووسائل النضال اللاعنفي التي لم تستثمرها الثوّرة حتى الآن، أو على الأقل، لم تستثمرها كما ينبغي"، كما كتب الصحفي الناشط محمد دحنون في مقال له، إضافة إلى مواجهة أصحاب التدخل الخارجي، كما عبر شعار "إضراب شهر ولا ناتو دهر".
بدأ الناشطون يدرسون إمكانية تفعيل هذا الخيار ودراسة كيفية تطبيقه واختيار الوقت المناسب للبدء به، بغية تحقيق أكبر مشاركة ممكنة، حيث كانت أغلب النقاشات بين الناشطين تدور آنذاك حول توقيت البدء، وطريقة تطبيق ذلك، ومدى استجابة الناس للدعوة إلى الإضراب والتفاعل معها، مع البحث في إيجاد أفضل وسيلة تمكن الجمهور المحايد والمتخوف حتى الآن من الانخراط في عملية التغيير، لأن الإضراب يوفر له إمكانية ذلك دون أن يتعرض لخطر مباشر كما هو الحال في التظاهر.
بعد أن أشبع الناشطون والمخططون للإضراب الخيارات السابقة استقروا على أن يكون الإضراب وفق خطوات تصاعدية، بحيث تأتي كل خطوة مكملة لما سبق، على أن يسبق الأمر حملة إعلانية مكثفة في وسائل الإعلام وصفحات الفيسبوك وفي الشارع عبر طباعة بروشورات وتوزيعها في الأماكن العامة، وكانت صفحة إضراب الكرامة المعبرة عن الخطوة الأولى في هذا العمل.
وهكذا تم الاتفاق على أن يبدأ الإضراب في يوم الأحد 11/12/2011، على أن يكون اسم الجمعة السابقة "إضراب الكرامة" (9/12/2011) لكي تكون إعلانا عن بدء الإضراب الذي عبر عنه بيان إضراب الكرامة بأنه " "انطلاق تطوّر جديد داخل الثورة السوريّة"، داعيا "الشعب السوري العظيم" للالتزام "بالإضراب والالتزام به وتصعيده نحو العصيان المدني نستعيد زمام الفعل السياسي، وننزع فتيل الانقسام المجتمعي، ونرد خطر التدّخل الخارجي، ونضع الثوّرة على طريق الديمقراطية الحقيقيّة وتثبيت مفهوم المواطنة الكاملة بالحقوق والواجبات"، محددا هدفه بسحب الجيش والأمن من الشارع، وإطلاق سراح كافة معتقلي الثوّرة، وصولا لإسقاط النظام.
وحدد بيان الإضراب المراحل بست مراحل تسبقها مرحلة تحضيرية/إعلامية، تبدأ بامتناع تلاميذ المدارس عن دخول مدارسهم (يومي/ 11 و12 و13 ديسمير 2011)، مرفقة ببرنامج تفصيلي، على أن تكون المراحل كالتالي:
المرحلة الأولى: إغلاق الحارات الفرعية والشوارع الجانبية بشكل جزئي والذهاب إلى أماكن العمل دون القيام بأي عمل أو تأخيره ما أمكن، وإغلاق الهواتف المحمولة مدة أربع ساعات يوميا، من الثانية ظهرا وحتى السادسة مساءا، وتبدأ في يوم 14/12/2011، لتنهي في 16 من الشهر نفسه.
المرحلة الثانيّة: إضراب المحلات التجارية وهي مرحلة الإضراب القسري عبر إغلاق المحال عبر تزويد أبوابها بأقفال جديدة أو وضع مادة الصمغ في الأقفال. وتمتد من 16 الشهر نفسه حتى العشرين منه.
المرحلة الثالثة: وتشمل إضراب الجامعات، وتمتد من 21 الشهر حتى 23 منه.
المرحلة الرابعة: وتشمل إغلاق الطرق في المدن والأرياف وقطع الطرق بين المدن والريف في كل محافظة على حدة وبين المحافظات، وتستمر من 24 الشهر وحتى 26 منه.
المرحلة الخامسة: إضراب موظفي الدولة، وتمتد من 27 الشهر حتى 29 الشهر نفسه.
المرحلة السادسة: مرحلة العصيان المدني الشامل، وتبدأ في الثلاثين من الشهر لتستمر حتى تحقيق المطالب المرفوعة.
بعد أن تحددت خطة العمل، بدأ الناشطون بالمرحلة التي تسبق الخطوة الأولى، وهي مرحلة الإعداد الإعلامي وتوعية الجمهور بأهمية هذا النشاط ودوره في إيصال الانتفاضة إلى أهدافها والأهم إعادة الفعل إلى الداخل السوري بعد أن كثرت دعوات الاعتماد إلى الخارج. وهنا بدأ الناشطون على الأرض بنشر الكثير من البيانات والشروحات البروشورات، وتوزيعها على الناس وفي الشوراع عبر ملصقات على الجدران، إضافة إلى عقد لقاءات مع الناس والتجار والمثقفين ليشرحوا لهم ماهية الخطوة ودلالتها، عدا عن إعداد مواد مصورة تشرح الإضراب والهدف منه بطريقة بسطية ومعبرة عبر برومو أو قصاصات ورقية تحكي سيرة الإضراب، إضافة لتأليف أغاني وتلحينها بهدف تشجيع الناس على الإضراب مثل أغينة "شارك بالإضراب" التي تقول كلماتها" ببلدك لا تكون زبون.. لا تنفّع يلي بيخون...إضرابك بهالأيام .. جلطة بعروق النظام.. شمعة ما بيلقى الظلام"، وهي من إعداد مجموعة "الشعب السوري عارف طريقه" و فرقة " الدب السوري"
وبدروهم قام الناشطون الإعلاميون المنخرطون بالانتفاضة بنشر مقالات وتقارير عن هذا الإضراب سواء في الصحف المعروفة، ووكالات الأنباء الشهيرة أو في صحف الانتفاضة ذاتها، والتي يوزع بعضها في المناطق التي انخرطت بشكل مكثف في الانتفاضة، إضافة إلى ترافق الأمر مع كتابات كثيرة تربط بين أهداف العصيان المدني وهدف إسقاط النظام الذي حدده الشارع السوري لنفسه هدفا نهائيا، بغية توعية الجمهور المتظاهر أن هذه الخطوة ليست إلا واحدة من خطوات باتجاه الهدف الكبير، و نشر تعليمات تساعد المواطنين العاديين على تأمين متطلباتهم الحياتية اليومية التي قد تتأثر بالإضراب، وهو ما اتخذ شكل مقالات حملت عنوان "اقتصاد الكرامة" بهدف تشجيع الناس على الشراء من المحلات التي شاركت في الإضراب بهدف دعمهم، إضالفة إلى توضيح العلاقة بين العصيان المدني والهدف المتمثل بإسقاط النظام.
وقام النشطاء بتصميم برومو( أفلام دعائية) للإضراب، ومنها أخذ صيغة أنيميشن (رسوم متحركة) تحت عنوان "سأذهب إلى العمل ولن أعمل"، لحض الناس على المشاركة في الإضراب، حيث عمل الناشطون أفلام دعائية جميلة وملفتة/ منها ماهو موجه للموظفين، ومنها موجه للجامعات وأخرى موجهة للتجار.
بدا واضحا أن اليوم الأول من الإضراب كان نقلة نوعية جدا في مسار الانتفاضة السورية، حيث فرض الخبر نفسه على كافة وسائل الإعلام التي غطت الأمر بكثافة ساهمت في إيصال فكرة الإضراب إلى أغلبية السوريين، الأمر الذي يعطي مؤشر لمدى نجاح الحملة الإعلامية السابقة التي قام بها ناشطو الانتفاضة في المجال الإعلامي، حيث أفردت محطتا الجزيرة والعربية وغيرهما المجال واسعا لتغطية اليوم الأول و بداية المرحلة الثانية من الإضراب.
إن التدقيق في الأنشطة التي قام بها الناشطون في الأيام الأولى من الإضراب تدل على فعالية النشاط الذي نجح في مناطق كثيرة، ولعل متابعة المقاطع المنشورة على الموقع حول هذا الأمر تدل على ذلك، كما أن بعض المحطات التلفزيونية خصصت برامجها وتقاريرها للحديث عنه كالجزيرة و العربية غيرها.
ولكن رغم ذلك لم يتمكن الإضراب من التمدد نحو مفاصل هامة جدا في العاصمة السورية (دمشق) والعاصمة الاقتصادية ( حلب)، اللتين بقيتا بعيدتين عن الانخراط الفاعل في النشاطات السلمية بشكل جذري، رغم التزام بعض الأسواق التجارية بالإضراب، إذ رغم أن الناشطين عمدوا فعليا إلى قطع شوارع رئيسية في تلك العواصم ومدن أخرى، وعمدوا إلى قطع الطريق الدولي في درعا و حمص وقطعوا صلة الوصل بين الأرياف والمدن من جهة، وبين المدن فيما بينها من جهة ثانية، وبين المدن السورية والخارج من جهة ثالثة، إلا أن الإضراب لم يتمكن من التوصل إلى هدفه النهائي المعلن بالعصيان المدني، لأسباب كثيرة يأتي في مقدمتها، عنف النظام المفرط تجاه كل من ساهم في الإضراب الذي شمل عملية كسر أقفال المحلات المضربة ونهب محتوياتها وإجبار السكان تحت قوة السلاح على فتح محلاتهم وهو أمر تمكن الناشطون من رصده لفضح النظام عبر إرسال الفيديوهات للإعلام ، الأمر الذي دفع السكان إلى الخوف من الإضراب عدا عن ضعف التنسيق بين تنسيقات الانتفاضة نفسها لجعل الإضراب متكاملا، إضافة إلى دخول الانتفاضة مرحلة العسكرة التي باتت تتزايد يوما بعد يوم، الأمر الذي جعل قطاعات شعبية كثيرة تحجم عن المشاركة، إضافة إلى انقسام كوادر الانتفاضة نفسها بين مؤيدين للعمل السلمي ومؤيدين للعمل العسكري الذي كان إضراب الكرامة أول ضحاياه رغم الجهود الصادقة والنبيلة التي بذلت في هذا الشأن.
وفي التدقيق في مراحل الإضراب سنجد أن بعضها نجح في حين أن البعض الآخر لم ينجح ولم يلقى استجابة، مع نجاح نفس الخطوة في مناطق وفشلها في مناطق أخرى، فمثلا نجح إضراب المحلات التجارية في مدن ريف دمشق كلها تقريبا ومدن مثل حماه ودرعا وحمص والقامشلي في حين أنه فشل في العاصمة وحلب إلا بعض الأحياء التي تجاوبت على نحو خجول، وفشل كذلك إضراب الجامعات في دمشق ونجح جزئيا في مدن أخرى.
أكثر ما نجح في الإضراب هو قطع الشوارع والمدن الفرعية والرئيسية، حيث تمكن الناشطون من قطع هذه الطرق مستخدمين الدواليب المشتعلة والرمال والأدوات التي تسد الشوارع، مما أربك أجهزة الأمن والجيش التي كانت تسارع إلى فتح الطرقات، مستخدمة أبشع الأساليب وأحطها في مواجهة الناشطين.
https://www.youtube.com/watch?v=Ttgxts_y9gw
وأكثر ما فشل به الإضراب هو عدم استجابة موظفي الدولة للإضراب، حيث لم يقدر منظمو الإضراب معاناة هذه الشريحة بشكل صحيح، إذ أن توقيت الإضراب جاء بعد ثمانية أشهر من بدء الانتفاضة، أي بعد أن توقفت الحياة الاقتصادية وتراجعت القدرة الشرائية للمواطنين وبدأت الناس تفقد وظائفها، مما جعل هؤلاء الموظفين أكثر تمسكا بوظائفهم في توقيت الإضراب، لعدم وجود بديل، عدا عن كون مؤسسات الدولة موضوعة تحت المراقبة الأمنية الصارمة، حيث لكل مؤسسة ضابط أمن ومخبرين لهم صلة مباشرة مع أجهزة الأمن وهذا أمر يعرفه الموظفون الذين خشوا من فقدان وظائفهم ومن الاعتقال.
في مقاربة الإضراب ككل، سنجد أن الإضراب نجح في الأرياف ومدن الأطراف وفشل في المدن الكبرى، كما أنه نجح على صعيد قطع الطرقات و إضراب المحال التجارية إلا أنه فشل على صعيد الجامعات وموظفي الدولة، وهو ما حال دون وصوله إلى هدفه النهائي المتمثل بالعصيان المدني، إلا أنه شكل علامة فارقة في مسار الانتفاضة السورية، علامة تدل على شعب يأبى الانكسار، يبحث رغم كل هذا العنف المسلط عليه عن أي كوة أمل توصله لهدفه بوسائل سلمية ما استطاع إلى ذلك سبيلا.