بعد قيام الثورة السوريُة في منتصف آذار 2011 نشأت العديد من منظمات المجتمع المدني منها ما يُعنى بالشؤون الإغاثيّة ومنها التنمويّة أو الثقافيّة والعديد من الجمعيات الصغيرة والمتوسطة في شتى المجالات. بعض هذه الجمعيات والمنظمات فشل في الاستمرار لمدة زمنيّة طويلة وتوقفت عن العمل بعد فترة قصيرة "نسبياً" رغم العطاءات والأعمال التي قدموها كلٌ في مجال عمله.
واجهت هذه الجمعيات العديد من الصعوبات منها صعوبات ذاتيّة تتعلق بفريق العمل وقدرته على الاستمرار والخطة الموضوعة لتحقيق أهداف الجمعية والشراكات مع المنظمات والجمعيات الأخرى ومنها المتعلّقة بعوامل خارجة عن إدارة الفريق كالخوف الأمني كما في سوريا ولبنان وصعوبة التحرك وعدم وجود حرية كاملة في العمل كما يحدث في سوريا ولبنان والأردن وكوردستان العراق وبنسبة أقل في تركيا. وهناك عوامل أخرى كعدم وجود تمويل أو وجود تمويل مشروط.
يحدث هذا عادة أوقات الحروب نتيجة الحاجة الملّحة لسكان المناطق المنكوبة واللاجئين ممن لجؤوا ونزحوا إلى مناطق آمنة أو مناطق أقل خطراً، إذ تتشكل الجمعيات الصغيرة والمتوسطة لتلبيّة الحاجات المتزايدة ولسد الفراغ الخدماتي الذي تشكله الحكومة نتيجة انشغالها بالحرب. ففي العراق مثلاً وبعد الاجتياح الأمريكي وسقوط النظام السابق تشكلت آلاف الجمعيات لم يبق منها سوى 8-10 % وهي تلك الجمعيات التي اعتمدت على خطط طويلة الأمد والتي أنشأت كوادر قادرة على الاستمرار بغض النظر عن الظرف والبيئة المحيطة.
في الحالة السورية يمكننا القول بأنّ العديد من الجمعيات والمنظمات التي نشأت بعد قيام الثورة قد فشلت في الاستمرار حتى قبل أن تقلّ الحاجة لها، إذ أنّ حاجات السوريين تزداد نتيجة توّسع رقعة الحرب يوماً إثر يوم وكان توقف هذه المنظمات والجمعيات ناتجاً عن صعوبات وعقبات ذاتيّة وموضوعيّة. إذن كيف يمكن التغلب على هذه المعوقات والاستمرار في العمل ضمن دوامة الوضع السوري والتدخلات الداخلية والخارجية وعدم استقلالية القرار على صعيد المنظمات والجمعيات "على أقل تقدير"؟
على فريق العمل المُؤسِس للجمعية (سنطلق اسم جمعية هنا على أي منظمة أو مجموعة شباب تجاوزاً) أن يحدد قبل البدء بالعمل أهدافه وغاياته التي يعمل من أجلها. يمكن أن تتحول مجموعة المؤسسين إلىNGO منظمة غير حكومية تعمل بشكل مؤسساتي (وهو ما سنتحدث عنه هنا) أو أن تكون Grassroot قاعدة العمل المدني والتي ينتهي دورها عند انتهاء المهمة التي تقوم بها.
كي تتحول المجموعة المؤسِسة إلى مؤسَسة حقيقية تعمل بنهج واضح وتبغي استمراريّة في عملها عليها أن تختار في البداية مجموعتها المستهدفة ومكان عملها. المجموعة المستهدفة من العمل والتي تعود نتائج العمل لصالحها والمكان للحصول على الموافقات القانونية التي تسمح بالعمل من غير مشكلات قانونيّة كالتراخيص وما إلى هنالك.
ينبغي وضع رؤية ورسالة وأهداف واضحة ومكتوبة. الرؤية هي الحلم الذي نبغي الوصول إليه على المدى البعيد جداً، والرسالة هي رسالة الجمعية خلال سنوات العمل القليلة القادمة، أما الأهداف فينبغي تفصيلها إلى أهداف قصيرة الأمد وأهداف طويلة الأمد. بناءً على الرسالة والأهداف يجب أن توضع خطة مفصلة تحقق هذه الأهداف.
الخطة يجب أن تكون شاملة على كل الآثار والنتائج والمدخلات والمخرجات بشكل مفصل مع شرح كاف كما يجب أن تحوي جداول تبين المشاريع والنشاطات التي تندرج تحت الأهداف مع المسؤول عن التنفيذ ووجود جدول زمني مفصل وتكاليف النشاط مفصلة مع وجود مؤشرات للنجاح والفشل.
على الجمعية أن تضع خطة للموازنة المالية لتبيان كيفيّة تقسيم المال الموجود لديها, كما يجب وضع خطط لجلب التمويل وللحملات الإعلانيّة ولكيفيّة التواصل مع الشركاء، مع وجود خطة دائمة لتقييم ومتابعة العمل وتوضيح فكرة استدامة الجمعية المالية والإدارية والفنية. يجب أن يكتب جميع ما سبق ويحفظ لدى جماعة المؤسِسين، كما يجب وضع نظامين داخلي وأساسي لتوضح آليات العمل داخل الجمعية.
بعد أن تجهز أهداف الجمعية وتوضع الخطط ينبغي تأسيس فريق عمل مكون من خبرات وطاقات قادرة على تحقيق أهداف الجمعية، كما يجب أن يكون المكوّن الأساسي للجمعية هو المتطوعون العاملون في الجمعية (ملاحظة متأخرة: يجب أن تكون الجماعة المؤسسة متطوعة وليست موظفة تتقاضى المال لقاء عملها) أي يجب أن توظف الجمعية موظفين فقط عند الحاجة الماسة وأن تكون الركيزة الأساسية هي التطوع وحب العمل في الجمعية كي لا تتحول إلى مؤسسة حكومية.
الجانب المالي أو بعبارة أخرى تمويل الجمعية هو الجانب الذي يساهم بشكل كبير في استمراريّة الجمعية من عدمها كون معظم الجمعيات الناشئة تبحث عن التمويل قبل بدء العمل وهو أمر يكاد يكون خاطئاً بالمطلق. لو افترضنا أنّنا بدأنا العمل قبل وجود تمويل وكان الدافع الرئيسي هو الرغبة وحب العمل وبدء العمل يؤتي نجاحاً فسنرى أن العديد من الجهات الممولة ستتوجه إلينا لمحاولة تمويلنا، سيكون بعض هذا التمويل مشروطاً وبعضه الآخر مسيّساً، لذا علينا الحذر ودراسة الجهة الممولة قبل قبول المال الممنوح في كلا الحالتين، إن كان المُموِل هو من تقدم بطلب التمويل أو إن كانت الجمعية هي من تقدمت بطلب أن تُموَّل.
دائماً ما توجد منظمات وجهات داعمة في مختلف دول العالم توازي وتساير سياسة الجمعيّة التي نود تأسيسها لكن علينا البحث بشكل جدي وحقيقي عن هذه الجهات التي تدعم عملنا دون فرض شروط سياسية أو غير ذلك من أهداف وشروط الجهات المانحة. علينا أن نلتزم مع الجهات المانحة بالتقارير الماليّة وتقارير سير العمل فقط دون إعطائهم ما يريدون من معلومات ودون قبول تدخلهم في سياسة عمل الجمعية.
من المفضل أن تقوم الجمعيات بتأسيس شراكات مع جمعيات أخرى تعمل على نفس الأهداف وخلق مشاريع مشتركة لتحقيق أهداف الجمعيتين، هذا يقلل من الحاجة إلى المال كما لو تم الاعتماد على المتطوعين "دون استغلالهم" سيخفف من أعباء الجمعية المالية. إن كان بالإمكان إيجاد مشاريع تستطيع تمويل الجمعية للوصول إلى مرحلة التمويل الذاتي للجميعة ستتحرر الجمعية من قيود المموّلين.
قد لا نستطيع في هذه المقالة توضيح جميع آليات العمل من أجل استمرارية الجمعية وتفادي فشل الجمعيات المُنشأة حديثاً لكن ليكن ما قلناه بوابة للدخول إلى عالم المؤسسات والجمعيات القادرة على العمل والاستمرار بصرف النظر عن الظروف والبيئة المحيطة والقادرة على تحقيق شرط التمويل الذاتي بعد فترة من العمل (نحن على استعداد تام لتفصيل أي نقطة مما جاء في المقالة ضمن مقالات لاحقة).
لا بدّ في النهاية من التذكير بأنّ المجتمع المدني هو رديف للحكومات في المساهمة في تحسين أوضاع الناس والبلاد، وهو "أي المجتمع المدني" مع التعليم والقضاء المستقل والإعلام الحر يشكلون ركيزة أساسية في بناء أوطان حرّة ديمقراطية أساسها العدل والحرية والكرامة.