اختبر السوريون عبر السنوات القليلة الماضية أشكالاً لا حصر لها من أساليب القمع، المبتكر منها والذي بات عادياً!. وإذا ما أتيح للسوريين اليوم فتح ملفات ذاكرتهم الجمعية، سيجدون أن تاريخ حكم الأسد، لم يكن سوى تاريخ طويل من القمع والإرهاب وسطوة الطغيان. تم اختبارها جماعياً كما حدث في مجازر حماه سنة 1982 وحلب وجسر الشغور، وفردياً عبر قوائم طويلة من المفقودين والمعتقلين في أقبية سجون النظام، والتي بات بعضها مع الوقت له صفات أسطورية من شدة ما ترك أثراً مرعباً في قلوب السوريين، كما في سجن تدمر على سبيل المثال.
وفي كل الحالات، ومنذ أن انقلب الأسد الأب على رفاقه وزجهم في المعتقلات وحتى لحظات انفجار ثورة السوريين سنة 2011، كانت "المجزرة" إحدى أهم الأساليب المتبعة من قبل نظام الأسد الأب والأبن، الذي عبر على أجساد السوريين كما أرواحهم في سبيل ضمان استمرار سيطرته المطلقة على سوريا.
البيضا نموذجاً
في هذه اللحظات، يتذكر السوريون تفاصيل الرعب الذي شهدته في مطلع أيار من عام 2013 قرية البيضا القريبة من مدينة بانياس الساحلية، والتي راح ضحيتها ما يزيد عن الثلاثمائة ضحية، تنوعت أعمارهم بين أطفال أعمارهم لا تتعدى الأشهر، وحتى الكهول الذين لم تشفع لهم شيخوختهم لدى القتلة.
تقع قرية البيضا جنوب شرق مدينة بانياس على بعد نحو 9 كيلو مترات منها، تحيط بها مجموعة من القرى العلوية الموالية لنظام الأسد كقرية "ضهر صفرا"، وقرية "البساتين". بينما قرية البيضا فيقطنها غالبية سنية ممن خرج من الأسابيع الأولى لانطلاق ثورة السوريين ضد نظام الأسد.
ومنذ الأسابيع الأولى التي تلت مظاهرات آذار سنة 2011، تعرض أهالي البيضا لقمع سافر من قبل ميليشيات الشبيحة وقوى الأمن التابعة لنظام الأسد، ففي حوالي نيسان من عام 2011، قامت قوات الأسد باقتحام القرية، وتم في تلك الأثناء اعتقال العشرات من الشبان المدنيين، والذين تم توثيقهم ورميهم في ساحة القرية، ليقوم عناصر الأمن فيما بعد بالتنكيل بهم وإذلالهم على مرأى من كاميراتهم الخاصة التي وثقت هذه الجريمة.
تكررت انتهاكات قوات الأسد بحق أهالي البيضا، وتتالى إذلال الشبان وعوائلهم، مما دفع بالعديدين منهم إلى حمل السلاح من أجل الدفاع عن النفس؛ وفعلاً، تشكلت في تلك الأثناء أولى المجموعات التي أُجبرت على حمل السلاح من أجل التصدي لانتهاكات ميليشيات الشبيحة الذين راحوا يعيثون في القرى الثائرة فساداً وانتهاكاً لحرمة الأهالي.
لم تضم تلك المجموعات في بداية الأمر، سوى أعداداً قليلة من الشبان، والذين تسلحوا بأنواع خفيفة من السلاح، كبنادق الصيد وبعض البنادق الآلية. وظهرت أول كتيبة في المنطقة تحت اسم: "كتيبة شهداء بانياس"، يقودها أحد أبناء المدينة، والمعروف بـ"النسر".
بين حوالي منتصف أيار سنة 2011 وحتى منتصف عام 2012، اقتصر عمل شبان الكتيبة على مهاجمة بعض الحواجز التابعة لقوات الأسد، وتأمين انشقاق الجنود الراغبين في مغادرة قوات الجيش والانضمام إلى صفوف الثوار، أو رفض القتال والعودة إلى أهاليهم في مناطق متفرقة من سورية.
اللحظات التي سبقت المجزرة
وصل أعداد المقاتلين في بانياس ومحيطها إلى حوالي 200 شاب، يحمل بعضه السلاح، ويفتقد العديدين منهم لأي نوع من أنواع الأسلحة، وانتشر الشبان في الجبال القريبة من الساحل، متخفين عن أنظار قوى الأمن المترصدة لهم؛ وفي إحدى الزيارات التي كان يقوم بها "النسر" قائد كتيبة "شهداء بانياس" إلى منزل عائلته في البيضا، بحوالي نهاية نيسان سنة 2013، تمكنت قوات الأمن من إلقاء القبض عليه، وساقوه إلى السجن. شكلت هذه الحادثة ضربة قاصمة للكتيبة، وذلك بسبب حجم المعلومات التي يمتلكها "النسر" عن الكتيبة وأماكن انتشار مقاتليها، وأماكن إخفاء الأسلحة والذخائر التي تمتلكها، وقرر الشبان نصب عدة كمائن لقوات الأسد، عسى أن يتمكنوا من تحرير قائدهم.
في إحدى الكمائن، تقدمت مجموعة عسكرية تابعة لقوات الأسد، وتضم عدة سيارات عسكرية وعدد من الجنود المسلحين بكافة أنواع الأسلحة الآلية، والذين اشتبك معهم مقاتلو كتيبة "شهداء بانياس" ونجحوا في قتل أغلب عناصر الدورية. وهي حادثة أثارت موجة عارمة من الغضب في صفوف قوات الأسد كما في صفوف موالوه من أبناء القرى الساحلية الأخرى في المنطقة، وولدت سلسلة ممن ردود الأفعال الانتقامية، والتي سيكون أهالي قرية البيضا المدنيين ضحيتها.
ساعات الصباح القاتمة
كانت من أولى ردود الأفعال، أن أرسل نظام الأسد المزيد من التعزيزات العسكرية إلى المنطقة، وتالياً منحت قوات الميليشيا المدعوة "بالدفاع الوطني" والتي كانت بقيادة علي كيالي، الضوء الأخضر لارتكاب المجازر وترويع الأهالي من دون أي محاسبة أو رقيب.
في ساعات الصباح الأولى من الثالث من أيار سنة 2013، اقتحمت جموع الميليشيات وقوات الجيش والمخابرات الأحياء الشمالية من قرية البيضا، دخلت القوات منازل المدنيين، وقتلت كل من رأته في طريقها، ذبحاً بالسكاكين، وضرباً بالهراوات، وعبر إطلاق النار على رؤوس الضحايا، ثم حرقت المنازل بمن فيها؛ واستمرت قوات الإجرام بالتقدم في أحياء القرية التي ضرب على محيطها حصاراً منع أياً من أبنائها من الخروج منها، واعتقل العشرات من الأهالي نساء وأطفالاً ورجالاً، وقتلوا جميعهم في شوارع القرية، ومن ثم تم تجميع الجثث في أحد المحلات، وكدست فوق بعضها البعض، وتجاوز عدد الضحايا الثلاثمائة ضحية، سقطوا على يد الشبيحة الغاضبين وإخوانهم من عناصر المخابرات والجيش "الوطني".
ولم تكتف قطعان الشبيحة من مجزرة البيضا، فتابعت تقدمها في اليوم الثاني من ذلك التاريخ باتجاه مدينة بانياس، وارتكبت مجزرة مروعة في حي رأس النبع، وتجاوز عدد الضحايا المائة ضحية، سقطوا بنفس الطريقة التي سبقهم بها أهالي قرية البيضا.
لا إخوة للسوريين
تبدو اليوم مدينة بانياس وقراها هادئة تنعم "بالأمان"، بيد أن خلف هذا المشهد الذي روجت له وسائل الإعلام "الوطنية"، سنعثر على أرواح من رحلوا، هائمة تبحث عن مأوى، وانكسارات من بقوا على قيد الحياة تتنامى في أعماقهم رغبة في أن يساق الجلاد إلى محاكمة عادلة وتشفع للضحايا بأن دمهم لم يذهب هدراً.
وإذا كنا نروي هنا تفاصيل مجزرة "البيضا" في الذكرى السنوية لوقوعها، فذلك لا بسبب خصوصية ما لهذه المجزرة، فأغلب المجازر التي ارتكبها نظام الأسد في طول البلاد وعرضها، تتشابه وتتقاطع في كثير من التفاصيل، بيد أنه تبدو أن هذه الذكرى مناسبة لإعادة التأكيد، على أن هذه المجازر المروعة التي ارتكبت بحق المدنيين العزل، والتي ما تزال ترتكب حتى هذه اللحظات، لعبت دوراً حاسماً إلى جانب باقي الممارسات الفاشية التي انتهجها نظام الأسد، في إيقاظ الوحش النائم في أعماق السوريين، وإنعاش الضغائن والرغبة في الثأر والانتقام، وهي مشاعر ما كان لها أن ترى النور لو لا فاشية نظام الأسد، الذي مثّل بالسوريين وعلى مرأى من العالم المتمدن، والذي اكتفى بمشاهدة موت السوريين وفنون قتلهم على شاشات التلفزة.