(تنشر هذه المقالة بالتعاون والشراكة بين موقع حكاية ما انحكت ونوى على موقع أوبن ديموكراسي)
للمرة الأولى منذ أكثر من خمس سنوات، تجمّع قاطنو غرب مدينة حلب التي مزّقتها الحرب لمشاهدة دوري كرة القدم يوم ٢٨ كانون الثاني ٢٠١٧. وتوافد مواطنون من جميع الأعمار لمشاهدة هذا الحدث في جوٍّ من الحماسة والإثارة.
أثنى البعض على عودة كرة القدم إلى حلب، وبالتالي، عودة الأمان والأمن إلى مدينةٍ كانت تنبض بالحياة. هتف الحاضرون وغنّوا على قرع الطبول وصوت الأبواق، واحتفلوا بحرارة عندما فاز فريق الاتحاد المحلي، وهو أحد أنجح الأندية في تاريخ كرة القدم السورية، على منافسه القديم القائم في مدينة حلب أيضاً، فريق الحرية بنتيجة ٢ – ١.
وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، لم يتمكن الفريقان من اللعب على أرض الوطن بسبب الصراع القائم. ولكن بعد ظهر ذلك اليوم، أُعطيت حلب تذكيراً حلواً ومُرّاً عن هويتها المفضلة: لمحة عابرة عمّا كان شكل الحياة الطبيعية التي ببساطة لم تعد موجودة.
وفي حين اقتنص الكثيرون هذه الفرصة ليتناسوا المصاعب التي عانوا منها خلال السنوات القليلة الماضية، كان من الصعب تجاهل الملعب المشوّه الذي تضرّر خلال حملات القصف، أو حقيقة تواجد شرطة مكافحة الشغب المدججّة بالسلاح، والتي كانت تقوم بدوريات في المدرّجات. حتى أرض الملعب، التي عادةً ما تتميّز باللون الأخضر الغنّي قد تحوّلت إلى بني قاتم. لم يصمد أيّ شيء في حلب ضد آثار الحرب.
وكان هذا الحدث الذي بُثّ على محطة التلفزيون الوطني محاولة للتأكيد على التحوّل الدراماتيكي في المشاعر المحلية بعد الهجوم الكبير الذي سمح للحكومة السورية باستعادة السيطرة الكاملة على حلب من الثوّار للمرة الأولى منذ تقسيم المدينة عام ٢٠١٢. وقامت وسائل الإعلام الحكومية بمقابلة اللاعبين والمدربين والمشجعين من كلا الفريقين، والذين أشادوا جميعاً "بعودة السعادة إلى قلوب سكان حلب"، في حين عُلّقت صورة كبيرة للرئيس السوري بشار الأسد فوق الحشود.
ومع ذلك، وفي حين احتفلت وسائل الإعلام الغربية مثل بي بي سي و ذا صن بعودة الرياضة إلى المدينة التي مزّقتها الحرب، تساءل عددٌ من الصحفيين المحليين عن نيّة الحكومة من هذه المناورة. بالنسبة للكثيرين، كان هذا عرضاً من قبل الحكومة السورية، جاء على حساب عشرات الآلاف من السوريين القتلى أو النازحين.
تحدّث الصحفي السوري المقيم في تركيا، ثائر، لشبكة الـ سي إن إن: "هذه حرب إعلامية لإظهار أنّ النظام قد استعاد مدينة حلب وجعلها آمنة... (بينما) أجبر (النظام) نصف سكان حلب على مغادرة منازلهم. جعلهم لاجئين في جميع أنحاء العالم. هذه أكاذيب. ومن المؤسف جدّاً أن نرى، بعد كلّ إراقة الدماء وجميع الشهداء الذين لقوا حتفهم، أنّ النظام يتصرّف وكأن شيئاً لم يكن، وهم يلعبون كرة القدم على أنقاض حلب".
في حين مثّل يوم ٢٨ كانون الثاني لحظة أعاد خلالها عددٌ من المواطنين إحياء بعض السعادة في أعقاب الدمار الشامل الذي أصاب المدينة، غير أنّها كانت أيضاً محاولة من قبل الحكومة السورية لاستخدام كرة القدم كأداة لتعزيز صورتها كـ"محرّر" المدينة.
وعلاوةً على ذلك، تحوّلت المباراة إلى أداة إلهاء سطحية لبقية العالم الذين كانوا سعداء لرؤية الرياضة في المناطق دُمّرت خلال الحرب، والتي شهدت صراعاً وحشياً، غير أنّها كانت عنصراً قديماً لدبلوماسية كرة القدم في أيدي الأنظمة الاستبدادية. فأصبح من الواضح جدّاً أنّ هذا هو آخر مثال لاستخدام الرياضة كأداة لممارسة النفوذ السياسي من قبل النظام السوري.
المسرح السياسي على أرض الملعب
على مدى السنوات الست الماضية، انحدرت سوريا تدريجياً إلى جحيم الحرب، فكان صراعاً دموياً من أجل الحرية بدأ خلال الربيع العربي عام ٢٠١١. كان الصراع متعدّد الجوانب، ضمّ قوات الأسد الحكومية ومجموعات المعارضة المختلفة، التي تنافست جميعها على السلطة مما أسفر عن دمار واسع النطاق وتجزّؤ مجتمعي. وقد تغلغل الصراع في نسيج المجتمع السوري نفسه وشمل جميع جوانب الحياة اليومية.
وطوال الصراع الذي كلّف حياة مئات الآلاف من المواطنين السوريين وشرّد ملايين آخرين، حافَظ بشار الأسد على سيطرته على الحكومة الرسمية. فكان يمارس نفوذاً على المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، والذي يشمل بطبيعة الحال السيطرة الكاملة على الرياضة السورية ودوري كرة القدم المحبوب.
ونظراً للقيود الجغرافية على أراضي الأسد داخل سوريا، فإنّ الدوري يتركز أساساً في مدينتي اللاذقية ودمشق. وعلى الرغم من محاولات الأسد المستمرة لتقديم بيئة رياضية مهنية موحّدة ومزدهرة على مدى السنوات القليلة الماضية، إلا إنّ كرة القدم السورية أمست ظلاً لما كانت عليه سابقاً.
"تنظر الحكومة إلى كرة القدم مثل الدراما السورية. الجودة لا تهمّ". هذا ما قاله الصحفي السوري الذي يغطي الجانب السياسي لكرة القدم، محمد فارس، "إنها سوق عمل للاعبين السوريين الذين لديهم أسر. إذا قمت بإيقاف الدوري، فهذه الأسر سوف تفقد مصدر دخلها. كما استخدمت الدولة كرة القدم لتقديم واجهة حكومة فعّالة، على الرغم من موت العديد من اللاعبين في ظلّ هذه الظروف. ومع ذلك عليك الذهاب للعب والتظاهر بأنّ لا شيء يحصل. إنّه نظام دكتاتوري، وهذه الأنظمة لا تهتم بما إذا كنت ستعيش أو ستموت لطالما أنك تحافظ على صورة الدولة".
وقد ساهم القصف الجماعي في مدينتي حلب وحمص على مدى السنوات القليلة الماضية في مقتل عشرات اللاعبين السوريين، بمن فيهم عضو في المنتخب الوطني دون سن السادسة عشرة. انضم عدد لا يحصى من لاعبي كرة القدم إلى قوات المعارضة. قُتل بعضهم في المعارك، بينما سُجن آخرون بسبب معارضتهم وتمرّدهم. حتى أولئك الذين دعموا فقط المفاهيم الديمقراطية التي طُرحت خلال الأيام الأولى للانتفاضة، سجنوا كخونة.
كلّ هذا أدى إلى تفتيت شديد داخل صفوف الدوري بسبب الانقسام الحادّ بين مؤيدي الأسد والمعارضين المقموعين. وفي نهاية المطاف، هرب المعارضون (مثل الرئيس السابق للمنتخب الوطني دون سن السادسة عشرة، محمد جادو) مع أسرهم في رحلات مروّعة عبر البحر الأبيض المتوسط للبحث عن ملجأ.
وقال جادو خلال مقابلة مع بليتشر ريبورت عام ٢٠١٥ إنّ "الحكومة السورية هدّدت بإنهاء مسيرتي ومعاقبتي إذا لم أحضر معسكر التدريب.. كما هدّدت بتصنيفي كهارب من الخدمة العسكرية ومقاضاتي إن تركت الفريق". وكان لاعبو كرة القدم السوريون، حتى المراهقين منهم، أهدافاً رئيسية بسبب صورتهم كرياضيين وطنيين.
وبصرف النظر عن الخوف المستمر من الحكومة السورية التي تراقب الجميع باستمرار، كانت هناك تهديدات من قوات المعارضة أيضاً. ويعتقد جادو أنّه لو سقط في أيدي الثوّار خلال فترة وجوده في الفريق لكان من المحتمل أن يموت، مشيراً إلى المرة التي علق فريقه في تبادل إطلاق نار بين الفصائل المتصارعة حيث "سقطت القذائف والقنابل حول حافلتنا". فطالما مثّل جادو الفريق الوطني، كان سيُنظر إليه على أنّه العدو. وقد تمّ بالفعل تفجير لاعبين آخرين من قبل "ثوّار" مسلحين.
بعيداً عن الفوضى الجيوسياسية التي ابتُلي بها الدوري السوري الممتاز، عانت هذه الرياضة تحت وطأة الصعوبات الاقتصادية والعقوبات التي تركت خزائنها فارغة. فأوقف الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) ٢،٢٥ مليون دولار من التمويل المخصّص لرابطة كرة القدم السورية خوفاً من أن يُستخدم لتمويل النشاط السياسي لحزب البعث أو للتمويل العسكري.
مع ذلك، وعلى الرغم من الحالة المزرية للدوري بحلول العام ٢٠١٧، ما يزال بشار الأسد يقدّم واجهة الدوري الناجح الذي يشعّ بالفخر والقومية السورية. فعودة كرة القدم إلى حلب، المدينة التي استعاد السيطرة عليها النظام في كانون الأول ٢٠١٦، هو ببساطة آخر مثال على مناورات النظام لاستخدام كرة القدم لأغراض الدعاية والترويج.
تاريخ كرة القدم مسيّس
لم تكن كرة القدم السورية مهنة مرغوبة ذات دخل تنافسي إلا بعد وصول بشار الأسد إلى سدّة الرئاسة في تموّز عام ٢٠٠٠. ففي حين كان حافظ الأسد (والد بشار) قد حاول تقديم الاستقرار المادي والمكانة الاجتماعية المرموقة للرياضيين الذين أبدعوا في الألعاب العربية والآسيوية والمتوسطية والأولمبية، إلا أنّه لم يكن كافياً لتحفيز الرياضيين الطموحين للتركيز على مهنة في مجال الرياضة. وعندما أصبح بشار رئيساً، استثمر بشكلٍ كبيرٍ في دوري كرة القدم، والتي اعتبرها فرصة لتعزيز صورة سوريا في الخارج.
"قبل بداية رئاسة بشار الأسد، كان من الصعب تسمية لاعبي كرة القدم السوريين بأنهم محترفون" قال فارس لـ" حكاية ما انحكت"، فـ "لم يُعطَ اللاعبون راتباً جيداً ولم يكن لديهم وجود إعلامي كبير. ولكن بين عامي ٢٠٠٣ و٢٠٠٤، أصبح اللاعبون بمرتبة النجوم وكان يُدفع لهم معاش جيد. تحسنّت نوعية الملاعب وبدأت أندية كرة القدم باستقدام لاعبين ومدربين أجانب. كان يتم استثمار المزيد من الأموال في اللعبة".
مع كل استثمار إضافي، مارس الأسد المزيد من السيطرة على لعبة كرة القدم. وأدى تأثيره إلى زيادة المحسوبية والفساد، كما ساهم في تفاقم التوترات الإثنية القائمة بين الأفرقة من خلفيات مختلفة. من الأمثلة البارزة على ذلك الاشتباكات التي وقعت عام ٢٠٠٤ بين مشجعي كرة القدم الأكراد والعرب خلال مباراة في القامشلي. واستجابت قوات الأمن داخل الملعب بإطلاق النار على الحشد الكردي، مما أسفر عن مقتل سبعة أشخاص. وتمّ اعتبار صفّ النظام مع المشجعين العرب على كونه شكلاً من أشكال التمييز الكثيرة ضد الأكراد السوريين، بعد سلسلة طويلة من السياسات القمعية الثقافية والسياسية.
ومع تصاعد الأمور في اليوم التالي، أحرق المتظاهرون الأكراد المكتب المحلي لحزب البعث وأطاحوا في وقتٍ لاحق بتمثال حافظ الأسد. أدت الأحداث الفوضوية في نهاية المطاف إلى نشر القوات العسكرية لإنهاء الانتفاضة الكردية. قُتل ما لا يقل عن ٣٦ شخصاً، معظمهم من الأكراد، وأصيب أكثر من ١٦٠ آخرين بجروح عندما أعاد الأسد النظام إلى المدينة بالقوة. ومنذ ذلك اليوم، لم يكن هناك شكٌّ في أنّ كرة القدم أمست وسيلة لبسط النفوذ السياسي.
وقال فارس لـ "حكاية ما انحكت" أنّ "كرة القدم هي رياضة مسيّسة، ولكنها مسيّسة بشكلٍ خاصٍ داخل سوريا". وأضاف: "إنّ صورة الرئيس كانت دائماً معلّقة فوق الحشود في الملاعب، وعلى الفرق الفائزة واللاعبين الفائزين أن يُظهروا احترامهم لرئيسهم في العلن".
ومع ذلك، فإنّ استخدام الأسد كرة القدم للدعاية والترويج تحوّل بشكلٍ كبيرٍ بعد انتفاضة ٢٠١١ في جميع أنحاء سوريا. فخوفاً من الوحدة الجماعية والتجمّعات الكبيرة، تمّ تعليق موسم كرة القدم ٢٠١٠ - ٢٠١١ بينما قامت السلطات الحكومية بإلقاء القبض على أيّ رياضي يظهر أنّه جزء من المعارضة التي كانت قد شُكّلت حديثاً. وتعرّض العديد من اللاعبين للتعذيب والقتل في سجون النظام.
"أعتقد أنّ النظام السوري مُرتعب من كرة القدم" قال فارس. "وهذا هو السبب لتعليق الحكومة الدوري خلال الأيام الأولى من الانتفاضة في عام ٢٠١١. لم تخش الحكومة أعمال الشغب في تلك التجمّعات، بل كانت تخشى التنظيم".
وعلى الرغم من دخول الصراع في عامه السادس، ما زال الأسد يستخدم كرة القدم لتحقيق مكاسب سياسية. ففي عام ٢٠١٢، استضاف فريق كرة القدم الوطني السوري في قصره على جبل المزّة وهنّأهم على تمثيل سوريا بفخر وفوزهم ببطولة اتحاد غرب آسيا لكرة القدم. وتمّت مكافأة اللاعبين بإعطاء كل منهم شقة ووظيفة حكومية ومبلغ قدره ١٥٠،٠٠٠ ليرة سورية (ما يعادل ١،٤٠٠ دولار أمريكي في ذلك الوقت).
وضمّ الاحتفال حارس المرمى مصعب بلحوس القاطن في حمص، والذي اعتقل للاشتباه به في "إيواء مقاتلي الثوّار". فظهر الأسد كزعيم متسامح على استعداد لتخطّي تجاوزات الماضي، وذلك لتعزيز شخصه من خلال الرياضة.
نظراً لاستخدام الأسد المتواصل لكرة القدم كسلاح لممارسة نفوذه، فليس من المفاجئ أن تصبح حلب أحدث موقع له للعب مناوراته السياسية هناك. أبلغت وسائل الإعلام الدولية بسعادة عن عودة كرة القدم إلى حلب بعد تدميرها، وكيف شكّل الدوري المحلي تحوّلاً جذرياً في المنطقة.
هذه التقارير التي تجمّل الواقع هي في الحقيقة غير صحيحة، بل ساعدت الأسد بتقديم صورة الزعيم الذي تمكّن من جلب السعادة إلى مدينة تاريخية بعد تحريرها من أعدائه. وفي حين لم يتم لعب أيّة مباريات أخرى في حلب منذ كانون الثاني، إلا إن الدوري ما يزال دليلاً على مدى قوة تأثير مباراة استراتيجية واحدة على صورة دكتاتور.
(الصورة الرئيسية: مباراة كرة القدم بين فريق كرة القدم الوطني الأردني وفريق كرة القدم الوطني السوري في ملعب شهيد داستجيردي، طهران (على أرض محايدة). تصفيات كأس آسيا لعام ٢٠١٥ – ١٥/٨/٢٠١٣/ جافيد نيكبور / سيسي بي٤.٠، عبر ويكيميديا كومنز)