لم يكن يتوقع ابن مدينة دير الزور النائمة على حضن الفرات الفنان "أنور العيسى" ( مواليد١٩٧٥)، الذي كان يلهو وهو طفل بقلم الرصاص وألوانه المائية، متعلّما الخطوات الأولى للرسم والخط، أنه يوما سيرسم بالدم والدمع، وأن رفيق طفولته ( قلمه الرصاص) سيتحوّل بيده إلى رصاصة معنوية يوّجهها للطغاة والقتلة الذين يخرّبون بلاده، حيث أصبحت بعض تصاميمه جواز سفر المعاناة السورية للعالم، وصوتهم الذي يصل عبر اللون والصورة، فبعد "مجزرة الكيماوي. قمت بتصميم عدة أعمال. كان من بينها عمل مميز باسم "رضاعة" انتشر بشكل عجيب بعدة صحف عربية وغربية وتناقلته جميع الصفحات. حتى أن قناة فرنسية ناطقة بالعربية قامت بعمل تقرير مقتضب عنه وعن بعض أعمال لفنانين سوريين".
الفنان الذي مرّ خلال تجربته بكل الألوان والأنواع من الرصاص والمائي إلى أنواع أخرى مثل ( باستيل. الوان خشبية. زيتية. فلوماستر)، انتهى به المطاف أوائل التسعينات إلى عالم الكمبيوتر الذي يعتبره فتحا جديدا في حياته، خاصة بعد أن تعرف على "برنامج الكورل درو. ومنه بدأت مشواري الفني. أعجبت بالكمبيوتر حيث أن كل أدواتي موجودة فيه. ثم دخلت لعالم التصميم الطباعي في ذاك الحين. وبدأت التحديات في تعلم فنون التصميم وأشكالها وسبل تنفيذها. وما زاد المتعة والتحدي هو برنامج الفوتشوب. هذا البرنامج الذي أشبهه بالبحر المليء بالكنوز" كما يقول لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold".
يعتمد الفنان في تصاميمه على ما يسميه "النمط الواقعي" حيث يعمل على تغيير "ملامح الصورة إلى صورة قد رسمتها بمخيلتي قبل البدء بالتصميم. دائما أبحث عن الفكرة ولا أكترث للتنفيذ. حين تكون الفكرة مضيئة بمخيلتي. قد لا يستغرقني دقائق لتنفيذها".
الواقعية هذه تبرز بشكل واضح في لوحاته التي تستند إلى حدث ما، وكأن الألم السوري يفجر في داخله غضبا كبيرا، فيحوّله إلى تصميم حافل بالسخرية والوجع في آن، وهو ما نلمسه في تصاميمه الساخرة من الانتخابات الرئاسية، كما في تصميم يحمل عنوان "انتخبوا إل ث" الذي يسخر فيه من عدم قدرة الدكتاتور على نطق حرف (السين) بشكل صحيح، في حين يذهب تصميم "نيرون"، مشبّها ما يحدث في سوريا بروما التي أحرقها نيرون، من خلال لوحة لخريطة سوريا عليها عيدان ثقاب وحولها قرد ينتظر لحظة إشعال النار فيها.
الفنان الذي تأتي لوحته حسب "الأوضاع في سوريا" أنجز كما هائلا من اللوحات، لأنه "عند كل حادثة مؤلمة يولد عمل فني. كل ما تزايدت الأحداث تزايدت الأعمال"، ولهذا نرى لكل حدث تصميم، بحيث أن أعماله من حيث لا يدري أصبحت توثيقا تاريخيا للثورة عبر التصاميم، بحيث أنها أصبحت أدلة يمكن للمؤرخين يوما أن يعتمدوا عليها من جهة، كما أنها أدلة ضد دكتاتورية تعمل على كتابة تاريخ القوة والدبابة بدلا من تاريخ البشر والمهمشين والموجوعين الذين تخلّد هذه التصاميم آلامهم وأوجاعهم وأحلامهم بطبيعة الحال.
للفنان حكايته مع الثورة التي تعكس حكاية جيل نما وترعرع في ظل الخوف، إذ ما إن بدأت الثورة حتى بدأ الفنان الذي يعيش في الخليج بالكتابة على الفيسبوك متفاعلا من خلال لوحته وتصاميمه مع ما يجري في بلده، إلى أن بدأ الخائفون يصرخون بوجهه : "اسكت. اصمت. أنت عايش برى. نحن نعيش بالداخل"، الأمر الذي دفعه لأن يلغي صفحته على الفيسبوك وينشأ صفحة باسم مستعار لينشر عليها " ما أقوم به من أعمال فنية. حيث انتشرت أعمال كثيرة لي بتوقيعي الوهمي الذي ابتكرته. وهذا هو أحد أسراري التي لا يعلمها أحد. أشعر بالسعادة كلما ظهر أمامي أي من هذه التصاميم. ولهذه اللحظة لم أصرح لأحد عن هذه الأعمال. ولن أصرح عنها ما حييت."
إلا أن الفنان لم يطق هذا الغموض والتخفي خلف اسم مستعار، فما إن بدأ "العمل العسكري في سوريا وبعد اجتياح الجيش لكافة المحافظات وبدأ تساقط الشهداء من هذا الشعب العظيم بشكل متزايد. قررت بأن أعود لنشاطي باسمي الحقيقي وبدأت أضع الاسم الذي أحببت وهي كلمة anwarts، وهي عبارة عن مزيج كلمتينanwar +arts".
الفنان الذي حبا وترعرع على فرات الماء، ينتظر اليوم أن يتوقف "حمام الدم في بلادي"، آملا أن يعود يوما ليضع قدميه في ماء طفولته ويرسم قمحا وشجرا وقطنا بدلا من دماء الحرية النازفة من لوحة لا تتوقف عن السخرية وعن الحلم أيضا.