بدقة عالية؛ يصوِّر نشطاء داريا سقوط البراميل المتفجرة على الأحياء السكنية، حيث نشاهد كُتل الدخان الضخمة التي لا تترك تحتها إلا الخراب، دقة التصوير تتطابق مع ذاكرة دقيقة للسوريين تجاه داريا، وهي أنها محاصرة منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2012، فالمدينة التي كان يقطنها 350 ألفاً، كانت من أوائل المدن المنتفضة عام 2011، وتميزت بنشاطها السلمي المنظَّم، وبتضحيات أبنائها في سبيل إسقاط النظام.
لكن داريا الأمس، كسائر المدن السورية، ما عادت داريا اليوم، فعدد سكانها تضاءل ليصبح 8300 نسمة فقط، مع ذلك، ما زال هؤلاء يرفضون أن يتحولوا إلى أرقام في إحصائيات الأمم المتحدة، فلكل من ضحاياهم قصة مختلفة من الحلم بالحرية والألم والجوع والتحدي، في يوم واحد فقط، 25/02/2016، سقط ستة وثلاثين برميلاً متفجراً على المدينة، بالإضافة إلى ستة صواريخ أرض أرض، وعشرات قذائف الهاون، نذكرها هنا أرقاماً، في حين أننا لو أردنا أن نسرد الحكاية، فسنجد أن لكل حجر دمَّرته هذه المتفجرات ذاكرة مع عنب داريا وهوائها ومائها.
يوم الأحد 21/02/2016، تجمع مئتان من أبناء المدينة، جميعهم من النساء والأطفال، حسبما صرح "حسام عياش" عضو المجلس المحلي في داريا لـ(حكاية ما انحكت)، مطالبين بفك الحصار عن ألف عائلة انقطعت عنها الخدمات الأولية، الكهرباء والأدوية والمواد الغذائية، ففي الأشهر الماضية، وبينما تم إدخال مساعدات الأمم المتحدة إلى الأحياء والمدن المحاصرة، بعد عدة اتفاقيات عُقدت بين المعارضة والنظام، بقيت مدينة داريا وحدها دون أية مساعدة، هكذا أصبحت مدينة مهملة إعلامياً، في حين أن مضايا على سبيل المثال أحدثت صدى عالمياً بسبب حالات الوفيات المباشرة التي سببها الجوع، لكن أهالي داريا يموتون بشكل غير مباشر، لاسيما الأطفال، كما أكدت إحدى المتظاهرات للمجلس المحلي، وذلك بسبب نقص الأدوية وانقطاع الحليب، واقتصار غذائهم على الماء المغلي مع قليل من الرز.
داريا التي قُصفت بـ 6600 برميلاً متفجراً منذ بداية الحصار، حسب المركز الإعلامي للمدينة، والتي تحولت معظم أحيائها إلى أطلال لتذكِّرنا بمشاهد الحرب العالمية الثانية، تم استثناؤها من اتفاق الهدنة المزمع بين الولايات المتحدة وروسيا(الآن الهدوء يعم داريا، دون معرفة إن كانت الهدنة شملتها أم لا)، وذلك برفض من النظام الذي يكثِّف عملياته العسكرية بشكل لم يسبق له مثيل منذ أربعة أشهر، بعد أن قام بفصل داريا عن جارتها معضمية الشام كما أضاف حسام.
في الشارع الذي احتجَّ به المدنيون تظهر المباني المدمرة بالكامل، لكن مع ذلك لم يزل هناك من يتظاهر ويرفع لافتة كُتب عليها "طعامنا مئة برميل يومياً، هذه وجبتنا الأساسية"، سخريةً من العالم أجمع، و"نحن لسنا أرقاماً، نحن مستقبل سورية، أنقذونا من الموت والحصار، أنقذوا مستقبلكم"، لأن أبناء داريا ما زالوا مؤمنين بالشعب السوري الذي فككته الحرب، فأي جزء يُباد يعني أن الشعب بأكمله قد انتهى إلى الأبد، وهي رسالة إنذار أخيرة من هذه المدينة التي يعاني أطفالها من نقص شديد في التغذية، ما سيؤثر على نموِّهم وقدراتهم الجسدية والذهنية في المستقبل.